رأي

حين تسيء قصص الأطفال لذوي الاحتياجات الخاصة‎

الأحد 14 آب 2016

(نشرت نسخة من هذا المقال على مدونة الكاتبة في ٣ آب الحالي).

في أحد مراكز التسوق التجارية في عمان، وجدت مجموعة قصصية مصورة للأطفال «عن الإعاقة». على الرغم من تحفظي على المصطلح، إلا أنني ابتسمت بكل سذاجة وحسن نية أثناء التقاطي تلك المجموعة القصصية لأتصفحها، وقلت في سري: الحمد لله أن هناك توجهات جديدة لتسليط الضوء على الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، خصوصًا وأنها موجهة للأطفال. كم هذا رائع!

لكن الأمر لم يستغرقني أكثر من خمس دقائق حتى أتراجع عن ظنوني وأعقد حاجبيّ لا إراديًا، غير مصدقة ما أراه.

أول ما وقع بين يدي كان قصة «ابني سالم»، وفيها يكون سالم طفل مصاب بمتلازمة داون.

المطلع على أدب الأطفال يعرف أهمية الكلمات والرسومات وتعابير وجوه الشخصيات. وبالنظر إلى الكمية الهائلة من الإشارات المباشرة وغير المباشرة في القصة، ليس من الصعب إدراك كمّ الرسائل السلبية التي تتضمنها صفحات القصة.

تعزز القصة جميع الأحكام المسبقة والصور النمطية التي كان من الأجدى أن تحاربها؛ الوصف الدقيق للملامح والصفات الجسمانية بشكل سلبي يمثّل دعوة للتركيز على المظهر الخارجي والتغاضي عن كل الصفات والقدرات الأخرى التي يمكن رؤيتها في الشخص المقابل.

وُصف سالم بأن «رأسه صغير وعيناه مائلتان، لسانه كبير وذقنه قصير، عقله ضعيف والوجه مستدير، ضعيفة عضلاته وفهمه بطيء». سالم لم يأخذ فرصته في الحياة بعد، لكن حُكم عليه مباشرة بأن عقله ضعيف وفهمه بطيء.

كان الأحرى بالقصة تحفيز الأطفال للتفكير خارج صندوق القوالب الجاهزة والتركيز على الصفات الأخرى التي يتسم بها من لديهم متلازمة داون، كالمرح وحب الرقص وتلقائيتهم الاجتماعية في التواصل مع من حولهم.

في الوقت الذي نسمع ونقرأ عن أشخاص ذوي متلازمة داون مدمجون في المجتمع، ومنهم جامعيون وموسيقيون مبدعون، لا يزال هذا الخطاب يُعزز الصورة النمطية السائدة في مجتمعاتنا.

كان يمكن للقصة أن تتناول «سالم» آخر مثل «سوجيت ديساي» الذي يستطيع العزف على أربع آلات موسيقية، أو «كريستيان رويال» المبدع في الصلصال والأعمال الخزفية ولديه عمل خاص ينتج من خلاله، أو «تيم هاريس» الذي لديه شهادة في خدمات الأطعمة وإدارة المطاعم من جامعة نيو مكسيكو في الولايات المتحدة ويمتلك الآن مطعمه الخاص.

هل هذه دعوة للتغاضي عن كل التحديات التي يواجهها من لديهم متلازمة داون وعائلاتهم وتقديم صورة وردية غير واقعية؟ بالطبع لا. لكن بناء على ما ورد في مقدمة السلسلة القصصية فإن الهدف من إعداد المجموعة كان «المساعدة في تفنيد المعتقدات الخاطئة وتغيير الصور النمطية السلبية الشائعة في مجتمعاتنا العربية عن الأطفال ذوي  الإعاقة». وعليه، كان من الممكن على الأقل تجسيد شخصيات من أطفال (غير مبدعين أو خارقين)، يحظون بالحب في عائلاتهم التي تتحدى نظرة المجتمع التي عملت القصة على ترسيخها.

أما عن تعاطي العائلة مع وجود شخص باحتياجات خاصة، فإن مقدار السلبية كان لافتًا بشكل لا يمكن التغاضي عنه؛ حيث يظهر الأب في عيادة الطبيب عند التشخيص وهو يولول واضعًا يديه على رأسه والأم حزينة بسبب حملها. والأنكى هو ما قاله الطبيب:

«وقال ابننا سيعيش في سبات
وأنه سيبقى عبئًا مدى الحياة
وأننا سنرجو لو أنه قد مات».

استخدام عبارات مثل «سبات»، «عبئًا مدى الحياة»، «سنرجو لو أنه قد مات» كانت وجهة النظر الطبية في متلازمة داون. في صفحة أخرى، في نفس القصة نقرأ النص التالي: «في أول المشوار شعرنا بالدوار، وأصبحت حياتنا أمامنا تنهار. كآبة مخيفة، تشاؤم كبير، وطالما بكينا الصغير والكبير».

ترسخ النصوص السابقة في أذهان الأطفال الآثار الكارثية لوجود شخص لديه متلازمة داون في العائلة، فهو عبء وسبب باعث على الكآبة ووجوده مسبب لنوبات بكاء هيستيري للوالدين والأشقاء. وكما تقول فرح فاروقة، الفنانة والرسامة لعدد من قصص الأطفال: «إن استخدام أسلوب تبيان الخطأ والمعتقدات السيئة حتى يظهر الصحيح لاحقًا غير مناسب، خصوصًا إن كانت القصة موجهة لمن هم دون العاشرة، لأن الأوصاف هي التي ستعلق بعقل الطفل أكثر من العبرة اللاحقة. فلا أستغرب إن قام أحد الأطفال بعد قراءة قصة ابني سالم بنعت زميله بـ«المعاق» إن كان رأسه صغيرًا بعض الشيء». وتضيف: «في جميع طرق التربية الحديثة والصحة النفسية للطفل يُحّذر من استخدام عبارات من مثل «أنت لست غبي» لأن الصفة هي التي تعلق بذهن الطفل، متجاهلًا الـ«لست» التي تسبقها. لذلك من المفضل أن يُقال له «أنت ذكي». وأعتقد أن القصة المذكورة صيغتْ بنفس الطريقة الخاطئة».

بعد كل ذلك الكم الهائل من الرسائل السلبية؛ نرى والد سالم في الثلث الأخير من القصة يراقب ابنه الذي يركض باتجاهه قائلًا: «ما يشغل الجميع الجهل بالمستقبل، أتراه بالتدريب سيصير حقًا أفضل؟ هذا الذي يسبب الآهات، ماذا عن الإخوان؟ ماذا عن الأخوات؟ الآن ابني طفل عبؤه خفيف». النبرة التشكيكية لا تزال حاضرة في سؤال «بالتدريب سيصير حقًا أفضل؟» ويتأكد للمرة الثانية أن سالم «عبء» أصبح خفيفًا، لكن لا يزال ينظر إليه كعبء.

Screen Shot 2016-08-14 at 5.51.56 PM

«أخي لديه توحد»

ضمن نفس المجموعة، قصة أخرى عن «باسم» الذي لديه توحد، ترويها أخته «وفاء».

يظهر «باسم» في معظم صفحات القصة على عكس اسمه؛ عابسًا ومتجهمًا. توصف الشخصية المصابة بالتوحد كالتالي: «أخي لديه شيء اسمه توحد، حركاته تبدو وكأنها تعبّد، يهز رأسه للخلف والأمام، يرفرف اليدين ويردد الكلام، تدريبه جهاد ونومه عبادة». نقول لأطفال أن تدريبه جهاد ونومه عبادة؟! هل يعقل استعارة مقطع من المثل الشعبي الرائج «نوم الظالمين عبادة» في قصة للأطفال؟

Screen Shot 2016-08-14 at 5.52.27 PM

ردة فعل العائلة لوجود باسم تتسم بالسلبية والعجز عن فهم علامات التأخر الاجتماعية التي تبدو عليه. في الصفحة السابعة من القصة: «والدي محبط وحزين، يركبه الغضب عندما يراه ويشكو للإله، لكن أمي الغالية تدعوه للهدوء من وقت لآخر وأسمعها تقول شدة وتزول».

Screen Shot 2016-08-14 at 5.52.52 PM

وفي إحدى الصفحات تشرح وفاء حيثيات وجود باسم في حياتها لصديقتها ليلى، فتعبر عن انزعاجها من تحمل المسؤولية وذهاب اهتمام الأم له. فهي تستهل كلامها بـ«لا أخفي عليك يا ليلى أنني أشعر بالانزعاج (…) صحيح إنه أخي وأنني أحبه ولكنه يسبب لنا مشكلات متواصلة..». لترتيب الكلمات في الجمل وتوظيف «لكن» أثر على الرسالة التربوية في النص، وكأن الحب يأتي على مضض وفقط لأنه الأخ البيولوجي لذلك تتوجب محبته على الرغم من كل المنغصات لوجوده.

Screen Shot 2016-08-14 at 5.53.03 PM

في نهاية القصة هناك حديث بين والدة باسم وجارتها وهي تستفسر إن كان يوجد علاج للتوحد أم لا، فتجيب الأم أن ليس له علاج، وتضيف: «بعض الأطفال الذين لديهم توحد يتحسنون مع مرور الأيام. لكن أعدادًا كبيرة منهم لا يستطيعون مساعدة أنفسهم حتى عندما يكبرون، لذلك فهم يحتاجون لرعاية متواصلة. أرجو أن يكون باسم ممن يتحسنون».

لم يقترن التحسن بالتدريب والتأهيل وإنما ظهر كضربة حظ أو يانصيب يحدث من تلقاء نفسه، في ترسيخ آخر للعجز والسلبية وعدم القدرة على التأثير.

ترد الجارة بالدعاء للطفل ووالدته فتُختتم القصة في الصفحة الأخيرة: «ردت أمي وهي تضع يدها على رأسها: رحمة الله وسعت كل شيء». برأيي الشخصي أن الخطاب الديني دُمج بشكل سلبي مع لغة جسد الأم وحاجبيها المقطبين دلالة على الاستسلام مرة أخيرة.

كأخت لشخص مصاب بالتوحد، أستطيع أن أجزم أن آخر ما كان يلزمنا أنا وأخي الثاني قصة تتناول طفلًا مثل أخينا الصغير بهذه السلبية في طفولتنا. فعلى الرغم من وجود الكثير من الآثار المترتبة على وجود شخص ذي احتياجات خاصة في الأسرة، إلا أنه في نفس الوقت يمكن أن يكون مصدر فرح وفخر، فوجوده يخلق تحديًا لدي الأسرة وتقدمه وسيره البطيء نحو الاستقلالية يجعل للحياة معنى، حيث تكون إنجازاته الصغيرة مهما كانت ضئيلة محط احتفاء وسرور.

نعلم أن نشر المجموعة القصصية كان بحسن نية وهدفَ لنشر الوعي، لكن يجب الاعتراف بعد قراءة القصص أن الأسلوب المتبع غير نافع من نواحي نفسية عديدة. وكنسبة وتناسب، كان التركيز في القصص على النواحي السلبية والرسائل المغلوطة بتفاصيل دقيقة جدًا لا بد وأن تعلق في ذاكرة الأطفال. وفي المقابل كانت النهايات ركيكة لا تتناسب مع دراماتكية ردود الأفعال والعبارات المستخدمة.

وكما تقول فاروقة: «قصص الأطفال الحديثة التي تتناول مثل هذه المواضيع الحساسة يتم صياغتها بأسلوب مختلف تمامًا؛ مثلًا يكون بطل القصة شخصية مقعدة أو ضريرًا، وتحكي القصة عن مغامرة عاشها هذا الطفل أو موقف معين حصل له مثل أول يوم في المدرسة أو أي موضوع عام يحصل لجميع الأطفال في ذلك العمر. يكون التركيز في هذه القصص على الأحداث نفسها والمغامرات والمتعة، ولا يتم ذكر وجود إعاقة بتاتًا في نص القصة بل بالرسوم فقط (من حيث وجود كرسي متحرك أو غيره). عندما يقرأ الطفل مثل هذه القصص فإن العبرة التي سيستنتجها هو بذاته (من دون وجود نص يفرض عليه الاستنتاج) هو أن جميع الناس متشابهون أكثر مما هم مختلفون».

وإذا وضعنا محتوى السلسلة جانبًا لننظر إلى كاتبها وناشرها وداعميها، لا بد من التنويه لبعض الأمور اللافتة:

أولًا: تأليف العمل من قبل دكتور في الجامعة الأردنية. إذا كانت تلك هي الأفكار التي تدرس أكاديميًا لعاملين مستقبليين وأخصائيين في التربية الخاصة، فهذه مأساة!

من الواضح أن تحصيل درجات علمية ليست مؤهلًا كافيًا لتأليف مجموعة قصصية بموضوع بهذه الحساسية. فأدب الأطفال وما ينطوي عليه من نصوص ورسومات علم قائم بحد ذاته له أبعاد سيكولوجية مهمة، لأنها موجهة لأعمار صغيرة ترسخ فيها الأفكار بشكل سريع وعنيد بحيث لا يمكن التخلص منها بسهولة لاحقًا.

ثانيًا: تقديم الأمير رعد بن زيد للقصص ودعم المجلس الأعلى لشؤون المعوقين لها. ترى هل كان مكتب سمو الأمير كثير الانشغال في الفترة التي طُلب منه تقديم العمل بحيث لم يكن لديه الوقت لقراءة جميع القصص بتمعن، وهل قدم هذا العمل المسيء على غير دراية بكل الأفكار المغلوطة والرسائل التربوية الكارثية التي يقدمها؟َ

ثالثًا: دعم السفارة الهولندية ومنظمة ميرسي كوربس للسلسلة. بعد أن تواصلت مع السفارة الهولندية للاستفسار عن تمويلهم لهذه المجوعة القصصية، كان الرد بأنه على الرغم من «أسفهم لما حدث، وتأييدهم لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وإيمانهم بالدمج الكامل إلا أنهم لا يتحملون مسؤولية المحتوى ولا يتدخلون بالمنتج الصادر من قبل الشركاء في المشاريع».

تدعي جهات التمويل الأجنبية عادة أن مشاريعها لمساعدة المجتمع الأردني وتنميته ونشر الأفكار التنويرية ومحاربة الاعتقادات الرجعية. لكن عدم المسؤولية الذي أعربت عنه السفارة الهولندية يفيد بأنها غير مساءلة إطلاقًا في حال وجود إهانة لحقوق الإنسان وكرامته في منتجات المشاريع التي تمولها. وعليه لا بد أن يتبادر إلى أذهاننا تساؤلات عن ماهية معايير اختيار «الشركاء» الذين يحظون بالمنح السخية، دون مراجعة مخرجات المشروع أو الاطلاع على محتواها.

لعل الجانب المشرق الوحيد هو ثمن تلك السلسلة القصصية المبالغ فيه وهو 27 دينار. وآمل ألا تستثمر أي عائلة هذا المبلغ في قصص مغلوطة أرى شخصيًّا أن سحبها من الأسواق والمكتبات أمر واجبٌ وضروري.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية