حين كانت لدي مدونة معروفة، وكنت أكتب بانتظام وكثرة، كانت الكتابة عن وسط البلد إحدى أكثر الموضوعات المفضلة لدي. اعتبر نفسي ابن وسط البلد، ويكاد لا يمر يوم بدون أن أنزل إلى «البلد»، كما كنا نسميها زمان، وقبل أن يخترع أحدهم تسمية «وسط البلد».
تعلقي بوسط البلد دفعني ليس فقط للتجوال شبه اليومي في شوارعها وأزقتها وأسواقها ومقاهيها وباراتها، بل لتجميع وقراءة كل «تقريبًا» ما كتب عنها أيضًا. وكنت في تجوالي أو قراءاتي أحاول رصد تحولات المدينة، المختلف على «مدنيّتها». هذا الخلاف على «عمّان»، على ما إذا كانت مدينة أم لا، ناتج عن تصورات «المثقفين» أساسًا لما هي «المدينة». أو كما يقول الروائي والقاص العمّاني، إلياس فركوح، عن الغائب الحاضر غالب هلسا:
يبدو أنَّ «رؤية ومفهوم» المدينة لدى غالب هلسا، وعلى نحو مبكِّر، تمثلا في ما هو ليس بـ«عَمّان» بوصفها عاصمة وطنه. لا بل نجده، في غير مكان ومناسبة، يمارس عليها نقدًا مريرًا وصل درجة النفور فالرفض. وأكاد أنتهي إلى أنّه رأى فيها مكانًا أضيق من أن يتسع لطموحه في أن يكون «كاتبًا» و«مثقفًا» – بالمدلول الأرحب من «كاتب ومثقف أردني».
وسط البلد بطلًا للرواية
ولا يمكنني الحديث، أو الكتابة أو التجول في «صحن البلد» دون أن ترد أعمال فركوح فورًا، وأبدأ بالتذكر معه واستعادة الامكنة وتحولاتها، كما تحولات المدينة نفسها. فحضور «عمان» في روايات وقصص إلياس فركوح هو حضورٌ فريد، ففركوح هو الروائي «العمّاني» الوحيد الذي جعل من المدينة، ومن وسط البلد بالتحديد، مسرحًا لأغلب، إن لم أقل كل أعماله، خاصة قصته الطويلة «طيور عمان تحلق منخفضة»، وروايات «أعمدة الغبار»، التي تبدو تطويرًا للقصة السابقة، و«غريق المرايا» و«أرض اليمبوس». ففي روايته «أعمدة الغبار» يكاد يكون «وسط البلد»، أو «صحن البلد» كما يسميه فركوح، «بطل» الرواية، وعلى كلٍ فعمان عند فركوح هي تقريبًا وسط البلد فقط، لم يغادرها إلا إلى «الشميساني» في روايته «أرض اليبموس».
«كانت المدينة تأتي من النافذة خرساء بلا صوت»، يقول فركوح في «أعمدة الغبار» (ص 23). للنافذة هنا مدلول رمزي بالطبع، في مراقبة المدينة ورصد تحولاتها بعين المراقب، لكن الأهم هو نافذة فركوح الحقيقية التي كان يجلس عليها عندما كان طفلًا في أربعينيات وخمسينيات القرن، ويطل منها على «صحن البلد» يراقب أحداث وناس «مدينته الحجرية»، ومنها يقرر أنه «سيرمم الأنقاض ويعيد بناء ما حدث» للمدينة عندما يبلغ الأربعين، وهو ما فعله في رواياته سابقة الذكر.
فركوح هو الروائي «العمّاني» الوحيد الذي جعل من المدينة، ومن وسط البلد بالتحديد، مسرحًا لأغلب، إن لم أقل كل أعماله.
لم يكتب أحد عن عمّان وعن «وسطها» كما كتب فركوح. وبعيدًا عن «النقد» الأكاديمي لأعماله، فهو يكتب عن المدينة كما لو أنه نصّب نفسه مدافعًا عنها أمام كل من يعتبرها «محطة» مرور، مثل «البدوي سلطان»، الذي أتى المدينة من الصحراء، حالمًا بأن يغادرها إلى بيروت التي تحلق طيورها عاليًا، وتتيح له الشهرة، على عكس عمان ذات «السقوف الواطئة». لكن سلطان سيبقى في عمان، وسيتخلى عن «حلمه» في السفر والتحليق عاليًا في بيروت، لكنه بقاء كـ«الرحيل»، فهو لن يعيش المدينة وفي المدينة، لكنه سيحاول «اغتصابها» وجعلها على «صورته» بعدما أتيح له أن يمتلك «السلطة»: «البداوة تدخل المدينة لتطهرها، الخشونة تدخل الرخاوة لتصلبها»، «بهاتين اليدين سأدير العالم نحوي»،«لن أدع مدينتك تأكلني»، هكذا يقول سلطان في «أعمدة الغبار».
أو مثل «الفلاح» زكريا النازح لعمان من الضفة الغربية، والمناضل السياسي، الذي لم تعني له عمان شيئا سوى أنها «نقطة ارتكاز» فقط، وسيهجرها عندما تتاح له الفرصة. وحده «نصري»، أو إلياس فركوح نفسه، الشخصية الثالثة في «أعمدة الغبار»، ابن المدينة، يعيش فيها وتعيش فيه، وعليه أن يتصدى لسلطان وزكريا، مدافعًا عن مدينته. لكن «نصري» ليس رومانسيًا في التعامل مع مدينته، فهو يعرف حدودها وتحولاتها ومشاكلها، وحتى فقدانها طابعها الخاص وتمددها وتحولات العمارة فيها، وظهور طبقات جديدة ومحدَثي نِعَم حوّلوا المدينة إلى «أضحوكة».
على كلٍ، أكثر ما يعجبني في روايات إلياس فركوح عن «صحن البلد»، وسط عمان، ليس رصده تحولات المدينة، والخلاف عليها، بل حضورها «الفيزيائي»، ففي كل روايات فركوح تحضر عمان بكل ما فيها، بأسماء الأماكن، والشوارع، والبنايات، والمقاهي، والمطاعم، والبقالات، والبارات والحانات، ودور السينما، والأسواق، والجسور، والسيل «قبل أن يسقف كما لو كان فضيحة»، وحتى آثار رصاص المعارك التي تركتها الأحداث التي تلت أيلول عام 1970 على أحجار أبنيتها، والتي ما يزال بعضها واضحًا إلى الآن.
مع روايات فركوح نستعيد مثلًا بارات ومقاهي مثل الشهرزاد، مقابل سينما زهران، ومحل غارو، والديبلومات، ومقهى العمال، ومقهى حمدان، وحمام النصر، ونستعيد جسور السيل الحجرية، وفندق فيلادلفيا، ومقر رئاسة الوزراء، وعشرات الأمكنة التي اندثرت، أو تحولت مثلما تحول «بار السلمون» إلى محل لبيع الدي في دي، أو تحولت «مطاعم الأوتومات» إلى محال لبيع الدي في دي والأراجيل وحمام جفرا.
من «بار للطنطات» إلى مطعم عائلي «نظيف»
المهم، عندما بدأت الكتابة في مدونتي عن «عمان»، ربما عام 2007، كان «صحن البلد» يبدو «أستتيكيا» جامدًا، وكأن الزمن توقف عن لحظة محددة. كان وسط عمان يبدو كما لو أنه هجر أو نسي تمامًا، وكان حاله يتراجع يومًا عن يوم.
لكن الحال هذا اختلف في السنوات الخمس الاخيرة، فصحن البلد، أو وسط عمان لم يعد كما كان عليه. فجأة بدأت الناس تكتشف هذا المكان المهجور، الذي كان يومًا ما مركزا للدولة ومؤسساتها، ومركزًا للأثرياء ومحالهم ووكلاتهم، قبل أن يتدهور حاله ويصبح عند البعض «قاع المدينة»، بما يعنيه هذا القاع اجتماعيًا. بات ممجوجًا قول القاص يوسف إدريس «خبرك بعمان قرية»، وأنا اقول الآن «خبرك بوسط البلد خرابة».
«صحن البلد» انتقل من مركز للدولة وللأثرياء إلى «خرابة» عندما زحفت الطبقات العليا أو هاجرت إلى أمكنة جديدة بعيدة عن «حواف الصحن». والآن يعود وسط البلد مركزًا للطبقة الوسطى المتنامية، والعائدة بقوة إلى «الأصالة» و«التراث». وقد يكون هذا جزءًا من تجليات ما يسميه بعض المفكرين «ازمة الهوية». وصار «صحن البلد» يطرد «مهمشيه» الذين كانوا قد وجدوا في بعض مقاهيه وباراته ومحاله ملاذًا لهم.
اليوم، لم يعد بار «الأوبرج» هو بار الأوبرج الذي عرفناه، ولا مطعم الشرق أبو أحمد هو نفسه الذي كان، وبقالة سارة لبيع الأسماك صارت مطعمًا يكاد ينافس «المحيط»، ولم يعد بار السلمون الصغير أو بار الأردن أو الهيلتون يكفي رواد «الوسط» المتكاثرين، فصار لهم مطعم «زوربا» مثلًا، وتوسعت المطاعم القديمة وتغيرت تمًاما.
لكن من بين «أهم» المتغيرات هنا، كان «بار الكت كات»، هذا البار المتواضع جدًا، المحاذي لسينما «رغدان» التي كانت فخمة.
قد يكون «الكت كات» الذي تحول مؤخرًا إلى مطعم «شبه فخم» وعائلي، أفضل نموذج لرصد تحولات «صحن البلد»، فهذا البار الذي كان مشهورًا خارج الأردن قبل داخلها بأنه أحد أمكنة «تجمع المثليين جنسيا»* كان بالنسبة لسكان وسط عمان أو المترددين عليه بار «الطنطات» من الطبقات الدنيا، وكان دخوله مغامرة.
الآن يعود وسط البلد مركزًا للطبقة الوسطى المتنامية، والعائدة بقوة إلى «الأصالة» و«التراث».
تحول «الكِت كات» من بار صغير يجمع «الطنطات»، إلى مطعم من أربع طبقات، بديكورات جديدة ومريحة وبسيطة، وصار المطعم يستقبل «العائلات»، مثل بقية المطاعم المجاورة بعد أن تخلى وسط البلد عن «ذكوريته»، وصارت النساء يترددن على «صحن البلد» بدون خوف وغابت «الصورة النمطية» عن وسط البلد كمان ذكوري متوحش لأبناء «نفايات الطبقات».
تخلص «الكت كات» من «الطنطات»، ولم يعد لهم في وسط البلد مكان يجمعهم. يتفاخر عبد الله الشامي، مدير الصالة في المطعم بأنه استطاع طرد «الطنطات» في «ظرف أقل من اسبوع وتنظيف المكان منهم ومن قرفهم». ليصبح «الكت كات» مطعمًا عائليًا، يرتاده «عليّة القوم» كما يحلو للشامي أن يقول، وهو يعدد أسماء كبار الشخصيات التي صارت تتردد على المطعم، أو وهو يعرض الصالة الخاصة بالعائلات والأجانب.
والحال أن «وسط البلد»، حالها كحال «الكت كات»، بدأت هي الأخرى بطرد «مهمشيها» بعد غزوة الطبقة الوسطى هذه، فلم يعد مطعم هاشم مطعمًا لفقراء الوسط، ولم يعد سهلًا أن تشتري «وقية كنافة على الماشي» من كنافة حبيبة، وليس بوسع فقير أن يجلس في مطعم «سارة» أو «زوربا»، ناهيك عن «جفرا» الذي لم يعد «يساريًا».
«الكت كات» الآن يفخر «بنظافته» وسمعته الجديدة، وسط البلد صار «غير شكل»: محال فخمة، ودور نشر جديدة تفتح كل يوم، مثل صفحات وأيام والبيروني وغيرها، مطاعم جديدة، حمامات تركية جديدة «ألمع وأنظف من حمام النصر» الذي هدم وبني مكانه بناية تجارية لبيع الألبسة الشعبية، وانتقل الحمام إلى «سوق السقط» سابقًا، ليتحول اسمه إلى «حمام محمد نور»، وفندق الملك غازي أعيد تجديده ليصبح «ملتقى ثقافي».
كثيرة هي متغيرات «صحن البلد»، وصعب رصدها، لكنه بالتأكيد لم يعد صحن البلد الذي كتب عنه فركوح، أو الذي كنت أعرفه حتى قبل خمس سنوات.
* استخدم «مفهوم المثلية» هنا تجاوزًا، فعلى رأي جوزف مسعد في كتابه «اشتهاء العرب»، فإن هذا المفهوم لم يكن متداولًا قبل ظهور «المثلية العالمية» و«غزوها» و«غزو» مفاهيمها للعالم.
الصورة أعلاه من موقع Shutterstock.