تدوينة

حداد الوعي: في الفقد والرثاء

الأربعاء 09 كانون الثاني 2019
لوحة «موت سقراط» للرسام الفرنسي جاك-لوي دافيد، 1787. ويظهر فيها سقراط في يمين الوسط قبيل شرب السم، وأفلاطون مطرقًا رأسه إلى اليسار.

سألتني الطبيبة بمَ يمكن أن تساعدني. قلت لها إن حياتي ليست ضاغطة جدًا، وإن نفسيتي جيدة حاليًا، لكنني مررت بعدة أحداث صعبة منذ مدة، وأنا على وشك البدء في مشروع صعب نفسيًا في عملي وأعرف أن علي أن أحصل على المساعدة لمسايرة حياتي. إجابة نموذجية للناس المتحضرة ولشخص يعرف قدرًا لا بأس به عن المرض النفسي. لم أقل لها إنني جئت مساقة بعد إلحاح وتهديد أقرب أصدقائي مرة بأن يأخذني عنوة للطبيب، ولا أنني مررت بنوبة اكتئاب عنيفة انتهت قبل مجيئي إليها بأسبوع. وحين سألتني عن «الأحداث الصعبة» تحدثت بأريحية عن مديرتي المستغلة، وعن ملامح من مشاكل عامة، وعن أنني، بشكل مقتضب تمامًا، فقدت صديقتي المقربة بالانتحار.

قلتها بصعوبة وبصوت مهزوز. مرّت ستة أشهر على ذلك، وكانت تلك المرة الأولى التي أتحدث فيها عن الأمر صراحةً، وبدا حديثي يائسًا ومثيرًا للغضب حين مر على أذني. قالت الطبيبة: «شكرًا إنك قولتيلي، وتقدري تقولي اسمها لما تكوني مستعدة». أعرف أن الصحيح هو أن أتحدث، لكنني شعرت بالغرابة وبالغضب والسوء لأنكِ تخصينني وحدي.

انتبهت مبكرًا لمدى صعوبة الحديث عن الانتحار حين قال أحدهم إن أصدقاءنا القدامى مترددون في حضور الجنازة لأنهم غير متأكدين من سبب الوفاة ولا يجوز الصلاة على المنتحر. رغم عدم اهتمامي بالأصدقاء ولا بالحضور، كان ذلك قاسيًا وفجًا  إلى الحد الذي ظننته نكتة فعلًا. في ظرف آخر، كنت سأكلمهم بنفسي لأمنعهم من الحضور، لكنني لم أكن قادرة على تحمل أن يتنكر لنا الدين. لم أكن قادرة على تحمل أي قسوة اضافية مهما كنت أحتقرها، ولا الشعور بغضب إضافي مهما كان ضروريًا. قلت له أنها حادثة، وصمتت. ومنذ حينها وأنا أعاقب مرتين؛ مرةً بغيابك، ومرةً بعيشي له وحيدةً.

أدركت ذلك حين كنت بجوارك في المشرحة ورأيت أكثر من تكرهين ولم أشعر بالغضب؛ أدركت أنه لا معنى للوم أمام فراغ الموت. وعرفت وأنا أمرر يدي على جسدك أن حياة من تحبين أهم من الحقيقة ومن العدل، وأن حماية أهلك من جزء من المعاناة أهم من محاربة وصمة الانتحار، فأخذت سرك في حقيبتي ثم حادثت الشاهد الوحيد على القصة: لنتفق على الإنكار.

لا يتعلم الناس التعزية، ربما لأنها استثناء مربك، لذا، لم يهتم معظم من حادثوني باختيار كلماتهم. قال صديقنا الأزهري نكتة مؤذية عن عذاب القبر ونحن على بعد مترين من قبرك ظلت تلاحقني أسابيع. وقيل لي في محاولة للمواساة أنك تشبهين الفتى الذي قتله الخضر لأنه شاق على أبويه، وأن موتك قد يكون أمرًا جيدًا في النهاية. حاولت فعلًا تصديق ذلك لشدة غضبي منكِ. صرخ في شخص فيّ في الأسبوع الأول أن عليّ أن احترم قرارك وأن أتخطى الموضوع. كنت أعلم أنها كانت فكرة غبية، لكنني لم أكن نفسي، لذا، صدقت أنكِ تخليتِ عني فعلًا. هددتني صديقة أنني إن غرقت في الحزن فستتعذبين، فظللت شهورًا طويلة أبحث في الميتافيزيقا كأنني أستعيد أسئلة الإيمان مرة أخرى. حاول شخص آخر يحاول الاتصال بي شهورًا ليسألني إن كان في الأمر شبهة جنائية. ومهما كان ذلك عبثيًا، فإنني تمنيت سرًا لو كان هنالك من ألومه على الأقل. وسألني كل الناس: لماذا؟

وقفت معرفتي بالفقد وألفتي به عائقًا أمامي للحصول على الدعم. حادثني عدد من الناس في الشهر الأول للاطمئنان، فكنت أرد بأن «الحادثة» حدثت وأنا في حالة نفسية واجتماعية مستقرة، لذلك أتعامل بهدوء وصبر مع الموضوع وأعطيه وقته. أنا حزينة بالشكل الذي يتطلبه حداد صحي، وغير منهارة بالدرجة التي تجعل الآخرين يخافون عليّ: معادلة أخرى يقبلها الناس المتحضرون. أدرك بمَ أمر، أستطيع فهمه بأثر رجعي على الأقل، أو هكذا هُيئ لي. لذا، ظن الجميع أنني أعرف ما أفعل.

لكنني في الوقت ذاته كنت بحاجة ماسة للدعم، ولأشخاص آمنين يمكنني الشعور بجوارهم بأنني لم أفقد كل شيء. كنت بحاجة للتواصل، وللتذكير المستمر بأنني لم أكن صديقة سيئة، بأنه لم يكن هنالك ما يمكن فعله، بأن هنالك مخرجًا، وإن بعيد، من هذه الخسارة. كنت ولا أزال أملك دوائر دعم غير مشروطة، لكن الفقد شعور ضخم يلقي بظلاله على الحياة بأكملها. قرار الانتحار فيه قدر مروع من العنف الموجه للذات يأخذ المرء قدرًا منه إن كان على مقربة كافية. وأنا يا حياتي لم أنجح بعد في تخطي الرعشة في جسدي كلما فكرت في مدى تألمك وقتها. مر للآن قرابة عامين، وكلما حدثت طبيبتي عن شعوري المستمر بالتلاشي تسألني عنكِ. كل شيء يعيدني إليكِ، حتى فقدت القدرة على التفرقة بين خسارتك وخسارة نفسي.

معرفتي بالاضطرابات النفسية أيضًا كانت عائقًا ذاتيًا أمام إعطاء المشروعية لفرادة التجربة، وعائقًا أمام شعوري بالأحقية في طلب المساعدة. كل شعور عنيف أمر به يمكنني أن أضعه في إحدى بنود الحداد الخمس (إنكار – غضب – ذنب – اكتئاب – تقبل): كل حلم سيء، كل مرة فقدت فيها إحساسي بالمكان وأنا أسير لبيتي، كل مرة فاجئني شيءٌ منكِ فشعرت بأحد يلكم قلبي، كل مرة انفجرت في بكاء مفاجئ دون سبب، كل نوبة غضب صرخت فيها أن تتركيني في حالي، ثم شعوري المزري بالذنب، لأحاول الاعتذار منك فلا تجيبين، فأغضب مرة ثانية. كل تلك المشاعر يمكنني أن أعقلنها وأضع لها تفسيرًا علميًا. لكن المعرفة لا تقي من الشعور ولا تقلل من حدته ولا حتى تحيط به فتمنعه من التسرب لباقي جوانب الحياة. تذكير نفسي بأن الذنب والغضب جزء أساسي من الفقد لم يجعل تخبطي بينهم أقل عنفًا. وعقلنا الباطن أذكى منا، يسبقنا دومًا بخطوة، لأنه أكثر قدرة على المراوغة، ففي الوقت الذي ظننت فيه أنني «أعرف ما أمر به»، كنت بشكل غير واع أطرد الناس من حولي وأرفض أن يتدخل أحد في صداقتنا. أرفض أن أقصّ على شخص ثالث شجارنا الأخير، وأرفض أن يتدخل أحد في خصامي الحالي معك، وأرفض أن أقول صراحة أنني في موقف ضعف وأختبر أشياء لم أكن أعلم بوجودها، فضلًا عن معايشتها بشكل لحظي.

«وأنا مثلك يومًا ما
على أرض أقل مجدًا
سيقتلني حبي
سيقتلني حزني».**

كان اتفاقي مع نفسي هو أن أضعكِ في حيز الكتابة، أن أمر بمراحل الحداد عليك على الورق، كأنني إن خصصت لكِ جزءًا من وقتي لن أفاجأ بك، كأننا في شجار طويل ترفضين فيه الحديث إليّ، وعدا ذلك، فأنا مستمرة في حياتي. لم أرتدِ ملابس سوداء، ولا شاركت في أي من مراسم العزاء وقراءة القرآن والتبرعات والدعاء. ذهبت للعمل اليوم الذي يلي الدفن، ولحفلة غنائية بعدها بيومين، واتخذت سلسلة قرارات لا تقول شيئًا إلا أنني سأستمر في حياتي، أما غيابك فلم أوقّع عليه. وظلت هذه المعادلة قائمة لمدة، إلى اللحظة التي وقعت بين يدي رسالة قديمة وحانية منكِ، وصدقيني لم أختبر قبلًا كيف يمكن أن يخلف قدر من الحب كل هذا الألم. سطر واحد بخط يديك كان كفيلًا بهدم كل دفاعاتي وجرّي للمربع صفر.

رغم قسوة غضبي منك، عرفتُ حين خِفت كيف طورنا الغضب كحيلة دفاعية أمام الفقد، لأنني أحتمل غضبي منك ولا أحتمل عجزي أمام ألمك، وأفضّل أن تكوني في كامل قسوتك وأنت تديرين لي ظهرك، على أن أراكِ في بئر ولا أستطيع أن أمد إليك يدي لنهرب سويًا.

ليس صحيحًا أننا نمر بالفقد لنعود كما كنا. بشكل ما، توقف الزمن عندي على لحظتين: حين كنت في الثانية عشرة وقابلتك للمرة الأولى، وفي اللحظة التي عرفت فيها أنني سأسير بدونك للأبد. وكل السنوات بينهما صارت سنوات ضائعة. أمضيت عامًا وأنا أحاول استعادة ذاكرتي عن نفسي، عن هواياتي، وأماكني، ولغتي. فقدت في الطريق شيء من حدتي ومن قدرتي على التخلي والصراع، كأنك برحيلك أخذتِ غضبي من العالم وأعدتِ خوفي منه.

الفقد ألم مستمر. أستطيع تقبل غيابك لكنني غير قادرة على الاستيقاظ يوميًا عليه، غير قادرة على مواصلة تذكير نفسي به كلما باغتتني رغبة تلقائية في الاتصال بهاتفك، غير قادرة على إعادة تعريف وجودك عندي، ولا على إسكات الصوت الذي يتساءل كيف يكون الموت قرارًا نهائيًا وباتًا، أو إسكات الحلم الذي يصيغ كل الاحتمالات التي كانت ممكنة لإنقاذك، أو حتى تساؤلي الطفولي عما يحدث بعد الموت. كيف حالك؟ وكيف يمكن أن أسير دون الاطمئنان عليك؟ وماذا عني؟ حالة مستمرة من الذهول والأسئلة لم ينهها الطب النفسي مهما استطاع تفسيرها ومَنطقتَها لي.

أعرف نظريات الحداد وأدرك قانون الحياة الصارم في المواصلة. عرفت أنني سأستيقظ يومًا ما دون أن أحمل في ذاكرتي إحدى انفعالاتك، ويومًا آخر لا أميز فيه الطريقة التي تبدين فيها حين تشرحين شيئًا ما. سأمر على بيتك يومًا ما دون أن أشعر بك تنتظرينني فيه. سأكف عن إرسال الخطابات الافتراضية إليكِ، وقد يفوتني في سنة ما يوم ميلادك. عرفت أن ذلك التلاشي سيحدث بتدرج أبطأ من أن ألتفت إليه وأكثر إصرارًا من أن أظل ألاحقه. ويومًا ما، يومًا بعيدًا وهادئًا، سأكبرك حينها بعدة سنوات، وستعود إليكِ ذاكرتي بتنهيدة وابتسامة كصديقة طفولتي، ابنة الحياة التي كانت كثيرة جدًا على الحياة. لكن حتمية هذه الحقائق لم تمنعني من رفض الانسحاب من صراعي مع ذاكرتي ووعيي، سعيًا لأن تصبحي حيّة كالحياة نفسها.

تطلب مني الطبيبة أن أصف شعوري، فأتخيل لوحة إعدام سقراط، أكون فيها أفلاطون الذي يجلس على اليسار عجوزًا خائب الأمل، وتظهرين أنتِ خلفه، كأنك خارجة من عقله ذكرى حادةً وشابة، قوية البنية ولا تعبأين بانحناءات الناس وإشفاقهم، ولا يستوقفك من يجلس تحت قدميك يحاول تهدئتك دون فائدة. وأعطيكِ ظهري، بعتب أحيانًا، بعجز أحيانًا كثيرة، وبحب في كل الأحوال.

أنا يا صديقتي أعلم أنك حاولت قدر المستطاع، وأن كل الحب في الدنيا لا يعيد الزمن للوراء، وأننا لا نستطيع اعادة كتابة قصصنا مهما كنا آسفين ومهما كنا سنجيد كتابتها في المرة الثانية. لكنني أود لو كنا طرقنا كل الأبواب وحاولنا أكثر. لربما كنا نجلس سويًا الآن، نكتب مقالًا عن التكيف والتعافي، وتقولين شيئًا ذكيًا جدًا وملهمًا للغاية، حتى أظن أننا على وشك إنقاذ الجميع.

  • الهوامش

    * اسم مستعار.

    ** من قصيدة «يا علي نحن أهل الجنوب»، للشاعر اللبناني عباس بيضون.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية