حول فقْد الأطفال: تأملات في فاجعة البحر الميت

الإثنين 05 تشرين الثاني 2018
رجل يجول في موقع حادثة البحر الميت ليلة وقوعها. تصوير خليل مزرعاوي، أ ف ب/جيتي إيمجز.

تضعنا الفاجعة التي وقعت في البحر الميت قبل أسابيع، وراح ضحيتها 21 شخصًا منهم 14 طفلًا من طلبة المدارس كانوا في رحلة مدرسية، أمام مسألة أكيدة: فقد الأطفال وجع لا يمكن وصفه. كان الأردنيون سيحزنون على الضحايا أيًا كانت أعمارهم، لكن طفولة أولئك الضحايا خلقت نوعًا آخر من الحزن. ثمة عدم تصديق، الكل يحدق حوله، ينظر إلى شريط الأخبار ويحاول عبثًا أن يتخيل عيون الأطفال في آخر لحظات حياتها حين جرفها السيل، يحتضن أطفاله ويرثي لأهالي الضحايا الذين لا يتمنى أحد أن يمر بمثل ما مروا من لحظات. لو كان الضحايا من أعمار أخرى لاختلفت ردة الفعل، ليس بمعنى أن يقل الحزن بالضرورة، فالموت موت، ولكن طبيعة الحزن وطريقة التعبير عنها كانت ستأخذ شكلًا مختلفًا.

ما سبب هذا الاختلاف؟ لماذا يثير فقد الأطفال تحديدًا كل هذه الآلام الجنائزية التي قد لا يثيرها بالضرورة موت الكبار؟ يتعامل بعضنا مع هذه الحقيقة على أساس أنها بديهية لا تحتاج تفسيرًا. الأطفال ملائكة، أبرياء، أنقياء، خارج المحاسبة القانونية، خارج التكليف الشرعي، خارج الشجارات الدنيوية. لا يتقبل البشر بسهولة فكرة فقد الأطفال. في كثير من النقاشات الفلسفية طُرح موضوع الآلام التي تحيط بالأطفال في معرض نقاش مشكلة الخير والشر والقدر والعدالة. ورغم أن بعض الاتجاهات الفكرية المعاصرة حاولت إعادة النظر في الصورة الرومانسية التي نرسمها للأطفال، كفكرة الملائكية مثلًا، وجادلت بأن مفهوم الطفولة نفسه كمرحلة قانونية مفهوم حديث حاول عبره إنسان الحداثة أن يفصل بين ذاته العاقلة المقوننة وذات الطفل، إلّا أن الأطفال ظلوا في المخيلة البشرية مجازًا لكل ما هو حالم ومثالي في هذا العالم، وفقدهم، بالتالي، هو قتل لهذا الحلم في أكثر حالاته صفاء.

سأحاول في الأسطر التالية أن أبتعد عن فكرة البراءة والملائكية التي تحيط بالأطفال وتسارع في تفسير كل هذا الألم الذي ينتج من فقدهم. فقد الأطفال برأيي يهز في الإنسان دوائر خاملة لا يحب البشر أن تستيقظ في داخلهم، يشعر بها كل من سمع بفقد هذا الطفل أو ذاك، لكن من يعيشها بمعناها المرعب هم آباء وأمهات الأطفال المفقودين.

أولى هذه الدوائر الخاملة هي منطق الحياة وعلاقته بالزمن. تعوّد البشر في علاقتهم بالزمن على أن الصغير سيكبر، والشاب سينضج، والبالغ سيهرم، وسيأتي الموت كي يريح الهرم من تبعات الحياة التي لا يطيقها. لكن، من أي شيء سيريح الموتُ الأطفال؟ الأطفال يفترض بهم أن يكونوا خارج أحكام الزمن، لم يبدأوا بعد، لم يدخلوا العالم تمامًا كي يخرجوا منه. فقْد الأطفال قلبٌ كاملٌ لمنطق الأشياء؛ إيقاظٌ للبشر على حقيقة موجعة اسمها لامنطق الزمن. فقد الأطفال يشعرنا أن الموت أقرب مما نتخيل، نفهم معه الشاعر الجاهلي الذي كان يقول «رأيت المنايا خبط عشواء». بهذا المعنى، فإن الرعب من فقد الأطفال ليس حزنًا عليهم فقط، ولكنه خوف علينا نحن الكبار. لا نريد أن نفقد الأطفال لأننا نحبهم بجنون، هذا صحيح، لكننا أيضًا لا نريد أن نفقدهم لأن فقدهم قتل لطمأنينتنا. موت الكبار محزنٌ لكنه ليس مخيفًا. وحده فقد الأطفال مجزع رهيب، يكاد لا يصدق، لأنه يضعنا ليس فقط أمام الموت، وإنما أمام احتماليته القصوى لنا. إذا كان الموت قد يصيب طفلًا فمن الأسهل، على المستوى الزمني، أن يصيب من هو أكبر منه. لا نريد أن يصيب الموت من تحتنا سنًّا لأننا لا نريد أن نفكر بإمكانية موتنا.

وحده فقد الأطفال مجزع رهيب، يكاد لا يصدق، لأنه يضعنا ليس فقط أمام الموت، وإنما أمام احتماليته القصوى لنا. إذا كان الموت قد يصيب طفلًا فمن الأسهل، على المستوى الزمني، أن يصيب من هو أكبر منه.

وإذا انطبق هذا الرعب الزمني من فقد الأطفال على الكبار عامة، فإنه في حالة الآباء والأمهات أكثر تعقيدًا بما لا يقاس. اسأل أي أب وأم في هذا العالم وسيقولون لك إننا نتمنى أن نموت قبل أن يموت أولادنا. سيحزن أولادنا علينا حين نموت، لكننا إن فقدنا أطفالنا سندخل ما وراء الحزن، حيث تختفي اللغة ويختفي كل شيء. الآباء الثكالى يرتجفون أمام لامنطق الزمن هذا. كيف يمكن للموت أن يتجاوزهم إلى أولادهم؟ الرعب من فقد الأبناء يعود في جزء منه إلى أن الموت مرتبط في ذهننا بتقدم العمر. الناس يشيخون ويموتون، هذه هي القاعدة العامة، والويل للأب والأم الذين يقودهم قدرهم إلى أن يجربوا الحالات الاستثنائية. وجع المسألة هو أن الآباء الثكالى سيستحيل عليهم الجمع بين المتناقضين: طفولة الضحية وموتها، النهاية لشيء لم يبدأ. رعب الزمن هنا هو أن الثكالى سيشعرون للحظة أن منطق الحياة انقلب، فأبناؤهم الموتى أصبحوا بسبب موتهم أقرب للآباء عمرًا، والآباء لأنهم أحياء أصبحوا أبناء. فقد الأبناء كسر تام لعقارب الساعة، فالأمام أصبح وراء، وما يفترض أنه سيكون وراء لم يعد له أمام كي ينتظره.

هذا الرعب وجد له تعبيرًا مدهشًا في مسرحية توفيق الحكيم «أهل الكهف»، المبنية على القصة القرآنية المعروفة. «مرنوش»، أحد الثلاثة العائدين في المسرحية، يحاول التأقلم بداية على فكرة العودة بعد نومه في الكهف مئات السنين، متجاهلا فكرة الزمن مادام يظن أنه قادر على أن يجد زوجته وابنه. لكن اللحظة القاصمة لأوهامه بإمكانية تجاهل الزمن تأتي حين يقف أمام قبر ابنه وقد كتب على شاهده أن الابن مات في عمر الستين. تصالح مرنوش، الذي عاد إلى الحياة شابًا، مع العالم والعادات والطباع الجديدة التي وجد عليها مدينته بعد كل هذه السنين، لكن وقوفه أمام قبر ابنه وضع حدًا لتصالحه. المفزع في حالة مرنوش أن ابنه، الذي مات قبل سنوات طويلة، بلغ عمرًا لم يبلغه مرنوش بعد بسبب معجزة نومه في الكهف. وحين حاول صديقه «مشلينا» أن يفهم سبب عذابه من اكتشاف هذه الحقيقة، أخبره مرنوش أنه لا يبكي ابنه فقط، ولكنه يبكي رعب الزمن:

مشلينا: لا تبك يا مرنوش. ما فائدة بكاء ولدك الآن؟ّ
مرنوش: لست أبكي ولدي أيها الأحمق.
مشلينا: إذن، ما بكاؤك هذا؟
مرنوش: عذاب… عذاب آخر لا تفهمه أنت. يا ربي لماذا تركتني فريسة للعقل؟ ثلاثمئة عام؟ ابني في سن الستين وأنا فتى أمامي النضج والحياة.

صورة مرنوش هذه تصلح رمزًا للآباء الذين يفقدون أبناءهم: موت الأبناء نقل مجازي لهم إلى مرحلة عمرية لم يصل إليها الآباء بعد. الأبناء تجاوزوا آباءهم. الموت يجعل الابن أبًا لأبيه.

الشيء الآخر الذي يثيره فقد الأطفال يتعلق بالذاكرة. الذاكرة بمعناها الأولي هنا هي أن الثكالى سيحكم عليهم أن يتذكروا أطفالهم المفقودين عبر صورهم وألعابهم وأحذيتهم وملابسهم وجميع أشيائهم التي تركوها. سيعيش الثكالى لحظات أليمة وهم يتساءلون إن كان من الأحكم والأسلم لعقولهم كي لا يجنوا أن يتخلصوا تدريجيًا من كل ما يذكرهم بشكل متكرر يومي بأطفالهم. في الفيلم الإيطالي «غرفة الابن» الذي أخرجه ناني موريتي عام 2001 تحول الأسرة غرفة ابنهم الفقيد إلى متحف للذاكرة. تتحوّل مقتنيات الابن المفقود إلى فضاء يدخله الأبوان رغمًا عنهم كي يزداد يقينهم أن ابنهم لم يعد معهم. وحين يشعر الأب بالاختناق من لعنة الذاكرة يقول جملته الرائعة في نهاية الفيلم «عندما يرحل أحبابنا ويذهبون، لماذا لا يأخذون أشياءهم معهم؟».

هذه الذاكرة الأولية لا تقتصر بالطبع على فقد الأطفال، فكل من فقد عزيزًا أو حبيبًا سيمرّ بحالات صراع مشابهة بين النسيان والتذكر وعلاقتهما بأشياء الفقيد. الأكثر إيلامًا في فقد الأطفال هو نوع آخر من الذاكرة، يمكن تسميته بالذاكرة المتخيلة. الآباء الثكالى لن يتذكروا فقط ما كانه طفلهم، وإنما ما كان يمكن أن يكونه لو ظل حيًا. كل سنة تمر على الآباء الثكالى تحمل معها تقدمًا في عمر ذاك الطفل الذي لم يعد موجودًا. سيكون حتمًا على الآباء تخيل أطفالهم كلما التقوا بأصدقاء أولئك الأطفال، كلما مروا من أمام المدرسة التي كان الأطفال يدرسون فيها، كلما رأوا مناسبة تخرج أو فرح كان من المفروض وجود الأطفال فيها. ولأن الآباء عاشوا هذه المراحل العمرية المختلفة التي حرم الابن منها فإن سيعانون وهم يرسمون في أذهانهم صورًا لأطفالهم فيما لو عاشوا، سيتحسرون حين يدركون مدى التجربة الغنية التي كانت في انتظار أبنائهم لو أنهم بقوا على قيد الحياة. الذاكرة هنا لا تعود عملًا ماضويًا استرجاعيًا، بل عملًا مستقبليًا عبثيًا يزيد من مأساة الثكالى ووجعهم.

في قصيدته الشهيرة «يامنة»، يصور شاعر العامية المصرية العظيم عبد الرحمن الأبنودي لقاءه بعمته يامنة بعد سنوات من الغياب. تشكو العمة آلامها الجسدية وصعوبة حياتها، لكنها في لحظة تبدو كمن تذكر شيئًا هامًّا وتلتفت إلى الأبنودي وتقول:

بناتي رضية ونجية ماتوا وراحوا
وأنا اللي قعدت
طيب يا زمان
أوعى تعيش يوم واحد بعد عيالك
أوعى يا عبد الرحمن
في الدنيا وجع وهموم أشكال وألوان
الناس ما بتعرفهاش
أوعرهم لو حتعيش
بعد عيالك ما تموت
ساعتها بس
حتعرف إيه هو الموت.

فقد الأطفال هو هذا تحديدًا: هو الوعر كما لم يجرب من قبل، وما عاشه الناس في الأردن قبل أسابيع أيقظ فيهم رعبًا مجتمعيًا نادر الحدوث في بلد ظل نائيًا عن تجارب الموت المريرة التي تعيشها دول الجوار بشكل يومي. سيمضي وقت طويل قبل أن يتصالح الأردنيون مجددًا مع الرحلات المدرسية، مع مجرد خروج الأطفال من البيت، مع أي لحظة يختفون فيها من أمام عيونهم. أما الثكالى فالأفضل لنا ولهم أن نتركهم في شأنهم، فعندهم ما يكفي، وعندنا الخوف من تجربتهم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية