قبل ما يزيد عن 15 عامًا، قرر عوض الناطور تبديل عمل ابنه الأصغر من الذكور، سامي، من الحدادة إلى سائق «ديانا»، ينقل الحديد والخزانات التي يصنعها عوض وأبناؤه الآخرون. قرار الأب يومها كان نابعًا من خوفه من أن تتأثر عينا سامي من شرار النار الذي يتعرض له في مهنة الحدادة، بعدما لاحظ تضرر أعين ولديه الأكبر، سامر وأسامة.
بعد ذلك بسنوات، وبعدما صار موظفًا في بلدية إربد الكبرى يعمل مراقبًا للعمّال، مات سامي حين أشعل النار في جسده.
سامي، ابن الـ34 عامًا، ولد ودرس في إربد، في منطقة الحي الشرقي، وهو أصغر الذكور، والخامس في عائلة مكونة من ثلاثة أبناء وثلاث بنات.
درس سامي للصف الثامن، وترك المدرسة ليعمل حدادًا يصنع خزانات المياه مع أخواله في المنطقة الصناعية، وهي مهنة والده وأشقائه أيضًا. قبل أن يغيّر مهنته إلى النقل بناءً على رغبة والده.
تزوج سامي في العشرين من عمره، ورزق بابنة ثم انفصل عن زوجته، وأصبح يدفع نفقة ابنته التي قررتها المحكمة، 35 دينارًا شهريًا. لاحقًا، تزوج من دعاء، وأنجبا بنتين وولدًا، وكان الزوجان في انتظار ولدهما الثاني بعد شهر.
توفي والده قبل أربع سنوات، وأصبحت الوالدة تعيش وحدها في المنزل، الذي بنى سامي فوقه بيتًا صغيرًا يأويه وزوجته وأولاده.
عام 2008، قرر سامي العمل في بلدية إربد الكبرى، وهو العمل الذي سبقه إليه خاله، وابن خالته، دون أن تتمكن والدته من معرفة السبب الذي كان يغري سامي في العمل بالبلدية.
«في البلدية ما شاف غير التعب. رجليه طلعت فيها العروق وكانوا يوجعوه»، تقول أمه.
عمل سامي عامل نظافة في السنوات الأولى من عمله، ثم أصبح مراقبًا لعمّال النظافة في المناوبة المسائية، من الساعة السادسة مساءً وحتى الثانية عشرة منتصف الليل. لكنّ سامي كان يستمر في عمله للسادسة صباحًا بحسب الزوجة، كي يأخذ بدل العمل الإضافي المقرر من البلدية، والبالغ 75 دينار شهريًا، وفي حال قبض ذلك المبلغ، كان يضعه فوق راتبه الأصلي الذي يبلغ نحو 300 دينار، كي يدفع به مستلزمات منزله وأقساط قروض ونفقة ابنته الكبرى، و20 دينارًا لسائق الباص الذي ينقل ابنتيه للمدرسة شهريًا.
لكنّ سامي لم يكن يقبض بدلات العمل الإضافي بانتظام، بحسب زوجته دعاء، فكثيرًا ما أخّرت البلدية هذا الأجر، ما جعل سامي يعمل نهارًا في محل حلويات وسط إربد، كسائق ينقل الصواني وبعض المستلزمات مقابل يوميات كان يقبضها في آخر الأسبوع. تقول دعاء إن يوميته كانت تتراوح بين خمس وست دنانير، أي نحو 35 دينار أسبوعيًا كانت تساعدهم في شراء بعض المونة.
توّزعت حياة سامي في السنوات الأخيرة بين العملين، من السادسة مساءً وحتى السادسة صباحًا يعمل كمراقب للعمال، يذهب للمنزل وينام بضع ساعات، ثم يتوجه لعمله في محل الحلويات، نحو الساعة 11 صباحًا، ويعود لمنزله عصرًا في الساعة الثالثة، ينام ساعتين ويذهب للبلدية لمناوبة المساء مجددًا. عطلة البلدية تقتصر على يوم واحد، الجمعة، بينما عطلة محل الحلويات كانت الإثنين.
تقول دعاء إن أيامًا كانت تمرّ دون أن يرى زوجها ابنتيه، اللتين كانت تتصادف ساعات وجوده في المنزل مع نومهما أو وجودهما في المدرسة، لكن ابنه ذا السنوات الثلاث، كان يحظى ببعض الساعات مع والده، عندما كان يستيقظ سامي بين العملين، ويأخذ ابنه للدكان لشراء «الشيبس» وغيره.
قبل أن «يذوب» سامي
في مضافة الرجال، حيث بيت العزاء، لا يتحدث الموجودون كثيرًا عن تفاصيل لحظة الحادثة. يُركز خال سامي، عدنان الناطور، حديثه على ضيق حال ابن شقيقته.
عدنان، الذي سبق سامي إلى العمل في بلدية إربد وأصبح مسؤولًا في قسم البيئة فيها، يقول إن سامي انتحر بسبب الضغوطات المادية عليه، نافيًا أن يكون هناك أي خلافات لسامي في العمل أو العائلة.
أسامة، شقيق سامي، لم يسترسل في الحديث عما جرى مع شقيقه. يقول إنه تلقى يوم انتحار سامي اتصالًا هاتفيًا من والدته، لم يفهم شيئًا منه سوى أن مصيبة حدثت، كون الوالدة راحت تصيح عبر الهاتف فحسب. حين وصل أسامة إلى المنزل، كان شقيقه الأصغر قد أحرق نفسه.
بخلاف هذا الاقتضاب، كانت النساء المتجمعات في بيت العزاء، يتحدثن بتفاصيل عن كل ما حدث. بعضهن بنات عم سامي اللواتي يسكن في جانب المنزل، وأخريات وصلن سريعًا أثناء الحادثة، لكن الأم والزوجة شاهدن سامي وهو يحرق نفسه.
تقول دعاء إن البلدية لم تعطِ سامي أجور ثلاثة أشهر من العمل الإضافي، ولم تكن تلك أول مرة يحدث فيها ذلك، لكنّ سامي كان غاضبًا جدًا من التأجيل والمماطلة. يقول محمود، زميل سامي وابن عمه الذي يعمل في البلدية منذ 19 عامًا، إنه سمع من سامي ومن غيره من الموظفين عن تأخر بدلات العمل الإضافي التي لم تدفعها البلدية منذ أشهر.
ما تعرفه دعاء هو أن سامي ذهب في نهار ذلك اليوم إلى البلدية ليسأل عن بدل الإضافي، وبحسبها كانت البلدية قد أجلت صرف المستحقات مجددًا.
الناطق باسم البلدية، إسماعيل الحواري، نفى تأخر مستحقات سامي. «إذا في تأخير، مش عليه لحاله، ولو تأخر ما بروح إشي على الموظف، ما بروح حقه (..) وبكرة بصرفوا عن شهر تسعة». في الوقت نفسه، أوضح الحواري أن التأخير في صرف الإضافي، إن حدث، يعود لارتباط مصروفات البلدية بإيراداتها. «البلدية إيراداتها ذاتية، شو بتحصّل بتدفع (..) مش زي الدولة في رواتب مرصودة».
إلا أن مدير سامي في محل الحلويات، يقول إن الأخير لم يأتِ إلى عمله يوم الثلاثاء، اليوم السابق للعمل، وتأخر عن موعد عمله يوم الأربعاء. وعندما جاء، كان وجهه «أسود» وأخبره بأن يواجه مشكلة عائلية حول الميراث، وهو ما نفته العائلة لاحقًا.
سواءً كان غضب سامي بسبب مشكلة عائلية أو لعدم حصوله على المستحقات، فقد عاد إلى المنزل في ذلك اليوم هائجًا. «كان وجهه زي هالعباي ومستشرّ» تقول الوالدة، تعبيرًا عن سواد لون وجه ابنها، الذي دخل إلى المنزل صارخًا بأنه يريد كازًا ليحرق نفسه. رفضت الوالدة واتصلت بسامر، ابنها الأكبر، الذي استعجلها الاتصال بالشرطة.
ذهب سامي إلى دعاء مكررًا طلبه الكاز كي يحرق نفسه، فرفضت هي الأخرى، لكنه نزل إلى أسفل الدرج حيث تحتفظ العائلة ببعض الحاجيات، ومنها الكاز. في تلك الأثناء، وبينما كانت زوجته وأمه تحاولان تهدئته، وصلت الشرطة ودخلت المنزل. سكب سامي بعض الكاز أمامه وعلى قدميه في منتصف المنزل، وحاول رجال الشرطة التفاوض معه، لكن في تلك الأثناء اشتعلت النار في قدمي سامي.
تقول دعاء أن «الولاعة» سقطت من يده، وأنه كان يلوّح بالانتحار نتيجة غضبه الشديد، لكنه لم يكن يقصده فعلًا، وتستدل على ذلك بأنه حاول إطفاء نفسه لكن النار سرعان ما شبّت في جسده، دون أن يقوم رجال الشرطة بإطفاء النار أو السماح لهن بالاقتراب. «سيارة شرطة جاي، معقول ما في معها طفاية؟ كان طالوا الطفاية وطفوه»، تتساءل الوالدة وهي تصف اللحظات التي شاهدت بها ابنها «والنار ماكلته». حاولت حبر الاتصال بالمكتب الإعلامي في مديرية الأمن العام لأخذ تعليق أمني دون رد.
حين وصل الدفاع المدني، كان سامي قد «ذاب»، بحسب دعاء، فتم نقله للمستشفى وسرعان ما أعلنت وفاته. الناطق باسم البلدية إسماعيل الحوري قال إن سامي توفى خارج ساعات الدوام الرسمي وفي منزله، وهو ما يجعل القضية أمنية خارجة عن اختصاصهم.
تأتي وفاة سامي الناطور قبل أيام من الموعد الذي أعلنت عنه النقابة المستقلة للعاملين في البلديات لتنفيذ إضراب شامل في التاسع من تشرين الأول، للمطالبة بتأمين صندوق ادخار ومكافأة نهاية الخدمة، كانت وزارة البلديات قد وعدت بدراستها قبل عام دون نتائج للآن، وهو ما تصفه النقابة بالتسويف والمماطلة، إضافة إلى الاحتجاج على معاملة موظفي البلديات «كفئة متدنية من موظفي الوطن».
في السنة الأخيرة، شهدت أمانة عمّان وبلديات عدة احتجاجات مختلفة من عمّالها للمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية ونيل حقوق مؤجلة، بحسب بيانات صدرت عنهم. وكان مركز الفينيق للدراسات الاقتصادية والمعلوماتية قد أصدر مؤخرًا دراسة حول ظروف عمل موظفي البلديات، جاء فيها إن أجور الموظفين «متدنية» وإنهم ظروف عملهم خانقة وغير آمنة.
لم تكن لسامي طموحات كبيرة، بحسب زوجته دعاء. كان يرغب في تحسين منزلهما الذي تصفه بالمتواضع والذي يحتاج تصليحات كبرى. كان يرغب في توفير تعليم أفضل لبناته وابنه، وأن يشتري لهم حاجياتهم العادية. «بتعرفي قديش صعبة على الأب لما بنته تطلب كل مرة تطلب منه إشي بسيط، آلة حاسبة مثلًا، يمد إيده على جيبته ويحكيلها ما بقدر؟».