للنساء في الأردن تاريخٌ طويلٌ في العمل العام يسبق تاريخ تأسيس الدولة سنة 1920، فلقد خصصت النساء وقتًا وموارد مهمة لمساعدة الفئات المحتاجة في كل أنحاء المملكة، بما في ذلك اللاجئون والنازحون من خلال توفير الرعاية والخدمات الاجتماعية لهم.
كما نشطت النساء في حركات النضال الوطنية والأحزاب السياسية، بشكلٍ أثّر في بعض الأحيان على حياتهنّ الشخصية والمهنية، فخلال فترات الاضطراب السياسي في الخمسينات وبعد سنة 1967، تمكنت النساء من تحدي القواعد الجندرية المقبولة اجتماعيًا.
وبالرغم من إسهاماتهن الهامة في التنمية في الأردن، إلا أن عمل النساء العامّ يكاد يُغفل تمامًا عند الحديث عن تاريخ البلد (مع استثناء واحد، وهو كتاب سهير التل «تاريخ الحركة النسائية الأردنية 1944-2008» المنشور سنة 2014 عن دار أزمنة للنشر والتوزيع).
كان انخراط النساء في العمل الخيري وأنشطة الرعاية طريقةً مقبولةً لدخول النساء إلى الحيز العام، الذي لطالما كان مقتصرًا على الرجال فقط. ومنذ نهايات القرن التاسع عشر أكّد الكثير من القياديين الوطنيين على ضرورة تعليم النساء ومشاركتهن في الحياة العامة لتقدّم الأمة، واحتضنت الطبقة الوسطى هذه الأفكار بحماسة، كما بدأت نساء الطبقة المتوسطة، وزوجات النخبة، بتأسيس جمعيات خيرية للإسهام في ارتقاء الأمة.
كان انخراط النساء في العمل الخيري وأنشطة الرعاية طريقةً مقبولةً لدخول النساء إلى الحيز العام.
وبحسب ما أوردته التل في كتابها فقد تأسست في الأردن جمعية تضامن النساء الاجتماعية سنة 1944، وتأسست جمعية اتحاد النساء الأردني سنة 1945، وعملت المنظمتان على تقديم الخدمات الخيرية والصحية والتعليم للمحتاجين.
بعد نكبة فلسطين سنة 1948 شهدت الأردن تزايدًا في شعبية الأحزاب ذات الأيديولوجيات، كالأحزاب الشيوعية والبعثية وغيرها من الأحزاب الوطنية الراديكالية التي تجمّعت لتكوّن الحركة الوطنية الأردنية.
انجذبت الكثير من النساء المدنيات من الطبقة المتوسطة إلى أفكار هذه الأحزاب، التي كانت تدعو لتطوير البلد، ولتكوين حكومة شمولية وإنهاء النفوذ البريطاني المتزايد، كما دعت إلى حقوق المرأة.
في ذلك الحين لم تشارك النساء غالبًا في الأحزاب السياسية، إلا أنهن ساهمن في الحركة الوطنية من خلال عملهن الخيري والاجتماعي، كما دعمن القضايا الوطنية العربية.
وفي سنة 1954 تأسس اتحاد النساء العربيات من قبل مجموعة من النساء الداعمات للحركة الوطنية الأردنية بقيادة أول محامية أردنية، إيميلي بشارات، وبالإضافة إلى العمل الخيري والاجتماعي فقد أخذ الاتحاد ينظم بقوة حملات تدعو لحق النساء في التصويت.
وكما هو معروف تاريخيًا، فلطالما أوجدت الأزمات الوطنية فرصًا للنساء للتجاوز عن القواعد الجندرية السائدة، ولقد مثّلت أزمة حلف بغداد سنة 1955 فرصة من هذا النوع لإيميلي نفاع السلطية، المقيمة في عمان.
كانت حينها في العشرينيات من عمرها، وقررت أن تنضمّ إلى الحزب الشيوعي الأردني بالرغم من تحفّظات أخيها، وشاركت في المظاهرات ضد حلف بغداد بالرغم من معارضة والدها. ونتيجة للضغوط الشعبية سقطت الحكومة حينها، ولم يتم التوقيع على الحلف، وطرد الملك كلوب باشا.
إلا أن فترة المشاركة النسائية المتنامية في الشؤون الوطنية انتهت نهاية مفاجئة عام 1957 عندما أقرّت الحكومة الأحكام العرفية، ومنعت الأحزاب السياسية، والنقابات وحتى اتحاد النساء العربيات.
بعد سنة 1957 دعمت الدولة الأردنية دخول النساء إلى العمل العام، وانتشر تعليم الفتيات على نطاق واسع، ودعمت الحكومة دخول النساء إلى القوى العاملة، وخاصة في قطاعي التعليم والتمريض.
لميس الناصر، المولودة في القدس، حصلت على منحة حكومية لدراسة تخصص التربية، وتخرجت سنة 1965، ودرست في المدارس الحكومية قبل أن تدخل السلك الدبلوماسي سنة 1969.
هيفاء البشير، المولودة في نابلس، وزوجة وزير الصحة السابق محمد البشير، نظمت حملة ناجحة سنة 1970 لتشجيع النساء على العمل في مهنة التمريض، كما أسست «نادي العمر الذهبي»، أول دار رعاية للمسنين في الأردن.
وفي الوقت الذي كانت فيه الدولة تعتبر عمل النساء العام، التطوعي والمدفوع، جزءًا أساسيًا من تطور الأردن ومؤشرًا لحداثته، إلا أن هذا العمل لم يكن يدعم المساواة بين الرجل والمرأة ولم يمكّن الجمعيات النسائية من مناصرة الحقوق السياسية.
تسبّبت صدمة هزيمة الجيوش العربية في حرب سنة 1967 في حدوث أزمة وطنية أخرى سيّست النساء ومكنتهن من كسر السلوكيات الجندرية المقبولة اجتماعيًا. وبعد الحرب، اتجهت أعداد كبيرة من النساء إلى المشاركة في العمل العام، لتقديم الإغاثة الطارئة والخدمات الاجتماعية للنازحين بعد الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية.
أغلب هذا العمل كان استمرارًا لدور النساء القديم في العمل الخيري، وفي تلك الفترة نظرت النساء لعملهن الإغاثي على أنه دعم للقضية الفلسطينية، كإيميلي نفاع وأختها ليلى، التي أسست جمعية النساء العربيات في مخيم البقعة، وميسر السعدي، اللاجئة مرتين عامي 1948 و1967، التي كرست وقتها لمساعدة النساء وعائلاتهن في مخيمات اللجوء.
لطالما أوجدت الأزمات الوطنية فرصًا للنساء للتجاوز عن القواعد الجندرية السائدة.
كما قدم العمل الخيري والإغاثي مدخلًا للمشاركة لاحقًا في العمل السياسي بشكل أكثير علنية. عبلة أبو علبة، من قلقيلية، عملت مع الاتحاد العام للنساء الفلسطينيات في عمان قبل أن تنضم للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وأسماء خضر، التي ولدت قرب جنين ومن ثم عاشت في عمان، نشطت مع اتحاد النساء الفلسطينيات ثم كانت أول امرأة تُنتخب في اتحاد الطلبة الفلسطينيين.
الإقبال الشعبي على منظمة التحرير الفلسطينيين والفدائيين، أجبر الحكومة على أن ترخي قبضتها على الحياة السياسية والمدنية، و لأول مرة منذ سنة 1957 تمكنت الأحزاب المعارضة الأردنية، والفصائل السياسية الفلسطينية من ممارسة أنشطتها علنيًا، وبدأت النساء -وخاصة من أصول فلسطينية- يشاركن في العمل السياسي.
جندت الفصائل الفلسطينية الفتيات والنساء بشكل كبير في المخيمات. نادية شمروخ، اللاجئة إلى عمان من مخيم الدهيشة، كانت بالكاد في العاشرة من عمرها عندما انضمت إلى مجموعة فتح للشابات «الزهرات». وبعد أحداث «أيلول الأسود» عامي 1970 و1971، أُخرجت منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن، واستنفرت الحكومة ضد الاحزاب اليسارية والقوى التي تحالفت مع المنظمة.
حينها مرّت الأردن بنزعة محافظة متزايدة كردة فعل على القواعد الجندرية المتحررة نسبيًا التي رافقت مرحلة منظمة التحرير الفلسطينية. ورغم أن بعض النساء استكملن عملهن بشكل سرّي، إلا أن الكثيرات منهم تخلين عن النشاط السياسي، ليس فقط لخوفهن من مضايقات السلطات بل وخوفًا على سمعتهن أيضًا، حيث استُخدم الـ«شرف» كسلاح أخلاقي يُلحق العار بمشاركة النساء السياسية.
في هذه الفترة، تزايدت أعداد النساء المنضمات إلى حركة الإخوان المسلمين، التي كان يُسمح لها أن تمارس أنشطتها علنيًا. ورغم أن العمل السياسي كان صعبًا في تلك المرحلة إلا أن النساء تابعن عملهن العام في الجمعيات الخيرية، وفي النقابات المهنية، واتحادات الطلبة.
وأثناء الإعدادات لمؤتمر الأمم المتحدة الدولي للنساء في نيروبي، اجتمعت عدة نساء، ومن بينهن عضوات سابقات في اتحاد النساء العربيات الذي تأسس في الخمسينات للتنظيم لأنشطة، وأسسن اتحاد المرأة الأردني سنة 1974، وقدم الاتحاد خدمات اجتماعية للنساء، كما قام بمناصرة حقوق المرأة.
أما الحكومة، والتي كانت مهتمة غالبًا بإظهار الأردن بمظهر عصري في مؤتمر الأمم المتحدة للنساء، أقرت للنساء أخيرًا حقهن في التصويت سنة 1974، رغم أنهم لم يتمكنّ من ممارسة هذا الحق حتى سنة 1989 التي استُؤنفتْ فيها الانتخابات.
كان اتحاد المرأة الأردني ناشطًا، وأسس فروعًا في كل أنحاء المملكة، وبحسب ما ذكرت التل في كتابها، فقد ضم الاتحاد 3 آلاف منتسبة سنة 1981. ومع ذلك، فلقد جمدت الحكومة الاتحاد في تلك السنة، وأسست الاتحاد النسائي الأردني العام، تحت رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية.
تكهّن الناشطون حينها بأن السبب وراء إغلاق اتحاد المرأة هو انزعاج الحكومة من مواقفه المستقلة، خاصة في المؤتمرات الدولية، أي أن تأسيس الاتحاد النسائي العام يعكس رغبة الحكومة في توجيه حركة النساء الأردنيات والسيطرة على أجندتها. وهو الامر الذي بات أكثر وضوحًا مع التحرير السياسي سنة 1989، الذي تزامن مع الاهتمام الدولي المتزايد بحقوق المرأة بعد نهاية الحرب الباردة.
ونتيجة للإحباط المتصاعد بين صفوف المجتمع الأردني في ظل غياب الحريات السياسية والمدنية بالإضافة إلى أوضاع اقتصادية متردية، اندلعت احتجاجات شعبية سنة 1989 في عدة مدن وقرى أردنية، بسبب عزم الحكومة على إقرار إجراءات تقشفية. وردًا على ذلك أعلن الملك الحسين نهاية الأحكام العرفية وعودة الانتخابات، وصار بإمكان الأحزاب السياسية أن تمارس أعمالها علنيًا، وتم رفع القيود عن المجتمع المدني.
بالتالي لم يكن مفاجئًا بعد سنوات من القمع السياسي وتقييد عمل النساء العام بمؤسسات تابعة للحكومة، أن الناشطات من الطبقة الوسطى – مع بعض الاستثناءات من الناشطات الطلابيات- لم يكن لهن دور كبير في احتجاجات سنة 1989 وأن مطالب النساء لم تظهر بين مطالب المحتجين. وهذا هو الاختلاف الكبير مع احتجاجات سنة 1955 التي دعمتها نساء الطبقة الوسطى والتي كانت فيها مطالب النساء جزءًا من النضال الوطني الأشمل.
لقد ازدهر العمل النسائي العام منذ سنة 1989، إلا أن النساء جابهن تحديات غير مسبوقة في سبيل دعم أجندتهن الجندرية في ظل التأثير الواسع للقوى المحافظة والإسلامية في المجتمع وفي البرلمان.
* نيكولا ﭘرات، محاضرة في السياسات الدولية للشرق الأوسط، جامعة وارويك.