mental health jordan

الصحة النفسية في الأردن: ماذا بعد محاولات الانتحار؟

الصحة النفسية في الأردن: ماذا بعد محاولات الانتحار؟

الخميس 11 شباط 2016

تصميم حسام دعنة

في الخامس والعشرين من تشرين الثاني الماضي، جلس كل من وزير الداخلية ووزير الدولة لشؤون الإعلام ومدير الأمن العام ومدير الأمن الوقائي وأخصائيٌّ نفسي ومدير الطب الشرعي بوزارة الصحة، في مؤتمر صحفي أجابوا فيه على تساؤلات حول قضايا شغلت الرأي العام حينها، أبرزها قيام رجل أمن بإطلاق النار في مركز تدريب للشرطة  بالأردن، وحادثة سقوط شقيقتين من إحدى البنايات.

قبل عقد المؤتمر بشهر أقدم أب على حرق نفسه وأفراد عائلته بعدما أشعل النار بسيارته بحسب الرواية الأمنية، عازيًا الأمر حينها لخلافات أسرية، سبقها بعدة أشهر قيام أم بقتل ثلاثة من أطفالها نتيجة إصابتها بأمراض نفسية بحسب ما خلصت له محكمة الجنايات الكبرى مؤخرًا.

في ذلك المؤتمر الصحفي، أرجع المسؤولون تلك الحوادث لأسباب تتعلق باضّطرابات أو أمراض نفسية، وانتهى المؤتمر وانتهت الأسئلة، على اعتبار أن تلك مبررات كافية لإغلاق ملفات شغلت الرأي العام. لكنها في الواقع تفتح باب مساءلة للدولة عن واقع الصحة النفسية بالأردن.

محاولات انتحار طُويت ونُسيت

IMG_8784
حاول داوود الانتحار أربع مرات خلال إصابته بالاكتئاب.

داوود (اسم مستعار)، شاب ثلاثيني غير متزوج حاول الانتحار أربع مرات، وصل للمستشفى في ثلاث منها، وهي الحالات التي استخدم فيها مشرطًا محاولًا قطع شرايين يديه. في المرات الثلاث تم تقطيب الجرح دون أن يخوض معه أي من الأطباء نقاشًا جادًا حول سبب الجروح. «كان يحكيلي شو هاد؟ احكيله جرحت حالي، ويقطب الجرح».

حالة داوود لم تدفع الأطباء لاتخاذ أي إجراء من قبيل إحالته لجهة مختصة، سوى في مرة واحدة استدعى فيها الطبيب رجل الأمن في المستشفى لشكّه بأن الجرح ناتج عن مشاجرة، وانتهى الأمر مع ضابط الأمن بعدما أكد أبناء عمومة داوود بأن الأمر لا علاقة له بأي مشاجرة.

بدأت قصة داوود مع التفكير بالانتحار بعد «إدمانه» على الأدوية المهدئة التي أصبح يحصل عليها دون وصفة طبية، بحسب ما يروي لحبر، رادًا بداية قصته مع المهدئات إلى عام 2003، حيث كان يعمل مع إحدى المنظمات الدولية المختصة في إغاثة اللاجئين العراقيين، ما تطلب منه التوجه إلى العراق عدة مرات خلال ذلك العام، والعمل مع اللاجئين العراقيين في الأردن، حيث بدأ يشعر بحالات الأرق والقلق نتيجة مشاهداته.

«بدأتُ بأخذ الحبوب المهدئة حتى تساعدني على النوم بداية الأمر، وهي حبوب (الزنكس) ثم تطور الأمر حتى أصبحت لا أستطيع النوم بدونها، وما زاد الطين بلة أنني أصبحت مدمنًا على الكحول أيضًا، فأصبحت النتيجة مضاعفة».

لم توفر المنظمة التي كان يعمل بها داوود طبيبًا نفسيًّا للعاملين بها، بل كانت حريصة على وجوده للتعامل مع اللاجئين الهاربين من الحرب فقط، وفق ما قال، فتوجه من تلقاء نفسه لطبيب نفسي طالبًا المساعدة للإقلاع عن إدمان الحبوب والكحول.

IMG_0585

 

لم يلق وائل سوى التوبيخ من عائلته بعد محاولته الانتحار.

بعد محاولات داوود الانتحار، صادرت العائلة كل ما يمكن له أن يستخدمه لإيذاء النفس من منزله، وأقام أحد أقاربه معه لفترة طويلة للعناية به، في اهتمام عائلي لم يجده وائل (اسم مستعار) الذي عاش تجربة شبيهة.

مرّ وائل بأزمة مالية قبل عدة سنوات، لم يجد خلالها دعمًا معنويًا من المحيطين به، حسب ما قاله لحبر، وبالأخص من والده الذي كان «قاسيًا» في التعامل معه، ما دفعه لمحاولة الانتحار في المرة الأولى عبر تناول 30 حبة «فاليوم»، أدخلته في غيبوية ليومين، حيث نقل لمستشفى خاص بعدما لاحظت زوجته خروج الزبد من فمه، وهناك أسعف ونقل لمستشفى الجامعة حيث أفاق من غيبوبته.

ويذكر وائل بأنه شاهد ضابط شرطة يتحدث مع عمه، لكنه لا يذكر من تفاصيل الحديث أكثر من ابتسامة الضابط الذي «لفلف الموضوع»، بحسب ما قال وائل لحبر.

تشير تقارير المركز الوطني لحقوق الإنسان إلى تزايد عدد محاولات الانتحار وأعداد المنتحرين في السنوات الأخيرة، ففي عام 2012 تحدث تقرير المركز عن «تصاعد ظاهرة التلويح بالانتحار» بينما رصد ذات التقرير لعام 2013 417 حالة، ولم يذكر عددها في تقريره لعام 2014.

لكن مما يتضح من أرقام المركز، المأخوذة عن بيانات الأمن العام، فقد تزايدت أعداد من يقدمون على الانتحار فعلاً ما بين عام 2009-2015.

بيانات المركز الوطني لا تنقل الواقع بدقة، بحسب ما يوضح المركز نفسه، الذي يشير إلى أن بياناته «لا تعكس الأرقام الحقيقية لأعداد المنتحرين سنويًا بسبب عدم إحالة جميع الحالات للمركز الوطني للطب الشرعي من قبل الجهات القضائية». فمثلًا في عام 2014، الذي شهد 100 محاولة انتحار سجلها الأمن، «أحيلت منها فقط  63 حالة فقط للمركز الوطني للطب الشرعي»، بحسب المركز.

المستشفيات-03 (1)

لا تشريع خاص ولا بروتوكول للإحالة

آلية تعامل الأطباء والمستشفيات والجهاز الأمني مع محاولي الانتحار، والنظرة المجتمعية  لهم، لا تتناقض مع منهجية الدولة عمومًا في التعامل مع واقع الصحة النفسية، بحسب رئيس جمعية الأطباء النفسيين في الأردن د. محمد حباشنة.

يلوم الحباشنة المستشفيات الأردنية بسبب عدم إحالة أطبائها للمشتبه بمحاولتهم الانتحار إلى الطبيب النفسي، «كون الأمر اختياريًا وعائدًا للطبيب العام المناوب، الذي لم يتلقَ خلال دراسته للطب أي توعية حول أهمية الطب النفسي سوى (كورس) لأسبوعين خلال سنوات دراسته الست».

في المقابل، يقلل مدير عام المركز الوطني للصحة النفسي د.نائل العدوان من مسؤولية الأطباء في عدم إحالة محاولي الانتحار إلى أطباء نفسيين، مرجعًا المسؤولية الأكبر إلى الثقافة المجتمعية التي تخفي الحقائق وراء شبهات الانتحار، وبالرغم من تشديده على ضرورة إحالة المستشفيات لمن حاول الانتحار للطب النفسي، لكنه يوضّح بأن الإحالات إلى الآن «غير مُرْضية، فنسبة محاولي الانتحار أكبر مما يصل للأطباء النفسيين».

مع أن وزارة الصحة تقدم جميع خدماتها النفسية مجانًا، إلا أن منظمة الصحة العالمية تُقدر أن الإنفاق على الصحة النفسية في الأردن لم يتجاوز عن 2% من مجمل النفقات الصحية في عام 2011

يعزو الحباشنة عدم الإحالة للطبيب النفسي إلى عدم وجود بروتوكول صحي ينظم تلك الحالات أو تشريعات ملزمة بالإحالة، «فما يحصل هو استدعاء للشرطة لمعرفة إذا ما كان الشخص أقدم على [محاولة] الانتحار أو أن آخرين آذوه، وبعدها يغلق الملف، فالتقييم النفسي غير إلزامي».

غياب بروتوكول صحي للتعامل مع محاولي الانتحار ليس استثناءً بالنظر إلى غياب التشريعات فيما يتعلق بالصحة النفسية، فالأردن لا تملك أي تشريع خاص بالصحة النفسية، إنما تحتكم في ذلك إلى أربعة بنود وردت في قانون الصحة العامة لسنة 2008، وهو ما تأخذه منظمة الصحة العالمية على الأردن في تقريرها لعام 2011.

«للآن لا يوجد هناك تشريع خاص» يقول العدوان، الذي يوّضح بأن لجنة وطنية في وزارة الصحة أقرت مسودة لقانون الصحة النفسية منذ عام 2012، ولا يعلم العدوان ماذا حلّ بمشروع القانون.

من جهته، يؤكد الناطق الإعلامي في الأمن العام المقدم عامر السرطاوي، بأن ضابط الأمن المناوب في المستشفيات الرسمية يقوم «بكتابة ضبط عن الحالة إذا ما استدعاه الطبيب المناوب في شبهة [محاولة] انتحار، وتجري الأجهزة الأمنية تحقيقاتها وتودع القضية للمدعي العام كموضوع أي دون تهمة، وهو الذي يتخذ القرار فيما يخص إحالة الشخص لأي جهة، كما ويتم تحويل حالات قليلة للحاكم الإداري لاتخاذ الإجراء اللازم»، أما الأحداث ممن حاولوا الانتحار فيوضح سرطاوي بأنهم «يودعون لمراكز حماية الأسرة لإجراء الدراسات الاجتماعية اللازمة».

ويشير السرطاوي إلى أن الإجراءات المتخذة من قبل الأمن تنطبق على الأشخاص الملوّحين بالانتحار أيضًا ممن يتمكن الأمن من إفشال محاولاتهم، وهي المحاولات «التي يواجهها الأمن بشكل شبه يومي»، بحسب السرطاوي.

ويلوم الحباشنة الجهات الأمنية لعدم وجود طبيب نفسي يقيّم الحالة النفسية للأشخاص محاولي الانتحار «لتقديم التشخيص المناسب واتخاذ قرار الإحالة لجهة ما».

ويأخذ الحباشنة على الجهات القضائية عدم استدعاء طبيب نفسي لتشخيص الحالة وتقييمها للأشخاص الذين حاولوا الانتحار عند الجهات الأمنية، أو لأولئك المقبوض عليهم بتهم جرمية لدى القضاء، والتي يطلب فيها المحامون في كثير من الأحيان إحالتهم للجنة طبية لتقييم مدى سلامة صحتهم العقلية والنفسية، وهو القرار الذي يعود لتقدير  الإدعاء العام أو القضاة بحسب المادة 233 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، «وهو ما يؤشر إلى عدم الاعتراف بأهمية الطبيب النفسي».

وفي الوقت الذي لا يوجد به ما يجّرم محاولة الانتحار في التشريعات الأردنية المدنية، تجرم المادة 46 من قانون العقوبات العسكري محاولة الانتحار بسبب الخدمة أو للاحتجاج عليها أو على القادة والرؤساء.

لم يقتصر غياب الاهتمام الخاص على التشريع، بل شمل الموازنة الخاصة بالصحة النفسية، فمع أن وزارة الصحة تقدم جميع خدماتها النفسية مجانًا، إلا أن منظمة الصحة العالمية تُقدر أن الإنفاق على الصحة النفسية في الأردن لم يتجاوز عن 2% من مجمل النفقات الصحية في عام 2011، وهي النسبة التي تزيد عن توقعات الحباشنة المقاربة لــ1% حاليًا، فيما لم يحددها العدوان مكتفيًا بأن الإنفاق على الرعاية النفسية يوفّر حسب الحاجة.

أعداد الاطباء والعيادات أقل من المأمول

تقولالمستشفيات بيانات منظمة الصحة العالمية، أن هناك 0.5 طبيب نفسي لكل 100.000 مواطن في الأردن لعام 2014، بعدما كانت النسبة 1.08 عام 2011، إلى جانب 0.27 معالج نفسي لكل 100.000 عام 2014، مرتفعة عن عام 2011 عندما كانت 0.17.

من جهته يقدر الحباشنة عدد الأطباء النفسيين العاملين في الأردن من القطاع الخاص بما يزيد عن 30 طبيب، و70 آخرين في القطاع العام، وهو ما يقارب تقديرات العدوان. وفي الوقت الذي تنتشر به العيادات الحكومية في جميع محافظات المملكة بمناوبات متفاوتة، تمركزت في عمان العيادات الخاصة التي يقارب عددها 30 عيادة، «وواحدة أو اثنتين في الزرقاء ومثلها في إربد»، بحسب الحباشنة.

من جهتها تجد دكتورة علم النفس الإكلنيكي فداء أبو الخير أن المعالجين النفسيين يقبعون خارج الاهتمام بالرغم من تأثيرهم في تحسين نوعية الخدمة المقدمة ومساهمتهم في تحسين الواقع.

تقول أبو الخير أن الأردن خرّج خلال السنوات العشر الماضية ما بين 15-20 ألف اختصاصي نفسي، منهم من لم يجد التأهيل المناسب الذي يمكنه من ممارسة المهنة بكفاءة، لكن نسبة لا بأس بها كان من الممكن استغلالها في العيادات والمؤسسات الطبية والرسمية.

«لا يوجد لدينا في الأردن جهة تمنح دكتوراة في علم النفس، وهناك جامعة واحدة تمنح الماجستير في علم النفس العيادي [الإكلنيكي]، وذلك مؤشر على قلة الاهتمام باستثمار العدد الكبير من خرّيجي علم النفس من الناحية الأكاديمية».

وتشير إلى أن عددًا من حاملي شهادة الماجستير في علم النفس يعملون في المدارس كمرشدين تربويين بدلًا من استغلالهم في عيادات الطب النفسي.

من يقيّم نوع الخدمة وجودتها؟

«شخّصني الطبيب بأني كنت مصاب بالإكتئاب، وأنا كنت أعرف وكنت أحتاج المساعدة، لكن الطبيب أعطاني المزيد من الأدوية، خلتني بس أفقد الطاقة، كنت أشعر بأني (مهدود) طول الوقت، وما كنت أرغب في استمرار هذا الحال». يقول داوود.

بعد مدة من مراجعة الطبيب النفسي، قرر داوود تركه والاعتماد على نفسه لتخطي الاكتئاب، بالأخص بعدما جرّب العديد من الأدوية التي كانت تصل كلفتها أحيانا لـ 450 دينار شهريًا، وفي إحداها أصيب بأعراض جانبية نتيجة تضارب مركبات الأدوية رفعت من مزاجه الاكتئابي وكانت سببًا في إحدى المحاولات بالانتحار.

يروي داوود تجربته مع إحدى العيادات النفسية قائلًا: «ذهبت، وجلست وبدأت الحديث، لم يستغرقني الأمر أكثر من 3 دقائق، قبل أن يعطيني الطبيب وصفة طبية لبعض الأدوية وانتهت الجلسة».

يقول الحباشنة أن عدد العيادات النفسية القليل نسبة لعدد السكان يجعل بعضها تشهد ضغطا كبيرًا من قبل المراجعين، قائلًا إن بعضها يستقبل «70 مراجع يوميًا»، في وقت يؤكد به العدوان أن عيادات عمان الاستشارية التابعة لوزارة الصحة قد تستقبل نحو 200 زيارة في بعض الأيام، حيث يعمل 4 أطباء يوميًا.

يوضح العدوان أن الأطباء النفسيين يتوزعون على المحافظات بموجب نظام المناوبات، «أي قد يتغير الطبيب النفسي المبعوث للمحافظة بعد عدة أشهر بحسب نظام المناوبات»، الأمر الذي  يشكّل تساؤلًا لدى أبو الخير حول نوعية الخدمة المقدمة، والتي «تتطلب وجود رابط ثقة بين المريض والطبيب والمعالج».

توضح أبو الخير الفرق بين المعالج النفسي والطبيب النفسي، «الطبيب هو الشخص الوحيد ذو الصلاحية بمنح الوصفات الطبية الدوائية، لكن ذلك يجب أن يتابع سلوكيًا، وهو دور المعالج النفسي».

بحسب بروتوكول متعارف عليه للأخصائيين النفسيين، فإن جلسة المعالج تتراوح بين 45 دقيقة – لساعة، تتكرر أسبوعيًا لمرة أو اثنتين، لذلك تجد أبو الخير أن تواجد الأخصائي النفسي في العيادات الطبية «ضرورة» يجب توافرها، لكنها غائبة في الواقع، حيث «أن الأعداد الكبيرة من المراجعين وقلة الأطباء النفسيين تشكّل عائقًا أمام منح الوقت الكافي للمريض، وما يفترض أن يحصل هو أن يتابع المعالج النفسي المريض بشكل دوري، تحت إشراف الطبيب النفسي».

المستشفيات-7704

المستشفيات-402

كلفة العلاج النفسي المرتفعة تضعه ضمن «الكماليات»

تحدد لائحة الأجور في نقابة الأطباء أسعار جلسات العلاج النفسي للزيارة الأولى والتي لا تتجاوز مدتها 45 دقيقة ما بين عشرين إلى أربعين دينارًا، وفي اتصال أجراه حبر مع ثلاث عيادات نفسية عشوائية، للسؤال عن أسعار الجلسات تراوحت أسعار الجلسة الأولى من 50-70 دينارًا، كما تراوحت مدة الجلسة بين النصف ساعة والساعة.

لا يخضع العلاج النفسي لبوليصات شركات التأمين، بحسب الحباشنة وهيئة التأمين، في الوقت الذي يتلقى به زوّار العيادات الحكومية الصحية من الأردنيين علاجًا مجانيًا، بينما يدفع غير الأردنيين «كلفة رمزية» بحسب العدوان تصل إلى 1.65 دينارًا في المرّة الأولى.

طب نفسي

لائحة الأجور من نقابة الأطباء.

يقول داود أن العلاج النفسي في القطاع الخاص مكلف، سواء بالمراجعات أو بالأدوية، وهو ما يبرره الحباشنة بأن دخل الطبيب النفسي هو فقط من الجلسات التي يجريها بالعيادة، ولا يوجد مصدر آخر له كالقطاعات الطبية الأخرى، مستهجنًا عدم شمول بوليصات شركات التأمين للطب النفسي، «تخيلي إنه قطاع التجميل والطب النفسي غير مشمولين بالتأمين، زيهم زي بعض، هذا بعطي فكرة عن النظرة للطب النفسي بأنها مش من الأساسيات».

تبرر شركات التأمين عدم إشراك الطب النفسي بأنظمتها قائلة «المرض النفسي شيء غير ملموس، والناس ما بتشوفها إشي كثير رئيس، ولا شاعرة باحتياجها بالتالي مش رح تدفع عليها» وفقًا لزكريا عمار عضو لجنة تأمينات الحياة والتأمينات الصحية في الاتحاد الأردني لشركات التأمين.

يوضح عمّار بأن العلاج النفسي «مداه بعيد ومكلف وتضمينه لبوليصات التامين سيرفع من كلفتها، ما يعني زيادة القسط المالي على المشتركين»، دون أن ينفي إمكانية تقديم بوليصات تشمل العلاج النفسي للعقود الكبيرة، وليست الصغيرة أو الفردية.

شركات التأمين لا تحجب التغطية المالية عن العلاج النفسي فحسب، بل إنها لا تدفع بدل علاج لمن يصل المستشفى من الأشخاص المؤمّنين محاولًا الانتحار، كون «إيذاء النفس غير مغطى، فنحن لا نشجع على الانتحار» يقول عمّار.

المحيطون بمحاولي الانتحار، ماذا يملكون؟

يسترسل أحمد عند الحديث عن حالة صديقه المقرّب الذي سبق له أن حاول الانتحار، وعند سؤاله إذا ما كان قد راجع هو بنفسه طبيبًا نفسيًا لأخذ الاستشارة بكيفة التعامل مع صديقه، نفى بشدة حاجته لذلك «أنا شو خصني؟ أنا مش صاحب العلاقة، هو صاحب العلاقة هو اللي لازم يروح على دكتور نفسي».

يعتقد أحمد أن صديقه يحاول لفت النظر لا أكثر في محاولته الانتحار، نافيًا أن يكون جادًا في ذلك، لذلك قطع علاقته معه تقريبًا، بعدما نصحه عدة مرات بمراجعة الطبيب النفسي، «بس أنا بضل مسيطر عليه من بعيد بدون ما يحس».

يلمّح وائل في حديثه لحبر لقلة اهتمام المحيطين وعدم تصديقهم له عندما حاول الانتحار، «همّه اتجاهلوني، حكوا لي ليش تعمل هيك وما في داعي، وحمار وغبي وبس، وما حدا فتح الموضوع معي بعدها ولا أخذوه جد».

يوّضح الحباشنة أن العديد من محاولات الإيذاء المتعمد للذات لا تكون بنية الانتحار، «لكن ذلك لا يعني أن ننفي الإحصائية القائلة بأن نسبة عالية من محاولي الانتحار يقدمون على الانتحار فعليًا لاحقًا». وفوق ذلك، فإن بين 50-75% ممن يحاولون الانتحار يكونون قد تحدثوا عن نواياهم أو أفكارهم الانتحارية قبل محاولاتهم، بحسب الجمعية الأمريكية لمحاربة الانتحار.

تشريعيًا، يمنح قانون الصحة العامة في المادة 14 الحق بإدخال المصابين بأمراض نفسية للمستشفيات بالإجبار في حال كان يشكّل خطرًا على نفسه أو على الآخرين.

وبعيدًا عما تؤكده الدراسات وما يمنحه القانون، فإن فئة كبيرة من الأردنيين يتعاملون بشكل ساخر ومستهزِئ مع الملوّحين بالانتحار، يصل حد التصفيق والتصفير له لتشجيعه على الانتحار فعليًا، وهو ما يجده الحباشنة بأنه ناتج عن السلوك الخاطئ للدولة، حيث أن «تعامل الدولة مع الملوّحين بالانتحار لأهداف مطلبية عن طريق إيجاد حلول فردية لبعض الحالات هو ما يساهم في خلق النظرة الساخرة من الجمهور والمشككة بالنية الحقيقية للشخص».

جهل جماعي

يتفق العدوان والحباشنة وتقارير المركز الوطني لحقوق الإنسان، على غياب الوعي المجتمعي في قضايا الصحة النفسية.

العدوان يرجع غياب جزء هام من القضية للإعلام، بالأخص فترة الثمانينات والتسعينيات، حيث «صورت مراكز الصحة النفسية بأنها دور (مجانين) يتم فيها تعذيب المرضى وإعطائهم الصعقات الكهربائية والتعامل معهم بشكل غير لائق، ما يشكّل عائقًا أمام الإقدام على مراجعة مراكز الصحة النفسية».

كلام العدوان يتطابق مع ما قاله داوود، حول سبب رفضه لقرار الطبيب الذي أوصى بضرورة إدخاله للمركز الوطني للصحة النفسية، «مستحيل أروح، بعرف شخص بشتغل بمنظمة دولية زاروا هاي المستشفيات وحكولي عن سوء المعاملة وصعقات الكهربا، مستحيل».

بينما يشير الحباشنة إلى خطورة ما تفعله بعض العائلات من عرض أبنائها بداية على الشيوخ والمشعوذين، قبل التوجه للطبيب النفسي نتيجة قلة وعيهم.

فيما تذهب أبو الخير لمفاهيم مجتمعية خاطئة، منتشرة حتى بين جميع الفئات بما فيها «الأخصائيين النفسيين فاقدي الكفاءة»، فيتعامل البعض مع المضطرب نفسيًا بأنه إذا «تزوج سيهدأ، أو إذا ذهب لشيخ سيشفى». حتى من قبل الإعلام، نجد البرامج الإذاعية والتلفزيونية تستضيف أخصائيًا واحدًا أو طبيبًا محدد في كل المواضيع، بغض النظر عن التخصصية أو غيرها، وهو ما يعكس كل النظرة للقطاع».

* صورة الغلاف للعيادة الاستشارية النفسية في عمان التابعة لوزارة الصحة. تصوير حسام دعنة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية