رأي

عن نسوية الصالونات وأصوات النساء ذوات الإعاقة

الأحد 13 آذار 2016
women disability

حين تقدّمت للعمل في جمعية نسوية قبل التحاقي بالجامعة، كان سقف توقّعاتي منخفضًا. فقد كنت أصغر المشتركات وأقلهن خبرةً ومجرّد دعوتي إلى المقابلة كان أمرًا مفاجئًا. إذن، ما شكّل صفعة قاسية لكبريائي لم يكن الرّفض بحد ذاته، بل الطريقة التي تعاملت بها ممثّلات الجمعية النسوية معي أثناء المقابلة.

كان السؤال الأول الذي طرحنه هو «لماذا لم تذكري في سيرتك الذاتية أنك تعانين من إعاقة؟». حاولت تجاوز الإهانة المتمثّلة بالسؤال والتي ينضح بها إلصاق صفة المعاناة بالإعاقة الجسدية، واستفضت بالشرح والكلام وكنت واثقة أنني «أفحمتهنّ»، ولكن سرعان ما أدركت سذاجة تلك الثّقة بعد سماع السؤال الثاني من المديرة: «ولكن هنالك جمعيّات مخصصة لأصحاب الإعاقة وللمكفوفين تحديدًا، أليس من الأفضل أن تتقدمي للعمل في إحداهن فالعمل هنا سيكون صعبًا عليك؟».

كان في نبرتها مزيج من الشّفقة والاستهجان. الشعوران قد يبدوان متناقضين للوهلة الأولى، ولكن تجربتنا الحياتية تثبت أنهما منسجمان تمامًا، فالشّفقة هي محاولة بائسة لتلطيف الإهانة وتغليفها بتعاطف إنساني كاذب لم نطلبه أصلًا.

لم تكن تلك المرّة الأولى التي أواجه فيها هذه الخلطة من الازدراء والشّفقة والإقصاء بسبب إعاقتي، ولكنني لم أتوقّع أن تكون هذه ردة فعل نساء يدّعين قيادة مسيرة التغيير وإنصاف المرأة.

كيف يمكن لجمعية تدافع عن حقوق المرأة وتحرّرها وتكافح التمييز ضد النّساء أن تقصي، بكل فجاجة وفظاظة، امرأةً فقط بسبب إعاقتها؟ لماذا يتمّ حشرنا دائمًا في بوتقة الإعاقة والافتراض بأن نشاطنا محكوم بالتقيّد بحقوق أصحاب الإعاقات؟ كيف تستقيم إدانة الإقصاء الممنهج الذي تتعرّض له النّساء من الفضاء العام مع تبرير إقصاء المرأة ذات الإعاقة وتحديد خياراتها عوضًا عنها والتعامل معها بالأبوية ذاتها التي تزعم المؤسسات النسوية مواجهتها؟

«ألستُ امرأة» كان السّؤال الذي طرحته سوجورنر تروث خلال خطاب ألقته في مؤتمر نسوي في ولاية أوهايو في العام 1851. نشطت سوجورنر تروث (1797-1883) في النّضال لإنهاء الرّق والدفاع عن حقوق النساء السوداوات، بعد انعتاقها في العام 1826 مع طفلتها الرّضيعة واستعادة ابنها من والده الأبيض في العام 1828.

صاحبة الإعاقة ليست امرأة بالنسبة للكثير من الجمعيات النسوية التقليدية التي تسيطر النساء البرجوازيات والمتعلّمات وسليمات الجسد على إدارتها وتحديد أهدافها

شكّل كفاحها المشترك ضد العبودية والذّكورية في آنٍ معًا جوهر سّؤال «ألست امرأة» الذي وجّهته للنساء البيضاوات في الشمال كما للرجال السّود في الجنوب. فالنّساء البيضاوات فصلن النضال للمساواة بين الرجال والنساء عن النضال لإنهاء العبودية، والكثير من الرّجال السّود يطالبون بتحرّرهم أنفسهم وينفونه عن النّساء بحجة افتقادهن الذّكاء أو القدرة الجسدية أو حاجتهن للمساعدة، مساعدة لم تحظ بها تروث يوما وهي تحرث وتقود العربات وترى أطفالها يباعون في سوق النّخاسة.

«ألست امرأة» تساؤل لا يقتصر على النّساء السّوداوات، بل هو لسان حال كل امرأة تخوض نضالاتٍ تقاطعيّةً نابعة من تداخل أشكال القمع والاضطهاد الذي تواجهه والذي قد يشمل الطبقة والعرق والميول الجنسي والقدرة الجسدية والذهنية.   

نعم، صاحبة الإعاقة ليست امرأة بالنسبة للكثير من الجمعيات النسوية التقليدية التي تسيطر النساء البرجوازيات والمتعلّمات وسليمات الجسد على إدارتها وتحديد أهدافها، لتصبح بؤرة إضافية للتّهميش والتّمييز المتّشح بخطاب حقوقي ونسوي. العنف الذي يناهضنه لا تلوّثه تعقيدات العنف الذي تتعرّض له امرأة ذات إعاقة جسدية أو ذهنية، والمرأة التي ينتصرن لحقوقها أحادية الهويّة تكاد تشبه ديكور مكاتبهن.

في أحسن الأحوال، قد تكون المرأة ذات الإعاقة رمزًا للإرادة والتحدّي وتستخدم قصّتها بشكلٍ دراميّ مبتذل، غالبًا ما ترافقه موسيقى حزينة، للحديث عن قوة الإرادة. ولكن سرديّة التغلّب هذه تعيد زجّنا في خندق الإعاقة العاجز عن الاعتراف بأنوثتنا وإدراك تناقضاتنا وتقاطعية هوياتنا الاجتماعية والمصر على التّعامل معنا كتماثيل محنّطة.

نسوية تقاطعية

ساهم تطوّر النظريّة النّقديّة ومفهوم النّسوية التّقاطعيّة في كسر الهيمنة البيضاء على الخطاب النسوي والنظر إلى الجندر كتركيبة اجتماعية -لا بيولوجية- تتقاطع مع مكوّنات وتركيبات ثقافية واجتماعية وهويّات متشعّبة لتشكّل تجارب مختلفة تطيح بنموذج «المرأة» الثابتة التي يتركّز نضالها في المساواة وتكريس امتيازات العرق والطبقة والمستوى التعليمي.

ورغم أن المواضيع المتعلّقة بالإعاقة لا تزال على هامش النسوية، سواء في النظرية أو في الممارسة، يُحسب للنظرية النسوية النّقدية والتّقاطعية أنها كانت الأقدر على مناقشة الإعاقة من منظور نسوي وصياغة ما يمكن تسميته بنظرية الإعاقة النسوية.

تركّز الفيلسوفة الأميركية سوزان وندل على أهمية الرّبط بين الفكر النّسوي والإعاقة في معظم كتاباتها خاصة في كتابها «أجساد مرفوضة» ومقالها «نحو نظرية نسوية للإعاقة». ولا تنبع أهمية هذا الربط، بحسب وندل، من النسبة العالية للنساء ذوات الإعاقة فحسب، أو من حقيقة أن أيًا منا معرّضة للإصابة بإعاقة ما في مرحلة معينة من حياتها. بل أيضًا لأن اضطهاد الأشخاص ذوي الإعاقة مرتبط بشكل وثيق بالاضطهاد الثقافي والاجتماعي للجسد. فالإعاقة ليست معطى بيولوجيًا، بل هي تركيبة اجتماعية مؤسسة على واقع بيولوجي، كالجندر تمامًا.

والنساء، كالمعاقين، يتعرّضن للتّبخيس والإدانة بسبب عدم انصياعهن للتّنميطات الاجتماعية والبيولوجية عن الجسد، وبالتالي يتم التشكيك بقدراتهن المعرفية والعاطفية والجسدية. الحجج ذاتها التي تساق لتبرير اضطهاد المرأة، من قبيل أن الطبيعة جعلتها هشة ومتخلفة عن الرجل، تستخدم لاضطهاد الأشخاص ذوي الإعاقة.

تذكر الكاتبة الأمريكية سيمي لينتون في كتابها «ادعاء الإعاقة» أن دراسة الإعاقة توّفر لنا منظورًا لفهم أفضل للمجتمع وللتجارب الإنسانية وللاختلاف، ولذا فإن دمج نظرية الإعاقة بالنظرية النسوية يفضي إلى فائدة مشتركة لكليهما. فالنظر للإعاقة بعيون نسوية يُخرج الإعاقة من النّقاش التقليدي حول الإتاحة والحقوق والتّعامل الطّبي البحت معها على أنها مرض أو مشكلة صحّيّة.

تشرح الباحثة الأمريكية روز ماري غارلاند في مقالها «دمج الإعاقة وتطوير النظرية النسوية»، إن النظرية النسوية للإعاقة تعالج مواضيع متشعبة كثيرة تتعدى ما هو مألوف طرحه لدى مناقشة الإعاقة، كسياسات الجسد والمظهر، وتصنيف النّساء كمجموعة واحدة متجانسة، ومواجهة تحويل الجسد إلى مادة طبية، وامتيازات «الحياة الطبيعية»، والتعددية الثقافية والجنسانية، والتركيب الاجتماعي للهوية. تحرّر النّظرية النّسوية التّقاطعية نضال ذوي الإعاقة من قيود الليبرالية والخطاب الحقوقي كما تحرّرنا دراسات الإعاقة من خشية الاعتراف بهشاشتنا ومن الامتثال للجمال المعياري وفرض رقابة على أجسادنا.

ولأن الإعاقة تعبّر عن رواية ملفّقة للجسد، تصيغها السياقات الاجتماعية والثقافية المختلفة وتتباين تعريفاتها، فإن دراستها من منظور نسوي، ودراسة النسوية من خلال فهمنا للإعاقة، تقودنا إلى تفكيك مفاهيم شائكة مثل الاستقلال واللاتبعية والمساواة والفردانية والطبيعي والآخر.

اضطهاد الأشخاص ذوي الإعاقة مرتبط بشكل وثيق بالاضطهاد الثقافي والاجتماعي للجسد. فالإعاقة ليست معطى بيولوجيًا، بل هي تركيبة اجتماعية مؤسسة على واقع بيولوجي، كالجندر تمامًا

البعد الجديد الذي تضيفه دراسة الإعاقة للنظرية النسوية هو الأداء المختلف الذي تقوم به الأبوية والذّكورية تجاه النساء ذوات الإعاقة. ففي الوقت الذي نقاوم فيه تسليع جسد المرأة ونرفض التّعامل معها على أنها مجرد مادة للجنس والشهوة، يتم التعامل تقليديًا مع النساء ذوات الإعاقة، خاصة الإعاقات المرئية منها، على أنهن عديمات الشهوة وغير صالحات أو مؤهلات لممارسة الجنس والزواج والإنجاب وتكوين أسرة، على عكس الرّجل صاحب الإعاقة الذي تسارع والدته في مجتمعنا إلى تزويجه، فالرجل «لا يعيبه شيء».

غالبًا ما تُحرم النّساء ذوات الإعاقة من الامتيازات النسبية المنوطة بالأنوثة المعيارية. قد تؤدّي هذه النظرة إلى نتائج إيجابية، كأن تتحرّر النساء ذوات الإعاقة من الضغوطات الاجتماعية وعبء التوقّعات والحث على الزواج وتُمْنَحن هامشًا أوسع من الحرية بالقدر الذي تمنح فيه الطفلة حرية اللعب في الحارة وركوب الدراجة وتُسحب منها هذه الحرية عند بلوغها.

ولكن هذه النتائج الإيجابية نابعة من ممارسة قمعيّة تنظر إلى جسد المرأة ذات الإعاقة على أنه جسد قاصر يفتقر إلى الرغبة وعصي على الجذب والانجذاب. الحرية التي قد تنالها المرأة ذات الإعاقة في مساحات معينة تكاد تضمحل أمام حالة الطوارئ الدائمة التي تفرضها المنظومة الأبوية ويغذّيها الخوف المفرط ويشرّعها الهوس بالحماية.

إن النظرية النسوية للإعاقة تعيد تشكيل علاقتنا مع الجسد وتحررها من القوالب الجاهزة والأنماط السّائدة، ومن اعتبار الجندر فئة واحدة ومتجانسة، لتحيلنا إلى أطروحة جوديث بتلر بأن الجندر مرتبط بالأداء والارتجال وليس تصنيفًا ثابتًا أو أساسيًّا، ما يضاعف من مساهمة هذه النظرية في تطوير خطاب نسوي يقاوم كافّة أشكال القمع والإقصاء.

أما النسوية الممتثلة لإملاءات المركز والتي تغلق بابها أمام تجارب النساء ذوات الإعاقات وتنأى بنفسها عن نضالات الهوامش وتسعى لتكريس جنسانية معيارية وتتشبّث بامتيازات الطبقة والقدرة فهي نسوية صالونات، ستظلّ حبيسة المكاتب والمؤتمرات ولن تتمكّن من إحداث أي تغيير اجتماعي جذري.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية