رأي

«إيش يا بطة»: هكذا تخلق المنظومة الفاشلة المزيد من المحبطين

الثلاثاء 31 أيار 2016

لا أتعاطف مع إلغاء حفل غنائيّ في الأردن، ولا أتعاطف مع منع استيراد طابعات أو رفع أسعار المحروقات أو فرض ضريبة على مكالمات الواتساب، ولا مع إزالة البسطات ولا مع مطعم في اللويبدة أو دابوق صادرت له الأمانة الكراسي والطاولات. لست معنيًا بطالب حصّل علامة 98 بالتوجيهي وما طلعله طب، ولا مع شخص تلقى مخالفة مرورية على باب بيته، ولا مع صاحب قهوة يدفع بدل حماية. قد أتعاطف مع المتضررين من هذه الممارسات على المستوى الشخصي كأصدقاء أو معارف، لكنني لا أجد فيها قضايا «رأي عام»، لأنها ببساطة نتائج طبيعية لمنظومة لا تعمل.

تسبب الأورام الخبيثة عدة أعراض، منها التعب العام والهزال وصعوبة التنفس وارتفاع الحرارة، وقد تصل إلى الفشل الكلوي والكبدي وتسمم الدم. يحاول الأطباء السيطرة على هذه الأعراض وتخفيف حدتها الواحد تلو الآخر، لكن المحصلة أن الطبيب والمريض وكل من هو معنيّ يعرف أن التعامل مع كل عارض على حدة هو أمر غير قابل للاستدامة، ولا بد من معالجة أصل الداء أو استئصال الورم إن أمكن.

من هذا المنطلق، ما زلت غير متعاطف مع قصة «إيش يا بطة»، لكنني أجد فيها عبرة جديرة بالذكر.

القصة هي أن رسامة موهوبة نوعًا ما قررت أن تترك عملها في شركة دعاية وإعلان مهمة بعد 15 سنة من العمل فيها، وأن تتفرغ لتطوير شغلها في المجال الفني. جاءتها فرصة لبداية الرحلة الجديدة رسميًا من خلال دعوة للمشاركة مع مشروع «بلدك» لفنون الشارع، لترسم غرافيتي على جدران عمان. طمأنت إدارة المشروع الرسامة بأن هناك نوعًا من «الموافقة الرسمية» من الأمانة على العمل، ودعمًا من مجموعة مؤسسات مجتمع مدني وبلديات. وكمواطنة غير معنيّة باتخاذ أي نوع من «المواقف السياسية»، لكن تود في الوقت نفسه أن يكون للوحتها معنى و أن تحمل «رسالة»، قررت دينا أن ترسم بطة.

اختارت دينا البطة لأنها من الكائنات الحية التي تتعرض لمضايقات وتحرش جنسي وحتى اغتصاب من ذكور البط، كما أنها لا تستطيع الطيران، «مثلنا كلنا رجال ونساء بمواجهة مجتمع يكسر الأجنحة بثقافة ممنوع وبزبطش»، بحسبها.

بعد أربع ساعات من العمل، دون تحضير ولا حتى رسم أولي جاهز، وكأن «الريشة تتحرك وحدها»، وبعد بضعة تعليقات من الشباب المارين في الشارع أهمها «إيش يا بطة»، صارت في عمان بطة سوداء بطول مترين، جناحاها مكسوران، حوّلت الحائط عند جسر وادي صقرة من بقعة رمادية إلى إطار لتلك الرسمة (أعلاه).

«حسيت بفخر كبير. شعرت بأني صرت صوت جديد بعمان»، تقول دينا.

لم يكتب للبطة أن تعيش أكثر من ليلة واحدة. دُهن الحائط بعد ذلك بليلة واحدة ودُفنت البطة تحت الدهان.

«شعور غريب، وبنفس الوقت بكسر القلب»، تقول دينا. «شعور كأنك مش فاهم إشي، شعور بالرفض من مدينتي اللي ما بدها تسمعني، ولا حتى بدها تقدّر الجهد اللي عملته بأني أعملها شوي صغيرة أحسن وأحلى. ما عندي استنتاج، لكن هذه التجربة بتخليني بدي أعمل أكثر».

قد لا يكون لدى الرسامة استنتاج من تلك التجربة، لكن يمكنني استنتاج التالي: اختارت مجموعة لا بأس بها من الأردنيين أن تعيش في «قوقعة» لتستطيع التعايش مع تراجع مستوى المعيشة في البلاد، وانكفأت على نفسها في مساحات معزولة محمية توفر لها نوعًا من أنواع السعادة وراحة البال، ولها كامل الحق في ذلك. هذه المجموعة غير معنية بالأوتوقراطية والاستبداد والحرية، وغير معنيّة بالتعديلات الدستورية والقوانين الانتخابية والصناديق الاستثمارية السيادية، بل تنحصر اهتماماتها خارج إطار العمل والتطور المهني والمناسبات الاجتماعية بين الأهل والأصدقاء في بعض الأمور الهامشية مثل الرغبة بتطبيق قانون منع التدخين في الأماكن العامة أو الامتعاض من أزمة السير وأخلاق الناس التي ترمي النفايات في الشارع، وقد تشارك في يوم تطوعي لتنظيف منتزه عمان مع حملة «الشغل مش عيب».

هذه المجموعة تجد مشاركتها الوحيدة في «الحياة العامة»، إن شاركت، هي في الدفاع المستميت عن «المنظومة» باعتقادها واهمة بأنها تحمي بذلك «مساحتها ودائرتها». دينا مثال لهذه المجموعة، فكما تعرّضت هي لصدمة بعد أن طار شغلها في ليلة، ستكتشف هذه المجموعة عاجلًا أم آجلًا أن المنظومة سوف تلتفت إليها وتعكّر عليها مساحتها والحياة الهانئة الوردية الافتراضية التي تعيشها، ليس لأن المنظومة تستهدفها، بل لأن في المنظومة خللًا ينعكس على الجميع. بالطبع، لن يؤثر عقم المنظومة على الفئات المختلفة ماديًا بالدرجة نفسها، لكن التأثير النفسي قد لا يتوزع بالطريقة نفسها.

قد نجد جانبًا لاذعًا من الحقيقة في النكتة القديمة القائلة إن «أطفال الشميساني لمّا يتقاتلوا بيحكوا لبعض: إن شا الله تروح تلاقي الفيديو خربان والكيت كات خالص». لكن هذه النكتة تتناسى أنه حتى عندما تكون تلك «أكبر» المشاكل، فإن تأثيرها النفسي سيكون ذا قيمة لأنها «أكبر» المشاكل، وقد يدفع، على بساطته، إلى الإحباط أو حتى للهجرة لمكان بارد، فيه كيت كات وفن وتكافؤ فرص وقانون، ومنظومة تعمل وتحمي الجميع وتوفر لهم أملًا بحياة أفضل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية