عاملة منزلية

عاملات المنازل المهاجرات: أنا أربّي أولاد الناس فمن يربّي أولادي؟

رحمة ممسكة بهاتفها وتظهر في الصورة ابنتها وحفيدتها.

عاملات المنازل المهاجرات: أنا أربّي أولاد الناس فمن يربّي أولادي؟

الأربعاء 21 آذار 2018

هناك في العالم 11.5 مليون عامل منزلي مهاجر، تمثّل النساء منهم 73%، بحسب تقرير منظمة العمل الدولية، للعام 2015.

من بين هؤلاء، يعمل في الأردن 70 ألف عامل تقريبًا،[1] منهم قرابة 50 ألف عامل مسجل، نسبة النساء منهم 92%. الكثير من هؤلاء أمهات قطعن آلاف الأميال بعيدًا عن أطفالهن، لأنه كان عليهن أن يخترن بين البقاء معهم أو إطعامهم، فاخترن الأخير.

هذه قصصُ ثلاث عاملات منازل من سريلانكا والفلبين وإندونيسيا، يحكين فيها عن الغربة، وتحدّي إدارة الأمومة عن بُعد.

«أمي رأت كل شيء، وليس أنا»

عندما وصلت مالي من سريلانكا إلى الأردن في عام 2001 لتشتغل عاملة منزل، وكانت في الثلاثين من عمرها، قادتها السيدة الستينية التي ستعمل لديها إلى ممر محاذ لحمام، وأخبرتها أن هذا هو المكان الذي ستنام فيه.

في الليل، عندما استلقت على الفرشة في ذلك الممر، انتبهت إلى عبارات مكتوبة بخط صغير باللغة السريلانكية، أسفل الجدار. كانت العبارات تقول: «لا تبقي هنا. سيدة هذا المنزل شريرة. ستضربك وتمنع عنك الطعام وتحبسك». عبارات مشابهة كانت مكتوبة أيضًا بخطوط مختلفة على جدران التسوية التي كانت العائلة تستخدمها مستودعًا. أدركت مالي سريعًا أن هذه ولا بد عبارات كتبتها عاملات سابقات في هذا المنزل، وأن صاحبة المنزل لم تنتبه إليها.

كانت هذه بداية بالغة السوء لمالي، التي كانت حديثة العهد بالترمّل، بعد أن توفي زوجها، وترك لها ثلاثة أطفال، ولدين في الحادية عشرة والسابعة، وطفلة رضيعة، تركتهم جميعًا خلفها في مدينتها باتيكالوا، شرق سريلانكا، في رعاية والدتها، التي كانت ترعى إضافة إليهم، طفليّ ابنتها الأخرى التي كانت تعمل في لبنان.

حاجة مالي للعمل كانت ماسّة، لهذا أقنعت نفسها أن بإمكانها تدبّر الأمر. وهذا ما فعلته، إذ أقامت في هذا المنزل ثلاث سنوات، اختبرت فيها عمليًّا كل الذي حذرتها منه سابقاتها.

كُلّفت مالي بأعمال التنظيف في هذا المنزل، ولم يسمح لها بمسّ الطعام، إذ كانت المرأة هي من تتولى الطبخ. وكانت تضع وجبات الطعام لنفسها وزوجها، دون أن تضع شيئًا لمالي في الغالب. كانت السيدة تتعامل معها كما لو أنها لم تكن بحاجة إلى أن تأكل يوميًا. إذ كان يحدث كثيرًا أن ينتهي الاثنان من الطعام، وتُرمى البقايا في القمامة، دون أن يُعرض عليها أي طعام. ولم تكن قادرة على أخذه بنفسها لأن السيدة كانت تغلق باب المطبخ بالمفتاح، عندما لا تكون فيه. حتى إن مالي، عندما كانت تعطش، كانت تشرب من حنفية الحمام: «تعرفي ليش أنا قلبي ييجيه وجع؟ المَرَة تقولّي هاي الزبالة، روحي كُلي».

كانت مالي تحصل على طعامها، بشكل أساسي، من خلال عاملة في المنزل المجاور، كانت تمرره لها من فوق السور الفاصل بين المنزلين: «لو ما هاي بنت، أنا كان زمان موت». هذه العاملة كانت صلة الوصل الوحيدة بين مالي والعالم الخارجي، إذ لم يكن مسموحًا لها أن تخرج من بوابة الحديقة. ولم تكن وقتها، قد انتشرت الهواتف الخلوية. فقط كان هناك في ذلك المنزل هاتف أرضي، مغلق بقفل. لهذا عندما وصلت، كتبت إلى أمها رسالة أرسلتها بواسطة ربة عملها. لكنها انتظرت سنة كاملة دون أن يصلها أي ردّ. تقول إنها خلال هذه السنة أصبح رأسها «زي النار». إذ لم يكن لديها أدنى فكرة عن السبب في أن عائلتها لم تجبها. ولم يكن لديها أي أحد يمكن أن تتوجه إليه وتسأله. إلى أن جاءتها المفاجأة الصاعقة ذات يوم، عندما عثرت بالصدفة أثناء التنظيف على رسالتها، فحملتها باكية إلى السيدة التي ثارت في وجهها، وأخبرتها أنها لن ترسل لها أي رسائل. هنا اتفقت مالي مع زميلتها عاملة المنزل المجاور على مراسلة عائلتها على عنوان ذلك المنزل، مشترطة أن يكون هذا بالسر: «متل الحرامي».

تقول مالي إن السبب الوحيد الذي احتملت من أجله كل هذا كان أطفالها. فمزرعة الأرز والخضار التي تركها زوجها، كانت تكفي بالكاد حياة الكفاف. لكنها فيما بعد كانت محظوظة بأن تجاربها اللاحقة كانت سعيدة. إذ عملت بعدها لدى أربع عائلات، عاملوها جميعهم بشكل جيد. ولم تشعر مع أي منهم بأنها «واحد خدّام». لكن الجزء الصعب كان دائما العناية بالأطفال الذين كانوا يذكرونها طوال الوقت بأطفالها. خصوصًا عندما تحمّمهم، وتلبسهم، فيخطر لها أن أمها سيدة متقدمة في العمر، وأن لديها خمسة ترعاهم، فتبدأ تتساءل إن كانت تستطيع أن تحمّمهم بشكل جيد، وإن كانوا يرتدون ملابسهم بترتيب.

عملت مالي 12 سنة لدى عائلة لديها طفلان، كانا عندما بدأت العمل في الثامنة والسادسة. وعاشت في هذا البيت، بالتحديد، مفارقة، أنها في الوقت الذي كانت فيه ترعى هذين الطفلين، وتعايش انتقالهما من الطفولة إلى المراهقة والشباب، كان أطفالها خلفها في بلدها يكبرون من دون أن تكون هي شاهدة على ذلك: «ماما شاف كل شي، مو أنا».  أمها التي كانت تحاول حمايتها، فتخفي عنها الأشياء السيئة التي كانت تحدث أحيانًا، مثلًا عندما يمرض أحد الأطفال، أو يقع ويؤذي نفسه. فكانت أختها التوأم هي من ينقل إليها هذه الأخبار.

شدة التفكير، كانت تتسبب لها بكوابيس في الليل، فتصيبها في اليوم التالي نوبات قلق: «راسي ييجي خربان». وقد تعلّمت خلال هذه السنوات، أن العمل هو أفضل علاج للتفكير. لذلك هي الآن، حتى بعد أن تركت من سنتين العمل في البيوت وصارت تعمل باليومية، تتعمد الانغماس في العمل لساعات طويلة، ومن دون إجازات، فالفراغ بالنسبة إليها يعني التفكير. والتفكير يعني القلق والهواجس.

عاصرت مالي خلال سنوات اغترابها تطور وسائل الاتصال، فبدأت بالتواصل مع أمها وأبنائها أولًا بتبادل الرسائل، وأشرطة الكاسيت المسجلة، التي كان وصولها يستغرق شهرين أو ثلاثة، ثم انتقلت إلى المكالمات الخلوية مرتين أو ثلاثة في الشهر، بواسطة بطاقات الشحن المدفوعة مسبقًا، وأخيرًا، التواصل «كل نص ساعة» من خلال الواتساب والإيمو.

خلال سنوات اغترابها، كانت مالي تذهب في إجازة لشهرين كل سنتين. ولأنه في القسم الأول من سنوات اغترابها لم يكن هناك هذا الانتشار لوسائل التواصل الاجتماعي التي تمكنها الآن من رؤية أبنائها، كان أولادها بالنسبة إليها يكبرون على شكل قفزات. فتذهب، وتفاجأ في كل مرة بالتغيرات التي طرأت عليهم. وتقول إنه حدث أكثر من مرة أن «قلبي كسر» وذلك لأنها تكون قد أخذت ملابس هدايا لهم، لتكتشف لاحقًا أنها أصغر منهم بكثير، فقد كانت تذهب وفي ذهنها صورتهم آخر مرة رأتهم فيها.

في الإجازات، كانت ترى كيف أنهم أقرب إلى أمها، التي كانوا ينادونها «ماما»، في حين كانوا يشيرون إليها بـ«أختي الكبيرة». كان كلام أمها هو المسموع، أما عندما كانت هي تقترح عليهم شيئًا: «كان حكي يفوت هون، يطلع هون»، مشيرة إلى أذنيها. لكن هذا لم يكن يحزنها كثيرًا، لأنها كانت تعرف أنهم: «رح يكبر ويفهم». وهذا ما حدث.

عندما تنتهي هذه الإجازات، ويحين الوداع، كان أبناء مالي يتصرفون في كل مرة على أساس أنهم سيسافرون معها، فيضعون أمتعتهم في أكياس، ويرتدون ملابسهم، ويجهّزون أنفسهم للخروج معها. فتضطرّ إلى أن تقول لهم إنها ستركب الطائرة، وإنه ليس مسموحًا للأطفال بركوبها، لأنهم يمكن أن يسقطوا منها.

في نهاية كل إجازة، ينخرط الأطفال في العويل لأيام، وتصيبهم الحمّى، ويسقطون مرضى. ويحدث معها الأمر ذاته، فتصيبها نوبات بكاء، وكوابيس، وأرق، ولا تعود تأكل، لدرجة أنها في واحدة من السنوات، وصل وزنها إلى 35 كيلو. وكانت تحتاج في كل مرة إلى 6 أشهر، كي تعود تمامًا إلى وضعها الطبيعي.

صورة ابنة مالي على هاتفها

تدرس ابنة مالي الآن في الجامعة لتصبح معلمة، ويعمل ابناها في مزرعة العائلة. وهي تحتاج إلى ثلاث سنوات إضافية، تكمل فيها المنزل الذي بنته، وتشتري لابنتها الدراجة النارية التي طلبتها. بهذا تكون في المرحلة الختامية من رحلة اغترابها. لكنها لا تستطيع منع نفسها من التفكير في أن هذه أيضًا هي المرحلة الختامية من حياة أمها التي تبلغ الآن 72 عامًا. وهي تتساءل عن عدد السنوات التي سيكون متاحًا لها أن تعيش فيها مع أمها بعد أن تنقضي السنوات الثلاث الباقية. بل إنها تفكر أن هذه، بطريقة ما، هي المرحلة الختامية من حياتها هي، فبعد ثلاث سنوات سيكون عمرها 51 سنة، فكم سنة سيكون قد تبقى لها لتنعم بالراحة؟

«أنا أريد حياتي من أجل أطفالي»

عندما غادرت هانا مدينتها زامبوانغا، جنوب الفلبين، في عام 2011 قادمة الى الأردن، وكانت في الثلاثين من عمرها، أخبرت زوجها وأطفالها الثلاثة أنها ذاهبة مع صديقتها إلى العاصمة مانيلا، كي تعمل هناك. فقط بعد شهرين، وعندما استقرت أمورها في الأردن، اتصلت بهم، وأخبرتهم أنها في عمّان.

فعلت ذلك لأنها خشيت أنها ستضعف أمام بكاء ابنتيها وابنها، الذين كانوا وقتها بين السابعة والرابعة عشرة. كما أنها أيضًا كانت تعرف أن زوجها سيعارض بشدة فكرة خروجها للعمل في الخارج، لهذا أرادت وضعه أمام الأمر الواقع.

تحمل هانا شهادة جامعية في إدارة الفنادق والمطاعم. لكنها اضطرت لترك العمل في هذا المجال، لأنه إضافة إلى تدني الرواتب ، كان زوجها، القادم من خلفية دينية مختلفة، فقد كان مسلمًا وهي مسيحية، يجد صعوبة كبيرة في تقبل طبيعة عملها التي تتطلب التعامل مع «كل أنواع الناس».

عملت هانا في البداية لدى عائلة لديها أربعة أطفال تتراوح أعمارهم بين الـ17 والسنتين. عندما وصلت هنا، وقبل خروجها من مكتب التشغيل في عمّان، ذكّرت العائلة أنها وفق عقدها قادمة لتشتغل عاملة منزل، لا مربية أطفال، لهذا فإن كل ما ستقوم به هو التنظيف، ولن تتحمل مسؤولية الأطفال. وما دفعها لأن تحسم هذا الأمر قبل مرافقتها العائلة، هو أنها حضرت إلى الأردن، وفي ذهنها كل القصص التي سمعتها عن عاملات منازل في دول عربية، تعرضن للسجن أو حتى للإعدام، بعد اتهامهن بإيذاء أطفال أرباب العمل: «قلت للسيدة إنني أريد حياتي من أجل أطفالي».[2]

أكدت لها ربة العمل أن البنت الكبرى، هي من سترعى أخوتها في غياب الأم، لكن هذا لم يحدث، لأن الفتاة كانت تظل في غرفتها طوال الوقت، في حين يدور الصغار في أرجاء المنزل بـ«فوط ممتلئة». وهذا ما دفعها في النهاية للتدخل في المساعدة في العناية بهم. متحملة واقع أن الأم لم تكن حازمة في «تأديبهم» عندما كانوا يسيئون إليها: «كانوا يبصقون عليّ، ويقرصونني (..) صحيح أنها كانت تطلب منهم التوقف، لكنها لم تكن تتخذ أي إجراء يجعلهم يتوقفون».

تحمّلت هانا هذا، لكن ما لم تستطع أن تتحمله هو المماطلة الدائمة في دفع الرواتب. وهذا ما دفعها لأن تقول لصاحبة المنزل: «أنا أعتني بأطفالك، عليك أنت في المقابل أن تعتني بأطفالي». وتقول إنها هددت العائلة بأن الرواتب إن لم تنتظم فإنها ستغادر. وهذا ما فعلته بعد تسعة أشهر، غادرت المنزل وتوجهت إلى مركز تمكين للمساعدة القانونية، الذي ساعدها في تسوية وضعها القانوني.

خلال السنوات السبع التي أمضتها هانا في الأردن، زارت أطفالها في الفلبين مرة واحدة فقط. فكان عليها أن تعيش دائمًا المفارقة الصعبة المتمثلة في أنها مضطرة لترك أطفالها لأنها تحبهم. وكانت مضطرة أيضًا لأن تكون على قدر تحدي ممارسة أمومتها لهم عن بُعد. وفي حالتها، بالذات، كان الأمر صعبًا، لأن والدتها، وهي أكثر شخص يمكن أن تعتمد عليه لهذه المهمة، توفيت قبل قدومها للأردن، ولم يكن لديها من يشارك زوجها في الاعتناء بالأطفال، مهمة لم يؤدها كما يجب. لأنه كان يعاني من الإدمان على الخمر والمخدرات. وهذا ما قتله في النهاية.

هانا مع صديقاتها في الشقة السكنية

خلال هذه السنوات، كانت تتدبر أمرها مع أبنائها فيما يتعلق بالتفاصيل الاعتيادية للحياة اليومية. لكن حدث، أكثر من مرة، أن وجدت نفسها مضطرة لمساعدتهم، ومن على بعد آلاف الأميال، على اجتياز أحداث كبرى. تتذكر حدثين منها، الأول عندما توفي زوجها قبل ثلاث سنوات فجأة، بسبب مشاكل مرتبطة بإدمانه، وكان عمره 47 سنة. وقتها كان لديها مشاكل قانونية تتعلق بإقامتها. وخروجها من البلد كان يعني عدم عودتها إليه.

وجدت نفسها بين خيارين: التضحية بفرصة عملها هنا، والذهاب إلى أبنائها الذين ظلوا يتصلون بها طالبين منها العودة، أو البقاء هنا وتركهم يواجهون صدمة موت أبيهم وحدهم. قررت عدم السفر، وأرسلت أطفالها إلى أخيها وزوجته، وظلت لأسابيع، مقسّمة بين عملها الشاق، والاتصالات اليومية بأبنائها لتهدئهم، إلى أن استطاعوا اجتياز الأمر. 

السنة الماضية، واجهت هانا حدثًا مفصليًا آخر، عندما اتصلت بها زوجة أخيها وأخبرتها أن ابنتها الوسطى (17 عامًا) على وشك الانتحار. كانت المشكلة هي أن شبابًا في المنطقة التي تقيم فيها العائلة بدؤوا يبتزون ابنتها بالنقود بسبب صور لها. وتعتقد هانا أن ما دفعهم إلى ذلك هو حقيقة كونها تعمل في الخارج، واعتقادهم أنها «ثرية». سافرت هانا إلى الفلبين لأول مرة منذ قدومها إلى الأردن. وهناك قبض على الشباب، وأودعوا السجن. لكنها قبل أن تعود اضطرت لأن تتخذ قرارًا عارضه جميع من حولها: تنازلت عن الشكوى، وساعدت الشباب للخروج من السجن. فعلت ذلك لأنها كانت مرعوبة من فكرة أن هؤلاء الشباب أو أقاربهم في الخارج سينتقمون، في غيابها، من ابنتها أو أولادها الآخرين: «لم أكن أريد أن أغضبهم، فقلت لهم سأعطيكم الأمان، فأعطوا ابنتي الأمان».

مرّت سنة على الحادثة، لم يحدث خلالها شيء، لكنها تعيش مع ذلك في قلق مستمر، لأنه: «من يدري؟». لهذا هي تتصل بكثافة بأبنائها، لتتأكد من أن كل شيء على ما يرام. كما أنها فعلت شيئًا آخر، غيّرت في نمط علاقاتها مع الناس في محيطها في الفلبين ليكونوا عونًا لها. تقول إنها لم تكن أبدًا شخصًا اجتماعيًّا هناك. وعلاقاتها كانت محدودة. لكن غربتها علمتها أن تبني وتقوي علاقاتها بالأقارب والجيران، لتتصل بهم وتسألهم عن أحوال أبنائها، وتطلب منهم تفقّدهم.

تعلّق هانا على جدار غرفتها صورة مركّبة لها مع أبنائها

أبناء هانا يطلبون منها دائمًا العودة، لكنها تذكرهم أنه ليس لديهم بعد ما يكفي للحياة. تأمين حياة جيدة للأطفال، ودفع كلفة تعليم بمستوى معين، هي مسألة مكلفة جدًّا في الفلبين. في حين أن عملها في الأردن مكّنها من تدريس بنتين وولد في مدارس خاصة، وتمويل الدراسة الجامعية لابنتها الكبرى. ولو أنها بقيت هناك، فإنها كانت ستجد صعوبة كبيرة في في تأمين تكاليف دراستهم حتى في مدارس حكومية. فهذه المدارس وإن كانت تقدم تعليمًا مجانيًّا، لكن الأهل مضطرون لدفع أثمان الكتب المدرسية والزي المدرسي، والتنقلات والمصروفات الأخرى. إضافة إلى ذلك، مكّنها العمل هنا من تمويل الدراسة الجامعية لأختها الصغرى، بعد وفاة والديها.

تراقب هانا بدقة مصادر إنفاق المال الذي ترسله، معتبرة من قصص الكثير من العاملات اللواتي ضيعت عائلاتهن نقودهن، وعدن بعد سنوات اغتراب طويلة إلى «لا شيء». لهذا كانت دائمًا حريصة على ألا ترسل أبدًا نقودًا إلى زوجها عندما كان على قيد الحياة، بل كانت ترسلها إلى أخيها، الذي كان يرسل لها فواتير لكل ما يشتريه لأبنائها. وبعدها صارت ترسل النقود إلى ابنتها الكبرى، التي تفعل الأمر ذاته. رغم أنها تؤكد أنها مطمئنة لتحمل أبنائها المسؤولية. وتعتقد أن هذا سببه هو أنها كانت، طوال هذه السنوات حريصةً على أن يفهموا مقدار المشقة التي تبذلها في عملها. لهذا كانت تتعمد أن تجري معهم مكالمات فيديو وهي تعمل. هذا باعتقادها ما جعلهم يقدرون قيمة النقود. وتروي أنه يحدث أحيانًا أنها عندما تأكل شيئًا خاصًا، تشعر بالذنب، لأن أبناءها لا يأكلون مثله، فتتصل بهم وتخبرهم أنها سترسل لهم نقودًا كي يشتروا هذا. لكنهم يرفضون، في الغالب، ويقولون إنه ليس من الحكمة تضييع النقود على الرفاهية.

ليس لدى هانا تاريخٌ محددٌ لإنهاء رحلة اغترابها، ولديها قرار بأن تعمل ما دامت قادرة على العمل، إلا إذا اضطرتها حالة طارئة للبقاء إلى جانب أبنائها. وحاليًّا هي مرتاحة في المكان الذي تعمل فيه. ورغم أنها تقيم مع العائلة التي تعمل لديها، لكنها استأجرت مع مجموعة من العاملات الفلبينيات شقة، يتشاركن دفع أجرتها، ويذهبن إليها أيام عطلهن الأسبوعية، يطبخن ويأكلن ويشغلّن الموسيقى ويغنين ويرقصن. ومساءً، تعود كل واحدة إلى المنزل الذي تعمل فيه.

«أنا أربي أطفال الناس فمن يربي أطفالي؟»

بدأت رحلة اغتراب رحمة عام 2000، عندما كانت في الرابعة والثلاثين من عمرها. تركت بيتها في مقاطعة جاوة الشرقية في إندونيسيا متجهة إلى الإمارات والكويت، ومن ثم الأردن. وتركت خلفها أربعة أطفال، أكبرهم في الرابعة عشرة، وأصغرهم توأم في الرابعة. تركتهم وقتها مع زوجها، لكن في رعاية أمها التي كانت تقيم معهم.

كانت العائلة تعتاش وقتها من المزرعة التي ورثتها عن والدها، وكان زوجها يعمل فيها. الدخل كان يكفي مصاريف الحياة اليومية، وهذا يعني أن إدخال الأبناء الجامعة، وتزويجهم، كان سيعني إما الاستدانة، أو بيع قسم من المزرعة. الأمر الذي كانت ترفضه بشدة، لأنها رأت كيف عملت أمها باستماتة لتحافظ على هذه الملكية، بعد وفاة والدها. كانت رحمة تخطط ليس فقط للاحتفاظ بالمزرعة، بل لتوسيعها، وهذا ما فعلته، إذ ضمّت إليها بعد سنوات من العمل في الخارج مزرعتي أخويها.

تقول رحمة، التي تتحدث بعامية هي خليط من الخليجي والشامي، إن السبب الأساسي الآخر الذي دفعها للاغتراب، هو أنها تريد أن تدخّر لشيخوختها. إذ يرعبها مصير الكثير من المسنين حولها، من الذين جعلتهم حاجتهم المادية للآخرين، عرضة لسوء المعاملة: «أنا بخاف كتير من الكَبَر، إنو ربنا يطوّل عمري».

لم تكن رحمة لتترك أبناءها لو لم تكن والدتها موجودة لرعايتهم. صحيح أن زوجها «قلبه طيب»، لكنه يظل، رجلًا، وبحسبها فإنه لا يمكنك الاعتماد على رجل كي يغسل وينظف ويطبخ، وينتبه على الأطفال: «والله راح يصيح يا يمّة».

وتؤكد أنها ليست وحدها في ذلك، فكل النساء تقريبًا اللواتي يغادرن للعمل في الخارج، يحرصن على ترك الأطفال في عهدة نساء من العائلة، يكنّ في الغالب أمهاتهن أو أخواتهن.

عملت رحمة في الخليج عند عائلات لديها أطفال. ومثل أي عاملة منزل تكون هي نفسها أمًّا، كان الجزء الأصعب في المهمة هو رعاية الأطفال الذين كانوا يذكرونها طوال الوقت بأطفالها. ويجعلونها تتساءل: «أنا دير بالي على أولاد الناس. أولادي مين دير باله عليهم؟. يا ترى هسة شو يسوّي؟ شو ياكل؟»

كان صاحب العمل يسمح لها بمكالمتين في الشهر. لكنها بينهما كانت تكون «مجنونة». لهذا اشترت هاتف نوكيا مستعمل بعشرة دنانير، وبدأت تتصل بهم بشكل مستمر. وهذا استنزف الكثير من النقود، لدرجة أنها وصلت إلى مرحلة أنها بدأت تفكر أنها لو استمرت على هذه الحال، فإنها لن توفر أي مال. فقنّنت الاتصالات.

كانت رحمة تعود إلى إندونيسيا في إجازات متقطعة، فتغيب أحيانًا سنتين أو ثلاث سنوات، حسب ظروف العمل. وأطول مدة، كانت بعد رحلتها الأولى، إذ عادت بعد أربع سنوات. أمها استأجرت باصًا، وجاءت مع أبنائها لاستقبالها في المطار. وهي عندما رأت الأطفال لم تعرفهم. فقد كان عمر ابنتها عندما تركتها سبع سنوات، وبعد أربع سنوات، كانت البنت قد طالت كثيرًا، كما طال شعرها. أما التوأم الذين تركتهم في عمر الرابعة، بجلد أطفال فاتح اللون، فلم تميزهم بعد أن اسمروا كثيرًا. وقتها بدأت تسأل أمها: «يمّة هذا مين وهذا مين؟». وكان هناك شاب صغير سلّمت عليه على أساس أنه ابنها الأكبر، لكنهم صحّحوا لها بأن هذا، في الحقيقة، صديقه، أما ابنها ، فلم يستطع القدوم، لأنه كان يعمل.

في تلك الإجازات التي كانت تستمر في العادة شهرين أو ثلاثة، كانت تمضيها مع عائلتها خارج المنزل، تتنقل بين الأماكن السياحية والحدائق والمطاعم. وكانت تلاحظ كيف أن أبناءها كانوا يتعاملون معها بخجل. في حين كانوا يتعاملون بشكل طبيعي وتلقائي مع أمها.

عندما كانوا صغارًا، لم يكونوا يفهمون لماذا هي في الخارج. ويظلون يسألون: «ماما ليش راحت». فكانت تقول لهم «كرمالك يا حبيباتي. أنا في الغربة وإنتو في البيت». ورغم أن الناس، كما تقول كانوا ينظرون إليها «من برّة قوية»، إلا أنها على العكس «أنا أولادي وأمي، لو ما أتكلم معهم مرتين أو ثلاث في الأسبوع بصير زي مجنونة».

بعد عشرين عامًا من الغربة، تقول رحمة إنها أنجزت تقريبًا كل ما خططت له. زوّجت ابنها الأكبر، وساعدته في إنشاء مصنع «توفو». زوجت ابنتها، وساعدتها في إنشاء «بزنس» خاص بها، هو ضمان مزارع. والتوأم تخرجا أخيرًا من الجامعة، ويعملان. استطاعت أيضا تجديد منزلها، وغيّرت أثاثه. وأرسلت شخصًا حج عن والدها المتوفى. وتخطط لمساعدة والدتها في رحلة حجها هي أيضًا. كما أنها وسّعت مزرعتها، كما سبق القول.  

رحمة بين صديقاتها في الأردن

لم يبق لديها المزيد لتحققه، ولكنها ليست مستعجلة للعودة، رغم أن الجميع يطلب منها ذلك. بما فيهم زوجها الذي يتصل بها ويلحّ عليها بالعودة: «بس أنا ما بقدر، بعد ما صرت عايش لحالي، صرت ما بقدر عايش مع بعض». تقول رحمة إن علاقتها بزوجها التي تحولت بعد هذه السنوات إلى علاقة «أخوة» هي جزء من الثمن الذي دفعته لقاء غربتها. ففي منزلها الآن في إندونيسيا، لكل منهما غرفة منفصلة.

عملت رحمة في الأردن سنتين في رعاية سيدة مسنة، انتقلت بعد وفاتها، قبل 12 عامًا، للعمل في منزل ابنة شقيقتها التي تعيش الآن وحدها مع رحمة. وهذا ما يشجعها على البقاء. فالعلاقة بينها والسيدة التي تعمل لديها ليست أبدًا علاقة «خادم بمخدوم»: «إحنا متل خوات». إنها سعيدة حيث هي الآن، وتشعر أن هذا المكان صار مثل «بيت» بالنسبة إليها. خصوصًا أنها لم تعد عاملة بل «مدبرة منزل». وعملها هو للإشراف، وتستعين بعاملاتٍ باليومية من أجل مهام التنظيف الثقيلة.

تصف رحمة حياتها بقولها إنها عاشت «المُرّة والمالحة والحامضة»، وها هي أخيرًا تعيش «الحلوة».

تم إعداد هذا التقرير بدعم من منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان.

  • الهوامش

    1- الأرقام من مركز تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.

    2- أُجريت المقابلة باللغة الإنجليزية، وتُرجمت الاقتباسات إلى العربية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية