لقد صرتُ أحدًا، انظر لي

لقد صرتُ أحدًا، انظر لي

الأحد 18 آذار 2018

(تَرجم هذا المقال إلى الإنجليزية إنغفيلد بوركيه، ونشر في صحيفة النيويورك تايمز في العام 2014)

ليس لك أن تعتقد أنّك شخصٌ مميّز. ليس لك أن تعتقد أنّك جيّد مثلنا. ليس لك أن تُقنع نفسك أنّك أفضل منّا. ليس لك أن تعتقد أنّك أهمّ منّا. ليس لك أن تعتقد أنّك جيّدٌ في أيّ شيء. ليس لك أن تعتقد أنّ أحدًا يأبه لأمرك.

هذه ستٌّ من عشر وصايا شكّلت قانون يانتي (Jante)؛ وهو مفهوم ابتدعه الكاتب الدنماركي-النرويجي آكسِل ساندِموزه عام 1933 في روايته (A Fugitive Crosses His Tracks). يشرح القانون عقليّة مجتمعٍ يتحكّم الجميع فيه بالجميع، يخنق الجميعُ الفردَ حتّى يصير ثمن الحرّيّة الفردية هو النبذ، ولكن حدود [القانون] تتجاوز بلدة يانتي الخيالية الصغيرة. كان تشخيص ساندِموزه [لتلك] السلوكيات مصيبًا فيما يخصّ الثقافة الاسكندنافيّة بأكملها. وقد ظلّ سويًّا حين كنتُ أكبرُ في سنوات السبعين من القرن الماضي. «ليس مسموحًا لك أن تعتقد أنّك أفضل من أيّ أحد» هي اللازمة التي لطالما سمعتها في طفولتي، ولم يلزم الأمر أكثر من قبّعة غريبة بعض الشيء أو سروالٍ لا تألفه الأعين حتى يُذكّرك الناس بها، أو قبل أن يضحكوا عليك، أو في أسوأ الأحوال، يتجاهلونك. «يعتقد أنّه مميّز» هي أسوأ عبارة يمكن أن تُقال بحقّك.

لذا حين كان المسلسل الأمريكي «شهرة» (Fame) يُعرض على التلفزيون النرويجي في بداية سنوات الثمانين، كان بالإمكان [افتراض] تصويره على كوكبٍ آخر. اعتقد كلّ من في الشاشة أنّهم مميّزون – هذا ما يدور المسلسل حوله! – كما لم يعدم وجود قبّعات غريبة بعض الشيء أو سراويل لا تألفها الأعين. ما الذي أراده أولئك الأطفال؟ أرادوا أن يُرَوا. أرادوا أن يعرضوا أنفسهم. وليس أمام محيطهم المباشر، أمام أصدقائهم وحسب، بل أمام الجميع. أرادوا أن يصبحوا مشاهير.

لماذا أرادوا ذلك؟ إنّه سؤال غبي. الشهرة تجلب الثروة، والثروة تجلب السلطة، وحياة تكون فيها جميع الأبواب، حتّى لأكثر الملذّات والمطامح انحطاطًا، مفتوحة. لكن ما هو أكثر أهميّة هو النقيض: لماذا – بحقّ العالم – قد يرفضُ أحدٌ كلّ هذا؟ أو، بشكلٍ أكثر دقّة، لماذا كان يُنظر للشهرة، في النرويج سنوات السبعين، على أنّها أمرٌ سوقيّ، غير مقبول، مُتهتّكة في أعمق معانيها؟

لقد كان هنالك مشاهير بالطبع، نجوم بوب ورياضيّون، يعبدهم الجميع، إضافة للعائلة الملكيّة. لكن ما كان يجمع هؤلاء المشاهير المبجّلين هو إصرارهم على أن يظهروا مثل الآخرين. لقد كانوا بسطاء، متواضعين، لا متكبّرين ولا مغرورين. لقد اهتمّوا بإبراز مدى عاديّتهم. لا تعود أكثر صور الملك أولاف الخامس أهميّةً إلى مراسم تتويجه، حين ظهر محاطًا بكلّ تلك الأبّهة التي تخصّ الملوك، بل تعود إلى أزمة النفط سنة 1973، حيث كان جالسًا في الترام مُرتديًا معطفًا مطريًا مُظهرًا تذكرته للمُحصّل، مثل أيّ مواطنٍ آخر. بات الملك أولاف محبوبًا بسبب تلك الصورة، وما زال. ملك الشعب، هكذا يدعونه.

الرغبة في الشهرة هي أوّلًا وقبل كلّ شيء، ولعلّها ليست أكثر من هذا، رغبة طفوليّة

تغيّر هذا الوضع في سنوات الثمانين والتسعين. لقد تمّ تشييع قانون يانتي رسميًّا، فقد تلفّظ رئيس الوزراء النرويجيّ غرو هارلِم برِوندتلاند، قبل بدء الألعاب الأولمبيّة الشتوية في ليلهامر عام 1994، بكلماته المُرتجلة: «أن تكون جيّدًا، فهذا نرويجيٌّ تمامًا». بينما كانت تسود احتفالاتِ نهاية الفصل في مدرستي التراتيلُ والجدّيّةُ، لا تمثّل فعاليّات ابنتي شيئًا مثلما تمثّل تجارب الأداء [في سلسلة برامج] «آيدل» (Idol). يعزف التلاميذ ويغنون أغانيهم الخاصّة، فينفجر الجمهور تصفيقًا لهم. يتمّ إعطاء الطلاب الموهوبين اهتمامًا خاصًّا، الأمر الذي لم يكن واردًا قبل ثلاثين عامًا، ووسط كلّ هذه الإثارة، فإن آخر ما تبقى من مجتمع يانتي – تذكير القسّ بأنّ الشهرة والثروة عديمتا الأهمّية في جوهريهما – قد استحالَ غبارًا.

أنت ذو شأن. بإمكانك فعل الكثير. يهتمّ الجميع لأمرك. أليس هذا ما يحاول الجميع إيصاله لأطفالهم؟

بالطبع، لكن هذه الرسائل ليست بالضرورة ما كانت الأجيال السابقة ترفضه. تضمّن قانون يانتي أيضًا مثالًا أعلى للتضامن. في نموذج الرفاهية الاسنكدنافي، كما تشكّل في الأعوام اللاحقة للحرب العالمية الثانية، إذا اتّحدت الأخلاق البروتستانتية -اعمل بجدّ؛ كُن مُقتصدًا؛ لا تُقدّم نفسك على الآخرين- مع فكرة الحركة العمّالية القائلة «واحدٌ منّا»، فإنهما يصيران معًا أهمّ من كونك شخصًا مميزًا. كانت النتيجة في النرويج هي رعاية صحّيّة وتعليمًا على مستوى عالمي، تلفزيونًا وإذاعةً عموميّين، شبكة سكّة حديد واتّصالات عموميّتين، إسكانًا وزراعة مدعومين من الدولة، واعتقادًا رسّخته الدولة بأنّ لا أحد أفضل من أحد. في المدارس، لا يُقيّم الطلبة بالعلامات حتّى يبلغوا الثالثة عشرة. من حقّ الجميع، وبالأخص الأطفال، أن يتمّ التعامل معهم بسويّة.

ومع ذلك، أو ربّما لهذه الأسباب تحديدًا، أبقى مستيقظًا في الليل، محاطًا بسنوات السبعين أنّى تقلّبت، حالمًا بأن أصير مشهورًا. في البدء أردتُ أن أصير نجم كرة قدم، لاحقًا نجم روك. كنت عديم الموهبة في كرة القدم، كما أنّني عاجز عن العزف على أيّ آلة بمقدار عجزي عن الغناء، لكنّ رغبتي لم تتزعزع لهذه الأسباب، فقد كانت جبّارة. حاولتُ الحصول على الأدوار الأولى في جميع المسرحيّات أيّام المدرسة، كما أرسلتُ مرّة إلى مذيع في التلفزيون العام أطلب المشاركة مع نجم الروك إيجَه أليكساندرسِن في سلسلة كانت تجمع المشاهدين مع النجوم. لم أخبر أحدًا بهذه الواقعة.

لو اكتشف والديّ أو أصدقائي ذلك، لتمّت إدانتي. في الحقيقة، لم أخبر أحدًا عن هذا أبدًا. ما تزال [هذه الحادثة] تُشعرني بالخجل.

ما الذي يجعلني أملك مثل هذه الرغبة العظيمة بأن أكون مختلفًا؟ ما الذي يجعلني أرغب في أن يراني الجميع؟ هل كنت أعتقد أنّني أفضل منهم؟ في الحقيقة لا، بل على العكس: لقد كنتُ نكرة، ولعلّ فرصتي الوحيدة لأكون أحدًا، كما بدا، [كانت] في أن أصير مشهورًا، لا يهمّ في أيّ مجال. عالمٌ مشهور، لاعب كرة قدمٍ مشهور، موسيقي روك مشهور، رسّام مشهور، كاتبٌ مشهور. مشهور، مشهور، مشهور؛ كانت تلك الطريقة الوحيدة لأنتقل من كوني لا أحد إلى كوني أحدًا.

قتل برايفِك 77 شخصًا في ذلك اليوم حتّى تتمَّ رؤيته. لم يعد هنالك فرقٌ كيفَ يُرى. لقد كان بطلًا بعيني نفسه، مُحرّرًا، الشخص المختار

هذه عواطفٌ قوية. إذا لم تكن الهوية متجذرة في الذات، فإنه يتم تحديدها من قبل عوامل خارجية قد ينتهي بها الحال لتصير قوى حاسمة ومسيطرة. الرغبة في الشهرة هي أوّلًا وقبل كلّ شيء، رغبة طفوليّة، ولعلّها ليست أكثر من هذا. بالنسبة لمعظم الناس، فإن العثور على الطريقة للتعامل مع الشهرة – بتقديم احتياجات الناس على احتياجاتك – هو جزءٌ من انتقالك لمرحلة البلوغ. بالنسبة لبعض الناس، تظلّ [الرغبة في الشهرة] خارج السيطرة.

تمّ نشرُ كتاب أوسنه سايرشتاد حول القاتل الجماعي آندِرش بيهرِنغ برايفِك الخريف الماضي في الدول الاسكندنافية. برايفِك هو الرجل الذي ذبح عشرات من الشباب في جزيرة أوتويا، بالقرب من أوسلو، قُبيل ثلاث سنوات تقريبًا. العنوان النرويجي للكتاب هو «En Av Oss» أي «واحدٌ منّا»، لأنّ برايفِك بدا، بطرقٍ عدّة، عاديًا جدًا: شاب من الطبقة الوسطى أقام في دولة رفاهٍ على تخوم أوروبا. الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في سرد سايرشتاد هو وصفها لطريق برايفِك نحو التطرّف والإرهاب: تمنّي برايفِك على الدوام أن يُرى دون أن يجني سوى النسيان، التجاهل، الإهمال؛ كيف بات معزولًا أكثر فأكثر حتّى بقي وحيدًا في النهاية في غرفة، أمام شاشة، يلعب (World of Warcraft) بشكلٍ متواصل على مدار سنة. إنّه نكرة، وأن تكون نكرة يعني أنّك ميّت، وحين تكون ميتًا، تصيرُ متجاوزًا كلّ شيء. ليس ثمّة ما يمكن خسارته؛ كلّ شيءٍ مباح. قتل برايفِك 77 شخصًا في ذلك اليوم حتّى تتمَّ رؤيته. لم يعد هنالك فرقٌ كيفَ يُرى. لقد كان بطلًا بعيني نفسه، مُحرّرًا، الشخص المختار.

يُنتقد هذا النوع من المقاربة النفسية دائمًا لتقليله من الجوانب الأيديولوجية والسياسية لما فعله برايفِك، واستخفافها بكراهية الإسلام والأجانب التي أفصحت جريمته عنها. لكنّ الإيديولوجيا مجرّد شكل، إطارٌ لا بُدّ من ملئه بالمشاعر ليكتسب قوّة تدفعه على الفعل. ثمّة تمهيدٌ واضحٌ لجرائم القتل في أوتويا هو مذابح المدارس التي حدثت في العقود الأخيرة، في الولايات المتّحدة بالدرجة الأولى، لكن أيضًا في بريطانيا، فنلندا، ألمانيا وبعض الدول الأخرى. كان الجُناة في الغالب صِغارًا، كما كان أغلبهم، بطريقة أو بأخرى، معزولين، وحيدين ومنبوذين. ما إن تُوجَد أفعالٌ كهذه في العالم، فمن المُرجّح أن تُرتكب من جديد. اليوم، تنتشر صورُ هذه الأحداث على الفور. بالنسبة لشخصٍ ما، في مكانٍ ما، تخلق [تلك الصور] إمكانيّة. لم يكن من الممكن التفكير بوقوع مجزرة أوتويا في النرويج سنوات الخمسين.

أن ترى أطفالَك يقفون أمام المرآة، يغنّون ويحلمون أن يظهروا في التلفزيون، فهي مسألة مختلفة تمامًا عن مسألة برايفِك. إنّها لمسألة بالغة الأهمية أن تُرى، لكن الحاجة في أن يراك الجميع، وهي ليست إلّا خيالًا طفوليًا، تصير غير طبيعيّة حين تواصل وجودها بعد [سِنّ] الرُّشد. هذا يعني أنّ شيئًا ما غير متوازنٍ. إنّه أمرٌ بَدَهيّ، بما أنّ التناغم لا يخلق أيّ شيء. [بل] لا يحتاج أن يخلق شيئًا. إنّ فقدان التوازن وتنافر النغم هما اللذان يولّدان القوّة التي تدفع برجلٍ في سنوات ستّينه ليقف على المسرح عازفًا على قيثاره مُغنّيًا لساعات كلَّ ليلة، في بلدٍ تلو البلد، [ليسمع] هُتاف الجماهير. «كراهية الذات»؛ ذلك ما قدّمه بروس سبرنغستين بوصفه المفتاحَ في مقابلة مع النيويوركر. لا أعتقد أنّ هذا ينطبق عليه وحده؛ فالأمر نفسه ينطبق على العديد من أولئك الذين يقفون في دائرة الضوء. كراهية الذّات هي المحرّك؛ الشّهرة هي الوقود.

بالنسبة لي، فقد التصقت بحلم الشهرة طوال سني مراهقتي. حين بدأت سنوات العشرين، أردتُ أن أصير كاتبًا مشهورًا. لم تُشكّل الكيفيّة فرقًا؛ كنت على استعداد لكتابة أيّ شيء لأبلغ ما أريد. في مقابلة محرجة للغاية أجريتُها لإذاعة طلّابيّة بينما كنت أدرس الكتابة الإبداعية حين كنت في العشرين من عمري، قارنتُ نفسي، بكلّ جدّيّة، بهامسون وهمنغواي. هذه الحاجة الطفوليّة لأن تُعظّم، التي تصير أقبح وأشد إثارة للشفقة كلّما كَبُرت، والتي، بناءً على ما كتبتُ حدّ الآن، لا تحتاج إلى محلّل نفسيّ لتُدرك أنّها تغذّت على [الإحساس] بالخجل وكراهية الذات، التقت فجأة بنقيضها، فما اكتشفته حين بدأتُ كتابة روايتي الأولى هو أنّ بإمكاني الاختفاء داخل كتابتي. الذات، وكلّ الصعوبات والآلام المُرتبطة بها، اختفت. لطالما اختفيت حين كنتُ أقرأ؛ كانت هذه تقريبًا هي غاية القراءة لديّ، ألّا تكون أحدًا لبضع ساعات. الآن تحقّق ذلك أثناء كتابتي. أن تختفي بهذا المعنى، أن تدخل حالة نكران للذات، هو أمرٌ أؤمن أنّ كلّ موسيقيّ، رسّام، ممثّل، مُخرج وكاتب يعرفه. إنّه أمرٌ كامنٌ في جوهر الخلق ذاته. على خلاف أيّ وسيطٍ آخر، بإمكان الأدب أن يكسر الحدود التي أقامها المُجتمع. إنّه يتحدّث بصوتٍ تأثّرَ بأصوات كل الأوقات والآداب الأخرى. المفارقة هي أنّ الشهرة، التي ما [تفتأ] تؤكّد على الفرد، وثيقة الارتباط بنكران الذات، الذي هو طمسٌ للفرد؛ فالرغبة بأن تُرى وثيقة الارتباط بمتعة إخفاء الذات.

نشرتُ كتابًا، قبل عدّة سنوات، خلق صخبًا في النرويج. فجأة بات وجهي يتربّع صفحات الجرائد الأولى، وقد دُعيتُ إلى كلّ برامج التلفزيون الحواريّة في البلاد. ولأنني تربّيت في سنوات السبعين بطريقة غرست في نخاعي العظمي تحذيرًا بأن أتجنّب التفكير بكوني مميّزًا على الإطلاق – وقد ارتبط هذا لا محالة مع حاجة الطفل البالغ بأن يُرى- فقد تفاعلتُ مع شهرتي الحديثة بخجل وقنوط من جهة وبإدمانٍ عليها من جهة أخرى، مثل مدمن على المخدّرات تقريبًا. ما زلت أعاني من هذا الإحساس بالخجل لدرجة لا أستطيع معها أن أحمل نفسي على ذكر ما حدث – وجهي على صفحات الجرائد الأولى، وجهي في التلفزيون – لأنّني، إذا ذكرتُ ذلك، [كأنّني] أقول: «لقد صرتُ أحدًا، انظر لي!» لكن هذا ما أفكّر فيه فعلًا. لقد صرتُ أحدًا، انظر لي. وفي الوقت نفسه، يخبرني شيءٌ آخر بالعكس: أنت لا أحد. لماذا تعتقد أنّك [صرتَ أحدًا]؟ وهي فكرة جيّدة. إنّها فكرة أحتفظ بها ليس لأنّني مازوشي، بل لأنني واقعيّ. إنّها الشيء الوحيد الذي يمكّنني من الاستمرار في الكتابة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية