صُنع في الكرك

قصة مصورة

صُنع في الكرك

الأربعاء 25 نيسان 2018

في ربيع عام 1953، وبينما كان إبراهيم القضاة يتعلم أصول مهنة الرعي في بلدة مْحَيّ جنوب الكرك، كانت ابنة عمه «نعمة» طفلةً تتحضّر لتعلّم صناعة الجميد على نهج والدتها، مثلهما في هذا مثل معظم عائلات منطقة مْحَيّ الذين امتهنوا، في ذلك الوقت، الرعي وصناعة مشتقات الحليب.

كبرَ الثنائي وتزوجا عام 1964، و أسّسا أسرتهما معتمديْن على رعي الأغنام. بَنيا بيتًا، وأنجبا عشرة أولاد، وعلمّا أربع بنات في الجامعة وزوّجا ولدين؛ دون أن يشتغل الأب والأم في أي شيءٍ غير رعي الأغنام وحلبها وصناعة الجميد.

ورغم اشتغال أبناء البلدة، مع مرور السنوات، في الوظائف الحكومية والأجهزة الأمنية والجيش، بقيت الأسرة تعتمد في مصروفها السنوي على دخلها من العمل في الحلال والجميد فقط. تعمل من بداية موسم إنتاج الحليب في شهر شباط وحتى تموز.

في هذه القصة المصوّرة، ذهبنا إلى مْحَيّ، التي تقع في قضاء المزار الجنوبي في الكرك، والتي يبلغ عدد سكانها 4500 نسمة، لنتتبّع صناعة الجميد في عائلة إبراهيم ونعمة القضاة وأولادهما.

إبراهيم القضاة وزوجته نعمة في مخزن العائلة

كحاله في كل ليلة، أحضر يوسف الحليب من المرعى، ووضعه في دلو كي يبرد، ويصبح لبنًا رائبًا. ومع الفجر استيقظت أمّه، وبدأت عملية الخض.

منذ نحو عشر سنوات، أصبح الخضّ أسهل على السبعينيّة نعمة، لأن العائلة بدأت باستعمال الخضّاضات الكهربائية، بعد أن كانت، ولسنوات، تخضّ اللبن يدويًا في قربة مصنوعة من جلد المواشي، وهي العملية التي كانت تستهلك الكثير من وقت الأم، وتسبّبت لها بأوجاع: «بالليل ما بنام، هسا عالصبح ببلش أشتغل وبروح الوجع». الخض هو المرحلة الأولى في صناعة الجميد، فعبره تطفو الزبدة على سطح اللبن وتصبح سمنًا، وبه يتكون «الجِبْجِب»، أي اللبن المصفّى من الماء والزبدة، والذي سيصبح لاحقًا لبنًا جميدًا تطبخ به الأسرة معظم طعامها.

تستيقظ نعمة فجرًا لتبدأ بتحضير الحليب

 يُفصل اللبن عن طبقة المُصل بالتسخين وإضافة الماء

بعد ساعة، تقريبًا، من تشغيل الخضّاضة، تماسكت الزبدة على سطح اللبن، ساعد في ذلك كميات من الماء أضافتها نعمة خلال الخضّ، وفصلت الزبدة الناتجة عن اللبن أو «الجبجب» الذي وضعته على نار هادئة في انتظار عودة سهى من عملها لتكمل صنع الجميد.

سهى: «فيكي حيل، ما فيكي حيل، بدك تشتغلي»

تؤدي سهى صلاة الظهر بوصفها وقتًا مستقطعًا بين عمليها. الأول يمتد من السابعة صباحًا وحتى الواحدة ظهرًا، معلمةً للصفوف الابتدائية في مدرسةٍ في محيّ، والثاني يبدأ من الواحدة والنصف حتى ساعات المساء في مخزن العائلة، تقوم خلالها بتصفية «الجبجب» وكبسه وتشكيل رؤوس الجميد وتشميسها وتنظيف المكان، واستقبال الحليب الذي يحضره شقيقها يوسف في المساء وتجهيزه، وغيرها من الأعمال المنزلية.

«مهي فترة، وعالشتوية بنتريح» تعقّب الثلاثينيّة سهى على عملها في وظيفتين. والوظيفتان، بالنسبة لها، «ضرورة». فهي لا تستغني عن فكرة عملها الخاص واستقلالها المادي، وفي الوقت ذاته لا يمكنها أن تتوقف عن دورها في المساعدة في مصدر رزق العائلة. «فيكي حيل، ما فيكي حيل، بدك تشتغلي، شغل الحلال ما لازم يتراكم».

يحتاج «الجبجب» لنحو يوم كامل، على الأقل، تحت المكبس كي يصبح جاهزًا

تبدأ سهى عملها في المخزن بفصل اللبن عن طبقة المُصل التي تكونت بسبب إضافة الماء سابقًا خلال الخض. ولا يدخل هذا المصل (حامض الطعم) في صناعة الجميد، ولذا تضعه في أوعية ترسلها للمرعى كي يشربها الحلال، أو تعطيه لمن يحتاج من مرضى الكلى والحصى، لأن هذا المشروب، بحسبها، مفيدٌ لهذا النوع من الأمراض.

أما اللبن فيخضع لمرحلة تصفية وكبس، للتأكد من خروج المصل، ومن أجل زيادة تماسكه كي يصبح سهل العجن والتشكيل. وتضيف عليه الكثير من الملح لحفظه وتعقيمه وإبعاد الذباب وحماية رؤوس الجميد من التعفن لاحقًا. يحتاج «الجبجب» لنحو يوم كامل، على الأقل، تحت المكبس كي يصبح جاهزًا «للزّعْمَطة»، وهي عملية تشكيل رؤوس الجميد.

قد تبدو عملية تشكيل رؤوس الجميد للوهلة الأولى سهلة: «ابن أختي بفكرني بطبّل، بقوم يرقص كل ما بَزعمِط» تقول سهى تعقيبًا على صوت يديها وهي تشكّل الجميد، إلّا أنّ عملية الزعمطة هذه تتطلّب جهدًا كبيرًا كي تضمن سهى عدم دخول فقاعات من الهواء إلى رأس الجميد: «لو في هوا بعفّن الجميد».

«ابن أختي بفكرني بطبّل، بقوم يرقص كل ما بَزعمِط»

تعجن سهى اللبن المصفّى

وبحسب سهى، فإن ما يميّز جميد عائلة عن جميد عائلة أخرى هو كمية الملح المضافة، ونوعية الحليب، والمهارة في استخراج كامل الزبدة من الجبجب.

ولا ينتهي يوم سهى إلّا بعودة شقيقها يوسف من المرعى، محمّلًا بالحليب الذي أنتجته الأغنام، لتقوم بوضعه في الدلاء الخاصة، وتجهيزه لوالدتها التي ستستيقظ فجر اليوم التالي، لتكرّر العملية نفسها.

يوسف: «من القطرانة لحدود الكرك، مفتوحة للكل»

مع حلول كانون الثاني/ يناير، يطلُع العشب، وتصبح المراعي مهيأةً للموسم الجديد، والذي يستمرّ باستمرار هطول المطر.

يعمل يوسف في رعي الغنم منذ أكثر من 15 عامًا

أفضل المواسم، كما تقول العائلة، هي التي تشهد هطولًا للأمطار في شهري آذار ونيسان، وأسوأها التي يتوقف شتاؤها في شباط.

قلة الأمطار تعني أن يرحل يوسف وإخوته مع القطيع إلى أماكن أبعد، كما حدث عام 2014، عندما أقام الأبناء في بيوت الشعر في منطقة مريغة في محافظة معان كي يرعى الحلال فيها بعد قحل مراعي بلدتهم، وبسبب بُعد المسافة عن المنزل؛ باع الأبناء الحليب الذي أنتجته الأغنام تلك الفترة لصنّاع الأجبان الذين كانوا يقابلونهم على الطريق وبسعر زهيد، إذ لم يكن مجديًا توصيل الحليب يوميًا للمنزل. يقول إبراهيم إن هذا الأمر حدث من قبل عام 1984، عندها رحل الجميع إلى عجلون وأقاموا لـ35 يومًا كي يرعى الحلال.

أمّا في الموسم الجيد، كهذا العام، فيبقى الحلال في محيّ، ويتناوب الأبناء على رعايته طوال اليوم، لكن يبقى يوسف هو المشرف الأساسي عن المرعى لتفرّغه للمهنة.

يساعد الأقارب والأحفاد في حلب الأغنام

مع ساعات العصر يذهب الأبناء للمرعى، ويبدأ يوسف في تربيط رؤوس الأغنام وتشبيكها كي يسهُل حلبها.

لم يرغب يوسف في العمل بالقطاع الحكومي مثل شقيقه الأكبر، ولا في الأجهزة الأمنية كأشقائه الأصغر، إذ استهوته مهنة والده، وقرر أن يتفرغ لها بعدما أنهى المرحلة الثانوية.

يفضّل يوسف عمله في الرعي على أي عمل آخر: «بكفي الراحة النفسية فيه». لكنّه كذلك يصفه بالمتعب لأنه يحتاج إلى الكثير من الطاقة والترحال. أمّا والدته، فتقول إن عمل ابنها في الرعي هو سببُ عدم زواجه: «بنات اليوم بسألن شو بشتغل؟ راعي؟»، أمّا هو فيعلّق ضاحكًا أنه لا يريد الزواج من امرأة لا تقدّر عمل رعاة الأغنام.

«من القطرانة لحدود الكرك، مفتوحة للكل» يقول يوسف عن مساحات الرعي المتاحة. في داخل محيّ ومحيطها يرعى الحلال في أراضي عائلة القضاة أو العائلات المجاورة بناء على اتفاق مسبق، مثلًا في جانب مرعى أغنام إبراهيم القضاة هناك أرض لعائلة أخرى. اتفقت العائلتان أن تزرع عائلة إبراهيم الأرض كي ترعى المواشي، وتدفع لقاء ذلك ما تطلبه العائلة الأخرى من الجميد والسمن طوال الموسم، كما توضح سهى.

دفعت عائلة إبراهيم، في العام الماضي 10 آلاف دينار، ثمنًا للأعلاف

إلا أن تلك الاتفاقات لا يمكن أن تعوّض عن شراء الأعلاف مثل الشعير والنخالة، التي تستنزف قدرًا كبيرًا من دخل الأسرة سنويًا. خاصة مع انخفاض أسعار الأغنام وصعوبة الأوضاع الاقتصادية عمومًا.

نعمة: «اللي عنده غنم ما هو طفران»

تعيش عائلة إبراهيم ونعمة على بيع الأغنام وما تنتجه من جميد وسمن. يقدّر يوسف إنتاج العائلة السنوي من الجميد بنحو 100 رطل، و40 «نُصّية» من السمن. يبلغ سعر رطل الجميد ثلاثين دينارًا، وهذا السعر، بحسب يوسف، هو ما يدفع العديد من أهالي محيّ لشراء رؤوس الجميد «بالحبّة» بدلًا من شراء رطل كامل.

يشكّل لبن الجميد العنصرَ الأساسي في معظم أغذية العائلة، فبالجميد تطبخ العائلة المنسف والكوسا والرَّشُوف والمدقوقة، وقد يوضع بوصفه طبقًا جانبيًا مع إبريق الشاي في ساعات العصر. أمّا حاجة العائلة من اللحوم فتوفّرها تربية الحلال والدجاج، وحاجتها للخبز توفّرها زراعة القمح، وبذا تكون العائلة قد وفّرت معظم احتياجاتها من الطعام.

تقول نعمة: اللي عنده غنم ما هو طفران

قد لا يتفق جميع أبناء إبراهيم على خيار العيش في مهنة رعي الأغنام وصناعة الجميد. الابنة الصغرى، عبير، قررت أنها لن تمتهن صناعة الجميد، خاصة وهي تشاهد تعب والدتها وشقيقاتها وهنّ يصنعن ويشكّلن الجميد والسمن على مدار السنوات. لكن يتفق جميع أفراد العائلة أن هذا النوع من الحياة يحقق لهم الاكتفاء الذاتي و «السترة»، وهي الفكرة التي تعبّر عنها نعمة بالقول: «اللي عنده غنم ما هو طفران».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية