كيف نستمر ونؤثر: حوار حول الإعلام المستقل في العالم العربي

الثلاثاء 16 تشرين الأول 2018
من اليمين: معن أبو طالب، ولينا عجيلات، ولينا عطا الله، وكرم نشّار، خلال الجلسة في شباط الماضي في بيروت.

في شباط الماضي، عُقدت في بيروت جلسة مفتوحة نظّمها موقع «الجمهورية»، في النسخة الثالثة من اللقاء السنوي لمجموعة من المؤسسات الإعلامية العربية المستقلة بات يعرف باسم «ملتقى شباط/فبراير». في هذه الجلسة التي جرت في الجامعة الأميركية في بيروت برعاية معهد الأصفري للمواطنة والمجتمع المدني، دار حوار بين لينا عطا الله من موقع «مدى مصر»، ومعن أبو طالب من موقع «معازف»، ولينا عجيلات من موقع «حبر»، يسّره وشارك فيه أيضًا كرم نشّار من موقع «الجمهورية»، حول عدد من القضايا والأسئلة المشتركة التي تتعرض لها المواقع الأربعة وتمتد إلى المشهد الصحفي العربي المستقل عمومًا. وحمل هذا الحوار عنوان «الإعلام المستقل في العالم العربي، تحديات الاستمرار والتأثير». ننشر هنا تسجيلًا منقّحًا من هذا الحوار، وتفريغًا له محررًا بتصرف كذلك، بالتزامن مع نشره في كل من المواقع المذكورة.

كرم نشار: مساء الخير، وشكرًا جزيلًا على حضوركم جميعًا.

الفكرة من هذه الندوة أن نتشارك معكم بعض النقاشات السياسية أو الوجودية التي تجمع مجموعةً من المواقع العربية، التي تأسست، أو التي تربط نفسها بشكلٍ من الأشكال، بلحظة عام 2011؛ اللحظة التأسيسية الجديدة في واقع المجتمع والسياسة في المنطقة العربية. كثيرٌ من هذه الأسئلة طبعًا فكري ونظري، وهي متعلقة بالنظر في معنى أن نقوم اليوم بإنتاج محتوى صحفي ومعرفي في العالم العربي، في لحظة يتراجع فيها التفاؤل الذي كان موجودًا عام 2011. وفي الوقت نفسه ربطُ هذه الأسئلة النظرية بأخرى عملية ومؤسساتية، متعلقة بالثورة الرقمية وثورة مواقع التواصل الاجتماعي.

ما هو المعنى من إنتاج محتوى صحفي في هذا العصر؟ وكيف نستطيع بالفعل أن نُسهِمَ في بناء مؤسسات إعلام مستقلّ في المنطقة؟ وكيف نستطيعُ أن نعمل على استمرار هذه المؤسسات، وأن نكون مؤثرين؟ ولهذا كان عنوان النقاش: الإعلام المستقل في العالم العربي، تحديات الاستمرار والتأثير.

ضيوفي في هذه الندوة، الذين أعتبرهم شخصيات قيادية في مشهد الإعلام العربي المستقل؛ لينا عطا الله من موقع «مدى مصر»، ولينا عجيلات من موقع «حبر» في الأردن، ومعن أبو طالب من موقع «معازف». وسأطرح ثلاثة أسئلة عريضة على الضيوف، ثم سنتحاور فيها نحو خمس وأربعين دقيقة، وبعدها سنفتح باب الحوار والأسئلة أمام جميع الحضور.

قد يبدو السؤال الأول مُكررًا وقديمًا بعض الشيء، لكنني أعتقد أنه من الضروري مناقشته، ومن الضروري مقاومة الإحساس بأنه بات سؤالًا متقادمًا، وهو حول علاقة مؤسساتنا بلحظة 2011، أو ما يسمى الربيع العربي. فلنبدأ مع لينا عطا الله.

لينا عطا الله: موقع «مدى» لم يبدأ تحديدًا عام 2011، لكنه بدأ في لحظة مهمة من تجلّيات 2011، وفي لحظة مهمة وفارقة في عام 2013، وهي لحظة انتقال الحكم من «الإخوان المسلمين» إلى السلطة العسكرية. وأقول إنها من تجلّيات 2011 لأنها كانت لحظة فارقة في المواقف المختلفة للتيار المدني المُنادي بالديمقراطية والحقوق المدنية والسياسية. كانت المواقف في هذا التيار مختلفة وفارقة جدًا في تعبيرها عن ثورة 2011، كانت اللحظة بالغة القسوة، لأنه بدا أن الموقف الأكثر تقدمية وقتها هو الانسحاب من الصراع [بطرفيه]، وأن نكون تيارًا ثالثًا، لا مع الإخوان ولا مع السلطة العسكرية، وأن الحل الوحيد هو أن يكون موقفنا هو تقريبًا اللا-موقف.

كان لدينا كفريق مؤسس موقف مختلف قليلًا عن هذا الطرح، ولذلك بدأنا عملنا فعليًا في 30 يونيو 2013، بالرغم من أننا لم نكن جاهزين، لا في وسائل البث ولا في الموقع ولا على صعيد الموارد التي تحتاجها أي صحيفة لتنطلق انطلاقة قوية. ومعروفٌ أن المؤسسات الإعلامية تفضِّل أن تكون انطلاقتها قوية ومؤثرة بشكل واضح.

انطلقنا رغم هذه الظروف لأننا كنا معنيين بالتواجد، على عكس فكرة الانسحاب، معنيين بالتواجد عبر موقف، موقف المشاهدة والمعاينة للحظة لن يتمّ التحدث عنها كثيرًا، أو سيتم التحدث عنها بصوت واحد. كُنّا مُدركين لهذا تمامًا في النصف الأول من العام 2013، عندما بدأت موازين القوة تختلف وتختل تمامًا في البلد، وكان واضحًا بالنسبة لنا أننا في لحظة مختلفة تمامًا، وفي مواجهة تحوّل سياسي عميق في الوضع المصري بعد لحظة 2011، وفي تاريخ مصر الحديث كله.

كرم نشار: العزيز معن أبو طالب، موقع «معازف» طبعًا متميز جدًا عن مواقعنا الثلاثة الأخرى الممثلة في هذا النقاش، فهو موقع متخصص بالموسيقى. وفي نقاش سابق كنتَ قد عبّرتَ عن رفض للمقاربات شديدة التسييس للنقد الفني، أو للمحتوى أو المنتج الصحفي أو المعرفي المعني بالنقد الثقافي، سواء كان موسيقيًا أو مسرحيًا أو غيره. ومع ذلك سمعت منك أيضًا أن لحظة 2011 كانت محورية جدًا بالنسبة لـ «معازف» ونشؤه. هل يمكنك الحديث أكثر عن هذه الجدلية؟

معن أبو طالب: كنا نفكر في هذا المشروع قبل 2011 بعدة سنوات، وكان هناك تلكؤ في إطلاق العمل، وتفكير بأنه سيكون بالإنجليزية أيضًا، وأنه سيعمل على الترويج لفنانين بعينهم، وأشياء أخرى كثيرة، ثم جاءت الثورات العربية التي جعلتنا نفكر أن العمل ينبغي أن يكون باللغة العربية، واختلفت الخطة تمامًا. أصبحنا نفكر في مشروعنا بعمقٍ أكبر، وبأنه لن يكون مجرد نسخٍ أو ترويج، وأننا لن نأخذ خطابات نقدية أخرى ونطبقها على الإنتاج الموسيقي العربي، وفي الوقت نفسه لم نستخدم الخطاب أو طريقة النقد المتسرعة السائدة في الصحافة العربية.

ما حدث أنه عندما انطلقنا كان لدينا زخم متأثر بالثورات، لكن الاتجاه الذي ذهبت فيه «معازف» لم يكن بالضرورة الاتجاه السياسي الذي سلكته الثورات، بمعنى أننا لم نربط إنتاجنا بموسيقى الثورة مثلًا. ولم يكن تعريفنا للموسيقى الجيدة أنها الموسيقى المتماشية مع الأفكار الثورية. ربما كان هذا الأمر في البداية فقط، لكن مع الوقت تطوَّرَ تفكيرنا وفهمُنا للنقد، وقررنا أن نركز على القيمة الجمالية للموسيقى، وشعرنا أن هذا فيه تعاملٌ أكثر جدية مع الفن والموسيقى التي يتمّ إنتاجها، أي أن نحكم على الموسيقى بمعايير جمالية بدل أن نحكم عليها بمعايير أخلاقية. طبعًا هناك علاقة وثيقة بين الجمالي والأخلاقي، ولكنني هنا أتحدثُ عن المعايير الأخلاقية بمفهومها السطحي والمباشر جدًا، كأن نقول إن هذا المغني عنصري، ولا يجوز أن نسمعه.

كرم نشار: لينا عجيلات. هناك عدة خصوصيات لموقع «حبر» في سياق سؤالنا هذا، أولها أنه كان قد انطلقَ قبل العام 2011، وثانيها أن الأردن ليس واحدًا من البلاد العربية التي شهدت ثوراتٍ كبرى وتغيرات عاصفة، مع أنه شهد حراكًا احتجاجيًا طبعًا بعد 2011.

كيف تفهمين العلاقة اليوم بين «حبر» ولحظة 2011؟

لينا عجيلات: انطلقَ موقع «حبر» عام 2007، في لحظة كانت مهمةً جدًا في ذلك الوقت. كان هناك ما يشبه تطورًا طبيعيًا بدأ من أوساط المدونات، والمساحة التي انفتحت للتعبير وتناول مواضيع لم تكن مطروقة في الإعلام العربي السائد آنذاك.

كان هناك مشاريع كثيرة مثيرة للاهتمام في منطقتنا في ذلك الوقت، وأستحضرُ اليوم مثلًا علاء عبد الفتاح ومنال [بهي الدين] وموقعهما الذي كان يجمع المدونات المصرية. أشعرُ أننا كنا جزءًا من ذلك المشهد، رغم أن هناك خصوصية لكل بلد عربي. كان ذلك شيئًا ملفتًا، كان هناك تشبيك وعلاقات مع شبكات مدونين وتقنيين عرب، وكان «حبر» موجودًا في وسط ذاك المشهد.

لكن هناك نقطة مهمة مثيرة تطرق لها معن، وأشعرُ بالخجل تجاهها اليوم، وهي أننا عندما بدأنا عام 2007، وطرحنا أنفسنا  كمساحة «إعلام مواطن» أو «سيتيزن ميديا بلاتفورم» [citizen media platform]، بدأنا باللغة الإنجليزية، وهو أمر يناقض نفسه بشدة، إذ كيف يكون إعلام مواطن، وباللغة الإنجليزية! ربما لأنه خرج من رحم المدونات في ذلك الوقت، وكان هناك إلى حدٍّ ما انطباع أن الإنترنت ليس منتشرًا بما فيه الكفاية، وأن مَن يكتبون كانوا يكتبون باللغة الإنجليزية.

هكذا بدأنا، ولكن خلال أقل من سنتين تقريبًا بدأنا بإنتاج محتوى باللغة العربية، ثم جاءت لحظة 2011 التي كانت نقطة تحول فارقة بالنسبة لـ«حبر»، لأنه عندما كُنّا قبل ذلك نعرّف أنفسنا بأننا «سيتيزن ميديا بلاتفورم»، كانت الفكرة أننا منصة تستقبل قصصًا وشهاداتٍ وتجاربَ أشخاص ليسوا صحفيين محترفين، أو لا ينشرون بالعادة، وكان هذا أمرًا بالغ الصعوبة. كان لدينا تصور رومانسي، وهو أنه بمجرد أن نعلن عن منصتنا، ستنهالُ علينا المقالات والنصوص، ثم وجدنا أنفسنا نترجى المدونين والأصدقاء، ونقترح عليهم أشياء ليكتبوا عنها.

كان هناك نموٌ تدريجيٌ وعفوي، ثم كانت الثورات 2011، ومعها الطاقة التي تفجرت والحراك السياسي الكبير، فوجدنا أنفسنا نستقبل كمًا هائلًا من النصوص الرائعة، التي تتناول مواضيع سياسية لم يكن أحد يكتب فيها في الأردن.

أعود اليوم إلى أرشيف 2011، وأسألُ نفسي، هل هذا حدث فعلًا؟ لقد تمّ تناول مواضيع حساسة بجرأة، النظام والملك والجيش والمخابرات، ومقالات من شباب يتحدثون عمّا تعنيه لهم ثورات مصر وتونس وحولنا، ومواضيع مثل الديموقراطية والإصلاح، وغيرها.

حققت «حبر» قفزةً كبيرةً في ذلك الوقت، أصبحَ هناك نقاشاتٌ يتمّ بثها عبر الإنترنت مباشرة، وتطورت العلاقة بين «الأونلاين» و«الأوفلاين»، وأصبح لدينا مساحة جميلة وجريئة. ثم انتهت لحظة الزخم الثورية، وتراجع التفاؤل ليحلّ محلّه شعورٌ بالإحباط، لنجد أنفسنا في موقع صعب، حتى أننا لم نعد متأكدين من قدرتنا على المحافظة على الموقع الذي وصلنا إليه، وسألنا أنفسنا: ما هو موقعنا من المتغيرات التي تحدث، وما الذي ينبغي أن نحاول القيام به؟

كرم نشار: بما أن مواقعنا ذات بُعد تحرري على الصعيد الاجتماعي والثقافي، هل تشعرين أن موقع «حبر» في الأردن، بشكل لا إرادي، هو أكثر قربًا للنظام الحاكم، وأنه بسبب محتواه المتحرر ثقافيًا واجتماعيًا، يمكن أن يتمّ استغلاله من قِبل السلطة، عبر القول إن لدينا على سبيل المثال شبانًا وشابات يتحدثون في مواضع مثيرة للاهتمام، وتحررية، فيتمّ توظيفكم في المعركة مع الإسلاميين المحافظين؟

لينا عجيلات: أُحبّ هذا السؤال كثيرًا. النظام في الأردن لم يقل فقط إن لدينا مساحة تحررية للعمل الاجتماعي والثقافي، بل كانت هناك تجربة مباشرة مررنا بها في هذا الأمر. عندما كنا في العام 2011 نطرح نقاشات سياسية ونقاشات جريئة وحيوية، ونقوم ببثها عبر الإنترنت، وكان ذلك تحت اسم «هاشتاج ديبيتز» [hashtag debates]، قال الملك في برنامج حواري في الولايات المتحدة، إن الربيع العربي هو الفرصة التي كان ينتظرها للقيام بالإصلاحات في مواجهة الحرس القديم، وقال إن هناك في الأردن مساحة للحوار والديموقراطية، وأعطى مثلًا عن ذلك الـ «هاشتاج ديبيتز» الذي كنا نقوم به.

بصراحة، يكون المرء واعيًا في مرات كثيرة لهذا الأمر، كيف أننا بدون إرادتنا نلعب دورًا في خطابٍ ما أو منظومةٍ ما. في مرات كثيرة تعرضنا لأسئلة من قبيل: كيف تنشرون كل هذه الأشياء دون أن يتعرض لكم أحدٌ؟

لقد توصلنا إلى خلاصتين، الأولى أننا مستمرون في إنتاج المحتوى الذي نرى أنه ملتزم بالقيم التحررية على الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي والفكري. وفي الوقت نفسه، إذا كان يتمّ توظيف وجودنا بهذا الشكل، فإننا سنعمل على توسيع هذه المساحة إلى أقصى حد ممكن. هذا هو التزامنا.

تغيّر الوضع في الأردن منذ 2011، صارت هناك رقابة أكبر على عمل الإعلام من ناحية قوانين المطبوعات والنشر والجرائم الإلكترونية، وارتفع مستوى الرقابة الذاتية أيضًا. لكننا متمسكون بفكرة أننا سنعمل على ألّا نمارس رقابة ذاتية على أنفسنا قدر الإمكان، وأن نعمل على نشر ما نريد نشره، ثم نراقب ما الذي سيحدث بعدها. والتزامنا هذا هو الذي فتحَ المجال أمامنا لنشر أشياء لا ينشرها غيرنا في الأردن.

كرم نشار: [متحدثًا لمعن] ثمة إحساسٌ أن هناك الأنظمة من جهة، وهناك أيضًا طبقةٌ وسطى مدنية إلى حدٍّ ما، يذهب أبناؤها إلى الجامعات الغربية أو العربية، وهي مهتمة باستهلاك الإنتاج الثقافي المعولم والعالمي، ومنه الموسيقى والسوشيال ميديا والأفلام وأشياء أخرى كثيرة مشابهة. لكن هناك أيضًا كتلة غائبة كليًا عن هذا، وغير معنية بالأنماط الموسيقية السائدة.

إلى أي مدى تشعر أن «معازف»، عبر إنتاجها وأنواع الموسيقى التي تتناولها ومتابعيها، قد خرجت من هذا الإطار، إطار النخب العربية سهلة الانخراط في الثقافات العالمية والكونية؟

معن أبو طالب: مشروع «معازف» ليس مشروعًا صداميًا مع الأنظمة، لكن المكان الذي نحن فيه اليوم سببه ما قامت به الأنظمة في هذه البلاد. الانهيار التام للنقد في العالم العربي، الذي حدث في الستينيات والسبعينيات، كان بسبب الأنظمة، لأنه مثلًا إذا تمّ عرض عمل مسرحي على المسرح الرسمي في دمشق، فإن نقده كان يعني نقد نظام الحكم نفسه، وهو ما كان غير ممكن.

من الجهة الأخرى، ساد الاستسهال في تناول الشأن الثقافي، وتحوّل النقد الموسيقي إلى مجرد إخبار عن الإنتاج الموسيقي مثلًا. وعندما يكون هناك نقد أوسع من هذا، فهو يقوم على معايير أخلاقية، كأن يكون الأمر متعلقًا بالحكم على الموقف السياسي لأصحاب الإنتاج الموسيقي السياسي، مثل أن يُقال اليوم إن المغني الفلاني ليس ثوريًا، وقبلها أن يُقال إن هؤلاء الفنانين خونة، أو عملاء للغرب، أو إلخ.

هكذا في ظل انهيار النقد الموسيقي نفسه لسنوات طويلة، عندما بدأنا، وجدنا أنه ليس هناك جمهور لهذا النوع من الكتابة، ولا كُتّاب لها أيضًا، فصار علينا أن نخلق المادة وفريق العمل والجمهور. لم يكن أحد يكتب هذا النمط بالطريقة التي نحبها وبالشغف الذي لدينا، لم نكن نريد مراجعات عابرة لأناس يتابعون المنتج الموسيقي بشكل عابر، بل نريد لمَن يكتب مراجعات حول نمط موسيقي معين، أن يكون شغوفًا بهذا النمط الذي يكتب عنه، ومتمكنًا منه ومتابعًا له، كي يكون قادرًا على وضع كل عمل جديد في سياقه، ويكون قادرًا على تقييمه.

كرم نشار: سأبدأ مع معن في السؤال الثالث والأخير، الذي سأطرحه بصيغ مختلفة. هل يؤرقك سؤال النخبوية؟ ماذا تشعر عندما يُقال لك إن «معازف» تكتب بشكل نخبوي، وإن مقالاتها صعبة الفهم ومعقدة، وأن موقعكم ليس منتشرًا؟

معن أبو طالب: تهمة النخبوية لا تزعجني، ليس لأننا نخبويون في «معازف»، بل لأنك ستتهم، أيًا يكن إنتاجك، إما بالشعبوية أو بالنخبوية، لأن هناك منطق الأسود والأبيض في الحكم على الأشياء.

لدى كل العاملين في حقل الكتابة في العالم العربي فرصةٌ رهيبةٌ اليوم، وهي العمل ببساطة على تقديم كتابة جيدة، لأنه إذا كان الكاتب متملّكًا لأفكاره، ويعرف عن ماذا يتكلم، ولا يكتب كيفما اتفق، فإنه يستطيع تقديم أفكار غير بسيطة، وممتعة في الوقت نفسه، وقادرة على شدّ القارئ.

ثمة مَن يقول إن العرب لا يقرأون، لكني متعاطفٌ في هذه المعادلة مع القارئ وليس مع الكاتب. العربي لا يقرأ، لأن الكتاب لا يقدمون له ما يستحق القراءة. إذا كان الكاتب يكتب مقاله في نصف ساعة، فلماذا يُتوقع من شخص يرجع إلى بيته بعد عشر ساعات عمل، أن يمنحه نصفَ ساعةِ الفراغ التي لديه قبل أن ينشغل بأمور حياته الأخرى؟ وإذا كان الكاتب يكتب باستسهال وكيفما اتفق، ولا يشدّ القارئ ولا يكافئه، فليس له أن يتوقع كثرةً في عدد القراء.

كرم نشار: لينا عجيلات، كيف تتعاملين مع هذا السؤال؟

لينا عجيلات: أتفق تمامًا مع ما قاله معن، وأرى أن تهمة النخبوية تكون في كثير من الأحيان تعبيرًا عن الاستعلاء على القارئ العربي. عبر مشاهدات وتجارب كثيرة، وعبر التواصل مع المكتبات والناشرين، ومتابعة حجم الكتب المنشورة بصيغة pdf على الإنترنت، أشعرُ أن هناك تعطشًا شديدًا للمعرفة المُعمَّقة.

صحيح أن المقالات الطويلة المُعمّقة ليست هي الأكثر انتشارًا، ولكن هل الانتشار هو مقياس التأثير؟ وما هو تعريفنا للتأثير؟ هناك مقالات وتقارير تُنشَرُ وتحوز على شهرة واسعة، ويكون لها تأثيرٌ على مجموعة لا بأس بها من القراء، لا أتحدّثُ عن ملايين طبعًا، ويكون لها تأثيرٌ على السياسات والقرارات بشكل مباشر، أو أنها تكون مُلهِمَةً للقيام بأبحاث معينة.

على سبيل المثال، كتب زميلنا في «حبر» شاكر جرار تقريرًا بحثيًا عن أراضٍ أردنية كان الأردن قد استعادها بموجب اتفاقية وادي عربة، ثم تمّ تأجيرها لإسرائيل بعد ذلك. وبصرف النظر عن التفاصيل، هذا الموضوع لم يكن أحدٌ قد أتى على ذِكره من قبل، وحصلَ على قراءات جيدة، لكنها لم تكن كبيرةً جدًا، غير أن التأثير المباشر ظهر من خلال قيام نواب في البرلمان بطرح الموضوع وتوجيه أسئلة للحكومة حوله، بعد نشر هذا المقال. كان هذا ملفتًا، وقادنا إلى العودة للتفكير مجددًا في معنى التأثير.

كرم نشار: السؤال نفسه سأوجهه للعزيزة لينا عطا الله. كيف تتعاملين مع هذا الموضوع؟

لينا عطا الله: سيكون كلامي إعادة إنتاج لكلام معن أبو طالب ولينا عجيلات بشكل من الأشكال. هناك أمر محوري في اعتقادي عندما نحاول توصيف معنى أن يكون لدينا، كمواقع مستقلة، ممارسات صحفية بديلة، وهو أن هذا مرتبطٌ بكيفية تغيير قواعد اللعبة في حقل عملنا، في حقل السياسة بشكل عام، وفي الحقل الإعلامي بشكل خاص، المتعلق بمعنى الإعلام كيفية فهمه وتاريخه، و«تشويه» هذا التاريخ بشكل من الأشكال.

واحدةٌ من القواعد الأساسية التي تعلمتها في الصحافة الأكاديمية، هي أن الصحافة عملية تبسيطية، وأن الواقع شديد التعقيد، وأن عملنا هو تبسيطه للقارئ. نحن نتحايل على هذه القاعدة تمامًا، ولا نتجاهل فكرة أن الواقع معقد، بل نحاول كتابة نصوص تنقل مقدار هذا التعقيد للقراء، عبر كتابة نصوص لا تطرح حلول الأزمات على أساس ثنائية الأبيض والأسود، وهذا مثالٌ على كيفية محاولاتنا تغيير قواعد اللعبة في حقل عملنا عبر التجريب.

لهذا أعتقدُ أننا لسنا معنيين بالبحث في ما هو نخبويٌ أو غير نخبوي، دون أن يعني هذا أننا لسنا معنيين بالانتشار. الانتشار محوريٌ بالنسبة لنا جدًا، وهو سلاحٌ حتى بالمعنى السياسي، لكننا لا نرتبكُ في مواجهة سؤال النخبوية، وأعتقدُ أن من أسباب هذا هو ما قلتُهُ أولًا عن عملنا، أننا معنيون بالمشاهدة والمعاينة وجمع الأخبار وتغطية الأحداث بشكل مُعمَّق، ونبحث دائمًا عن الزاوية التي يمكننا من خلالها تغطية الحدث بطريقة معمقة ومختلفة عن السائد في الوقت نفسه. ولعلَّ هذا الانخراطَ في الحدث يُبعِدُنا قليلًا عن تهمة النخبوية، التي لا نفكر فيها كثيرًا في الأصل، كما قلتُ.

النقطة الثانية هي أننا نقدّمُ للقراء معلومات جديدة أو زوايا نظر جديدة، لم يكونوا منتبهين لوجودها، نصدم الناس بهذا ونصدم أنفسنا أيضًا، وهذا مرتبط بفهمنا للصحافة على أنها لا ينبغي أن تنطلق من مواقف محددة سلفًا، وأنها تعتمد على الفضول، وهو ما ينتج أشياء تتجاوز فكرة النخبوية والشعبوية.

أيضًا نحن دائمًا نضع أنفسنا في مواجهة سؤال: لماذا نجعل القارئ يأتي إلينا؟ ما هو الجديد الذي نقدمه له؟ وطبعًا نحن منحازون لفكرة أن الكتابة الجيدة هي التي تربح، حتى لو كان النص من 7000 كلمة، تمامًا كما أن الفيديو السيء يخسر، حتى لو كان من دقيقة واحدة.

كرم نشار: سنوقفُ حوارنا الرباعي الآن، ونفتح بابًا للأسئلة والمداخلات لجميع الحضور.

المداخلة الأولى: مرحبًا. سؤالي الأول للسيدة لينا عجيلات، وهو مرتبط بسؤال كرم نشار حول استغلال النظام الأردني لموقع مثل «حبر».

معلوماتي، التي أرجو تصحيحها إن كانت خاطئة، أن موقعكم حُجِبَ عدة مرات في الأردن بعد 2011، ثم تمكنتم في وقت معين من الحصول على تصريح بالانضمام إلى نقابة الصحفيين الأردنيين، أي أنه أصبح مسموحًا لكم بالعمل. وينبغي أن أقول هنا إنني لم ألحظ أي تغيير في المحتوى قبل التصريح وبعده، وهذا يعني أن انضمامكم لنقابة الصحفيين، أي اعتراف نظام الحكم بكم وسماحه لكم بالعمل، لم يؤدِ إلى رقابة ذاتية على عملكم، وهذه نقطةٌ تُحسَبُ لكم. لكن ألا تشعرون أن نظام الحكم يستغلكم عبر هذا الأمر، عبر القول إن وجودكم دليلٌ على التعددية؟ وأيضًا بالاستناد إلى قولكِ إن مستوى الرقابة الذاتية ارتفع في الأردن، هل شعرتم أن هذا أثّرَ على مضمون ما يصلكم من نصوص؟

سؤالي الثاني موجّهٌ للجميع. تمرُّ الصحافة العربية التقليدية، وحتى الصحافة العالمية، بأزمة مالية، شهدنا جانبًا منها لدينا في لبنان عبر إغلاق عدة صحف كالسفير وغيرها. ضمن هذه الظروف، صحيحٌ أنكم تقدمون محتوىً قيّمًا ويحترم المتلقي، لكنكم في الوقت نفسه تقدمون أنفسكم على أنكم صحافة مستقلة، أي أن فيها جانبًا تطوعيًا. كيف كان أثرُ هذه الأزمة عليكم؟ هل كان عبر الاتجاه إلى مزيدٍ من العمل التطوعي؟ كيف تعملون لمواجهة هذا الأمر؟

المداخلة الثانية، الصحفي اللبناني خالد صاغية: هل تعملون على تطوير التعاون بينكم، بالإضافة إلى العمل على الملفات المشتركة، كالتفكير بمنصة واحدة مثلًا تجمعون فيها المواد التي تنشرونها؟ أطرحُ هذا السؤال لأن هناك أمرًا سيئًا بالنسبة لي كقارئ، وهو أنني أدخلُ إلى موقع «مدى مصر» مثلًا، في وقت يكون فيه هناك أحداث كبرى في سوريا، فلا أجد فيه ما يتناول الوضع السوري. وأيضًا أدخلُ إلى موقع الجمهورية، فلا أجد فيه ما يتناول أمورًا متعلقةً ببلاد أخرى غير سوريا. ذلك مع أن روحًا واحدةً تجمع مواقعكم. هل فكرتم في كيفية تطوير التعاون بينكم، لتجميع موادكم في مكانٍ واحد؟

كرم نشار: هل تودين الإجابة على السؤال الأول، لينا؟

لينا عجيلات: أنا سعيدة أنك لم تلحظ فرقًا في المحتوى قبل الترخيص وبعده، وهذا أمر كنا مصرّين عليه تمامًا، وعندما تعرضنا لمحاولات لفرض الرقابة علينا، كان ردنا جماعيًا، وهو أنه إذا كان سيتم التحكّم بالمحتوى الذي ننتجه، فالأفضل أن نتوقف عن العمل نهائيًا.

ندخلُ في عمليات تفاوض ونحاربُ من أجل الدفاع عن استقلاليتنا، ولا زلنا ننجح في هذا حتى الآن، لكني لا أعرف كيف سيكون الوضع لاحقًا.

بخصوص السؤال الثاني حول التمويل. عندما بدأنا في «حبر» عام 2007 كان العمل تطوعيًا بالكامل، لكن في اللحظة التي أصبحنا فيها نريد أن نعمل على إنتاج محتوى أعمق وأوسع ومشغولًا بحرفية أعلى، أي أنه يحتاج جهدًا وساعات عمل طويلة، لم يكن من الممكن الاستمرار في الاعتماد على العمل التطوعي.

لا يمكن إنتاج محتوى كهذا بعمل تطوعي، أو هذا ما أعتقدهُ أنا. طبعًا هناك تجارب تطوعية جميلة، لكني أرى أن هناك حدودًا للاعتماد على العمل التطوعي في بناء مشاريع مُستدامة.

هكذا بدأنا بالتقدم للحصول على مِنَح من مؤسسات غير عربية في الغالب، ودائمًا نواجه أسئلة حول تأثير هذا على استقلالية عملنا، وحول خططنا المستقبلية. نحن انتقائيون جدًا في اختيار المؤسسات التي نتقدم للحصول على منح منها، لأن الاستقلالية التحريرية هي المحور الأساسي في عملنا، والأمر الثاني أننا نحاول منذ سنتين بناء موارد دخل مستقلة، كي نتمكن من الإنفاق على العمل الصحفي الذي نريد، لأن إنتاج المحتوى العميق الجيد، الي يتطلب استقصاءً وبحثًا، يستهلك موارد ليست قليلة.

على أي حال، وكما قلتَ أنت، هذه المسألة تحدٍ تواجهه المؤسسات الصحفية في كل العالم، ونحن جزءٌ من تجربة مثيرة في هذا المجال.

كرم نشار: معن، هل تحب أن تضيف شيئًا بهذا الخصوص؟

معن أبو طالب: كنا متطوعين، ولم نعد كذلك الآن، إذ أصبحنا نعتمد على تمويل جهات مانحة، وهذا ضروري في المرحلة التأسيسية، لأن مؤسساتنا نموذج جديد من العمل الصحفي في العالم العربي، ولا يمكن أن تكون مكتفية ذاتيًا الآن.

كرم نشار: هل تقصد أننا ينبغي أن نصل إلى مرحلة يشارك فيها القارئ العربي في المساعدة ماليًا على إنتاج المحتوى، بمعنى أنه كما كان القارئ يدفع ثمن الجريدة الورقية، فإنه ينبغي الوصول إلى صيغة بديلة لهذا بخصوص الإنتاج الرقمي؟

معن أبو طالب: من الممكن أن يكون هذا أحد الحلول، لكن ما يقلقني في هذا الموضوع، أن وسائل الدفع الإلكترونية ليست شائعة في العالم العربي، بمعنى أنه حتى لو أراد القراء العرب دعم المؤسسات ماليًا، عبر دفع مبالغ مالية مقابل الوصول إلى المحتوى مثلًا، فإن معظمهم لا يستطيعون. لدينا مثلًا قراء كثيرون في تونس، وليس لدى معظمهم طريقة للدفع إلكترونيًا.

كرم نشار: لديَّ ما أقوله بخصوص سؤال الصديق خالد صاغيّة، لكنني أريدُ أن أسمع منكِ أولًا لينا عطا الله. بعد 2011 ولدت كثيرٌ من المواقع العربية المستقلة المحليةّ، وكان خالد قد سألنا إذا ما كان لدينا مشروعٌ لتأسيس منصّة واحدة تُنشَرُ فيها موادٌ تغطي العالم العربي، لكن هناك وراء الجانب العملي لهذا سؤال، جانبٌ يتعلق بجدلية المحليّة.

لينا عطا الله: نتكلمُ كثيرًا عندما نلتقي عن فكرة المحليّ في مقابل الإقليمي، وهناك احتفاء جماعي بفكرة أن لدينا هذه الشبكة التي نحاول بناءها، وهي محاولة من بين محاولات أخرى قد لا تكون كثيرة، لكنها متوازية على الأقل، لإعادة فهم ما هو عربي، وإعادة تعريف ما هو مشترك عربيًا من الأسفل إلى الأعلى، وليس من الأعلى إلى الأسفل كما كان الحال عليه في الستينيات.

أعتقد أن محورًا أساسيًا في عملية إعادة الفهم هذه، هو الانطلاق من موقع شديد المحلية، والاعتراف بالخصوصيات المحلية، وفي الوقت نفسه مقاومة حالة الانغلاق والانعزال التي قد يفرزها الانغماس في المحلي، عبر الأخذ في عين الاعتبار أن حالة كلٍّ منا ليست استثنائية، وأننا لسنا لوحدنا.

انطلاقًا من هذا، أعتقدُ أن الأمر المهم ليس إعادة إنتاج الصيغة الصحفية للمواقع والصحف ذات التوجه العربي الشامل، لكن المهمّ هو أننا نعمل بشكل متفرد ولكن مع مساحة مشتركة في المنتصف، ليس فقط عبر إنتاج محتوى مشترك لمرة واحدة في السنة، لكن عبر الانفتاح على أنماط أخرى من العمل المشترك، الثنائي أو الجماعي على مستوى الشبكة كلها.

أعتقد أن هذا هو المهم في هذه المرحلة، وهو أمر مرتبط بالتأثير على المستوى المحلي، لأننا نحتاج أن نبني ونراكم في الداخل أساسًا، وبشكل منفصل عن فكرة العمل على موقع واحد أو منصة واحدة.

كرم نشار: سأتجاوز موقعَ المُضيف، لأن هناك ما أريد قوله بخصوص سؤال خالد صاغية. هناك إرث لبناني يتهيّب من المحلية، باعتبارها ارتبطت في السياق اللبناني بالانعزاليّة، لكن في بلدان عربية أخرى، كان سحق الحياة السياسية مرتبطًا بسحق ما هو محلي، وليس صدفة أن البلاد العربية الأكثر استهلاكا للمنابر الإعلامية الموجهة للعالم العربي بشكل شامل، هي البلاد التي لم يكن فيها حياة سياسية. السوريون مثلًا يتابعون الجزيرة أو العربية، في حين أن اللبنانيين يتابعون القنوات اللبنانية، ويقرأون الصحف اللبنانية المحلية.

العملية السياسية لا تحدث على المستوى العربي، ولذلك فإن العمل على المستوى المحلي هو أمر أكثر تقدمية وديموقراطية، لأن إعطاء الصوت للشعوب، يعني بالضرورة العمل على إعادة السياسة إلى سياقها المحلي، وهو الأمر الذي لا يكون انعزاليًا بالضرورة، بل قد يكون تقدميًا وتحرريًا.

في الوقت نفسه أتفقُ معك في ضرورة أن يكون لدينا انفتاحٌ على ما يجري في العالم العربي، ونحن في الجمهورية، ولدى شركائنا الآخرين أيضًا كما أعتقد، مدركون أنه ينبغي أن نكون أكثر اهتمامًا وتغطية لما يجري في العالم العربي، وعالميًا أيضًا، ولكن هذا يسير ببطء بسبب قلّة الموارد، ونسير باتجاهه خطوة خطوة.

كرم نشار: يبدو أن هناك المزيد من أسئلة، وهذا أمرٌ يدعو للسرور. تفضلي سنا.

المداخلة الثالثة، المصممة والمحررة السورية سناء يازجي: مساء الخير. أريد أن أسأل معن عن موضوع تحدّثَ عنه، وهو المتعلق بالمعيار الأخلاقي والمعيار الجمالي في الحكم على الموسيقى.

هل تأخذون بعين الاعتبار دورَ الموسيقى والغناء في المجتمعات العربية بعد لحظة 2011، هل تضعون هذا الدور في حسبانكم أثناء كتابة المقالات؟ والسبب في سؤالي هو أنه كان هناك مرحلة تحرّرٍ بعد 2011، ولكن تلاها مرحلة انفلات. في سوريا اليوم هناك مثلًا فرقة راب تقدم أغنيات شديدة البذاءة، حتى أنه كان صعبًا على سماعها، وعندما سمعتُها، لاحظتُ أنها إلى جانب بذاءتها الشديدة، تحتوي سبكًا متينًا ولحنًا جيدًا وجاذبًا، وهي مستندة إلى سياق واقعي مرتبطٍ بما يحدث على الأرض. هذه الفرقة، رغم بذاءتها، صارت شعبية ومنتشرة على نطاق واسع، ربما لأنها تستمد كلماتها وموضوعاتها من الواقع. كيف تتعاملون مع أمرٍ كهذا؟

المداخلة الرابعة، الأكاديمي والباحث السوري حسان عباس: لدي سؤال مكمل بشكل من الأشكال لما قالته سناء. أنتم تحملون قيمًا تحررية وحداثوية، وهذا في الواقع شكل من أشكال المقاومة للسائد، والمقاومة للطغيان. لكن هناك مساران لمقاومة السائد اليوم في العالم العربي، مقاومة نحو الحداثة، ومقاومة نحو التخلف والانحطاط، ويبدو أن الأخيرة هي الأشد تأثيرًا في المجتمعات.

أنتم كمنصات مقاوِمة تحمل قيمًا تحررية وحداثوية، ما هي الآليات التي تستخدمونها لمقاومة الانجراف نحو النمط الآخر من المقاومة، أي حتى تظلّوا محافظين على مقاومة تتناسب مع قيمكم؟

معن أبو طالب: لن أبدأ بالإجابة على سؤالك الأول، سيدة سناء، لكن هناك نقطة مهمة أريدُ الإشارة إليها، وهي الخلط بين الثورة وانتشار الإنترنت. هناك كثيرون كانوا يعملون على أنواع مختلفة وغير سائدة من الموسيقى، لكنها لم تكن تصل أو تنتشر لغياب الوسائل، ومع ظهور الساوند كلاود وتطور وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ هذا النوع من الإنتاج ينتشر ويُسمَع. طبعًا ساهمت الثورات في رفع السقف، وأصبحت الناس تشتم في أغانيها مثلًا، وتتطرق إلى مواضيع لم يكن ممكنًا التطرق لها، لكنني لست مرتاحًا لهذا الربط بين الثورات والانفجار في الإنتاج الموسيقي. مثلًا، موسيقى المهرجانات الشعبية المصرية موجودة قبل 2011.

السيدة سناء يازجي: أريد أنا ألفتَ نظرك إلى أن مجموعة الراب التي تحدثتُ عنها كمثال مواليّة للنظام السوري.

معن أبو طالب: الأشخاصُ مثل هؤلاء الذين تتحدثين عنهم، غالبًا يقدمون إنتاجهم لطرح أجوبة وليس لطرح أسئلة، بمعنى أن لديهم موقفًا ثابتًا يستخدمون وسائل فنية لطرحه، وبالتالي يكون إنتاجهم قليل القيمة فنيًا، لأنه أقرب إلى الدعاية السياسية منه إلى العمل الفني، لكن إذا حدث أن جاء فنان فاشي مثلًا، مثل فاغنر الذي كان نازيًا، وقدّم موسيقى عظيمة، هل نرفض سماعها لأننا غير متفقين معه أخلاقيًا؟

ما أقوله أن هؤلاء فنانون، وأن في المقاربة الأخلاقية تأليهًا للفنان، لأن الفنان ليس بوصلة أخلاقية، ولا ينبغي أن يكون. ولذلك نحن نتعامل مع المُنتَج، ومع الأشياء التي نتعلمها منه، والمتعة التي نحصل عليها من خلاله.

كرم نشار: لم يعد لدينا كثيرٌ من الوقت، ربما خمس دقائق. هل يمكن أن تتفضل لينا عجيلات أو لينا عطا الله بالإجابة على سؤال الدكتور حسان عباس؟

لينا عجيلات: نذكّرُ أنفسنا دائمًا في «حبر» بأن لدينا قيمًا تحررية، لكننا نتجنب في الوقت نفسه أن نلعب دورًا تبشيريًا. من هذا المنطلق أتفق تمامًا مع ما تقوله لينا عطا الله عندما تتحدث عن فعل المشاهدة والمعاينة وطرح الأسئلة، ومحاولة فهم مجتمعاتنا وما يحدث فيها، ومحاولة خلق حوار وجدل.

في أحيان كثيرة، تذهب المقاومة التي تحدثتَ عنها في اتجاهات مغايرة لما نحمله من قيم، لكننا نرى أن دورنا الأساس هو محاولة الفهم والتفكيك، في ظل الاستقطاب الشديد الذي جعل أفراد المجتمع غير قادرين على التواصل والحوار مع بعضهم بعضًا.

لينا عطا الله: أريد أن أضيف أنني لا أشعر أن مشروعنا تنويري، بل بالعكس، لدينا موقف مضاد لهذا، وإذا كنتَ قد تحدثتَ عن مقاومة باتجاه حداثوي، فإنني أرى أننا في موقع «ما بعد» إلى حد ما. ورغم إشكالياتنا مع خطاب ما بعد الحداثة، إلا أن التفكيك هو في صلب عملنا أيضًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية