كانت تلك أول مرة أجري فيها لقاءً صحفيًا مع فرد من عائلة ضحية لما يسمى «جرائم الشرف». غالبًا ما تسيطر علينا انطباعات وأفكار مسبقة تجاه الناس؛ فنصنفهم إلى أخيار وأشرار، وبنظري كان القاتل في «جريمة الشرف» حتمًا شرير. لكن بعد التقرير الذي أجريت هذه المقابلة لأجله، والمنشور في جريدة الغد، كان علي أن أعيد النظر في تلك التصنيفات.
كلامي هذا ليس بأي حال من الأحوال دفاعًا عن الجناة، بل إدانة لمجتمع لا يرحم. مجتمعٍ يشبهني يصنف البشر إلى فئات، ويفرض تصنيفاته على غيره حتى يدفع بهم ليتحولوا إلى مجرمين وقتلة في جرائم هم أساسًا ليسوا مقتنعين بها وبأسبابها؛ جرائم ستسبب لهم جرحًا أبديًا.
قبل أيام، وأثناء حديث مع مديرة مركز العدل للمساعدة القانونية هديل عبد العزيز، أخبرتني أن المركز تمكن من إصدار أوراق رسمية لطفل قتلت والدته في «جريمة شرف». بادرتها بالسؤال هل من الممكن الوصول إلى عائلة أم الطفل الضحية، وتواصلت بعد ذلك مع المحامية التي تمكنت بدورها من إقناع جدة الطفل بالحديث.
القصة باختصار أن شابة يافعة في مقتبل سنوات حياتها تغيبت عن منزل أسرتها لعام ونصف، وخلال تلك الفترة سمعت أسرتها أنها حملت وأنجبت طفلًا، دون معرفة أي تفاصيل أخرى. استمر الأشقاء الذكور في البحث عن شقيقتهم حتى وجدوها في شقة مع طفلها، توسلت الأم أن تحضن وتقبل ابنها قبل موتها وهذا ما تم. أوصت برعاية الطفل، وبعدها اقترف الأشقاء جريمتهم بحق شقيقتهم.
عقب الجريمة، حمل أحد الأشقاء الطفل إلى منزل أسرته وسلمه للجدة وأوصاها به تنفيذًا للوصية، ثم سلم نفسه للشرطة، ليكبر الطفل في بيت جديه معتقدًا أنهما والداه. تقول الجدة، في وصفها لحبها لحفيدها: «أول مرة شفته كأنّي شفت بنتي، بيشبها كتير. حبيته من كل قلبي».
بتردد كبير، سألتُ الجدة «هل كنت تعلمين أن أبناءك سيقدمون على قتل شقيقتهم؟»، وبتردد، أردفت سؤالي بسؤال آخر: «هل يشعر أبناؤك بالندم اليوم؟».
الأشقاء ليسوا مجرمين في الأصل، بل المجتمع وغياب الدعم من جعلهم كذلك.
«يا بنتي أنا لو بعرف إنه رح يقتلوها ما خليتهم. يمكن كان عرفنا مين الأب وحلينا المشكلة، وكان هلّأ البنت بينّا اليوم، بس هذا اللي صار. بنتي ماتت، وأولادي انحبسوا عشر سنين». وتتابع حديثها «ما عمري فتحت الموضوع، بس [هم] أكيد زعلانين، هاي أختهم. الولاد بحبوا ابن أختهم كثير، حتى بعد ما طلعوا من السجن بيعاملوه كإنه ابن إلهم، بيحنّوا عليه».
توقفت كثيرًا عند هذه العبارات، فالأشقاء ليسوا مجرمين في الأصل، بل المجتمع وغياب الدعم من جعلهم كذلك. تخيل أن تكون في بيئة محافظة وتتعرض للضغط ذاته يوميًا: «أقتلها أقتلها»، ومقابل هذا الضغط غياب أو ضحالة للدعم الاجتماعي والنفسي.
تغيب فتاة عن منزل عائلتها بغض النظر عن أسبابه كفيل بوصم عائلة كاملة، لتتحول خلال ساعات إلى أسرة هشة مستضعفة، تتعرض لضغوطات من المحيطين للأخذ بالثأر وتطهير «شرف العائلة»، ليقع الاختيار غالبًا على الأصغر سنًا لارتكاب بالجريمة باعتبارهم أكثر قدرة على تحمل سنوات السجن. ويتناسى المحرضون أن عيارًا ناريًا أو طعنة سكين تزهق روح إنسانة، فيما يبقى شاب في مقتبل العمر حبيس قضبان حديدية وتأنيب ضمير يستمر معه حتى آخر يوم من حياته.
في المقابل، تتخلى الدولة عن مسؤوليتها تجاه النساء المعرّضات لخطر القتل تحت بند «الشرف»، إذ يستثنين من خدمات الحماية التي توفر للنساء المعنفات. توفر الدولة، عبر إدارة حماية الأسرة التابعة لمديرية الأمن العام ودُور الوفاق الأسر التابعة لوزارة التنمية الاجتماعية، الحمايةَ للنساء المعنفات ضحايا العنف الجسدي وضحايا الاعتداءات الجنسية، لكن تلك الدُور لا تقدم خدماتها للنساء البالغات ممن أقمن علاقات رضائية.
بذلك، يبقى التعامل مع هذه الحالات أمنيًا بحتًا، لتُحوّل الفتاة إلى المحافظ الذي يأمر بإيداعها في السجن في إطار التوقيف الإداري، وفي حالات أخرى توجه لها «تهمة الزنا». وما من مدة محددة للتوقيف الإداري، فقد يستمر مدى الحياة وقد تمارس ضغوطات لإطلاق سراح الضحية ليتم قتلها لاحقًا على أيدي أحد أفراد أسرتها.
وفي حال كانت الضحية «محظوظة»، قد تحظى بفرصة حياة جديدة بعد الزواج من شريكها، أو إيجاد حل عبر واسطات من مؤسسات مجتمع مدني أو شخصيات مجتمعية تتصف «بالحكمة».
تتخلى الدولة عن مسؤوليتها في أهمية توفير الدعم النفسي والاجتماعي عبر مراكز متكاملة للضحايا المحتملات أو الناجيات من «جرائم الشرف». على مدار سنوات طالبت منظمات مجتمع مدني بوجود هذه المراكز التي تشمل خدماتها الضحية وعائلتها، لتنتشل العائلة من حالة الهشاشة إلى الاستقرار، عبر خلق حلول مجتمعية ودعم نفسي ومتابعة مستمرة.
هذه المراكز كذلك يتوجب أن تقوم بدور توعوي وتثقيفي، تشمل الثقافة الصحية والإنجابية لليافعين، والتوعية بالتبعات القانونية والاجتماعية الخطرة لاقتراف جرائم تحت مسمى الشرف.
سنويًا، يُقدر عدد ضحايا «جرائم الشرف» في الأردن بـ20 إلى 30 ضحية، لكن هذا العدد من القتيلات يقابله عدد مماثل لعائلاتهن التي ما يزال أفرادها ضحايا أحياء «للشرف» والمجتمع الذي يدّعي الدفاع عنه.
* الصورة من موقع شترستوك.