petra البترا

في زمن «التنمية»: أهالي أم صيحون يعودون إلى الكهوف

في زمن «التنمية»: أهالي أم صيحون يعودون إلى الكهوف

الأربعاء 22 حزيران 2016

لا شك بأن سكان قرية أم صيحون التابعة للواء البترا يشاطرون باقي قرى المملكة النائية الهموم ذاتها، فما من ساكن تلتقيه يعتبر أن الخدمات والبنية التحتية مقبولة. لكن الهمّ الشاغل لهم اليوم، قبل أهلية الشوارع وانتظام الماء والكهرباء، هو إيجاد سكن ملائم لهم.

تكثر التعابير المجازية التي يطلقها أهل المنطقة من عشيرة البدول التي سكنت البترا تاريخيًا لوصف كتلة سكانية تنمو كل يوم ولا تجد أرضًا تعمرّها، فتبقى مقيّدة الحركة كـ«العصفور في قفص»، أو في «سجون» شديدة الاكتظاظ.

بدأت القضية، التي يشبهها بعضهم بـ«القضية الفلسطينية» لطيلة انتظار حلها، عام 1985، عندما أدرجت منظمة اليونسكو البترا في قائمة مواقع الإرث العالمي، وبالتالي بات ضروريًا إخراج الناس من المغارات. منذ ذلك الحين، تمكنّت الحكومة الأردنية من إقناع ساكني المغارات بالخروج من المنطقة والرحيل إلى قرية أم صيحون التي أنشئت خصيصًا لغاية إسكانهم، كما تشهد اللافتة الموجودة على بوابة القرية والتي كُتب عليها «إسكان البدول».

بحسب التعداد السكاني الأخير لعام 2015، يسكن قرية أم صيحون التي تبلغ مساحتها 2 كلم2 2117 فردًا، مما يجعلها منطقة شديدة الاكتظاظ باعتراف الموقع الإلكتروني لسلطة إقليم البترا ذاتها، الذي يشير إلى أنها تشهد «أعلى كثافة سكانية في الأردن».

يقول نواف الفقير الذي ولد في عام 1969 في كهف في البترا أن الناس «خرجت بطريقة اختيارية»، ويضيف أن الشروط تمثلت في إيجاد «سكن بديل، وأراضي زراعية بديلة. قبل كان كل واحد عارف وين أرضه ووين بيحرث، وأرض للمستقبل مشان لما تبلش العيال تكبر يعمّروا فيها. تفاجئوا الناس ما في منه الحكي».

بحسب رواية الفقير، من ترك مساحةً واسعةً تتسع له ولأبنائه وحطبه وغنمه اكتشف لاحقًا أن البيوت التي بنيت في تلك الفترة لا تتعدى مساحتها 80 مترًا، وهي أشبه بـ«علب السردين»، مما اضطر الناس لاحقًا إلى هدمها أو الإضافة عليها عندما كان ذلك مسموحًا.

بيد أن التوسع الأفقي والعمودي في القرية ممنوع اليوم، فالأراضي المحيطة التي يمكن للناس البناء عليها هي إما ملك لخزينة الدولة، أو مملوكة لأهالي منطقة أخرى في اللواء، بينما تقع أراضيهم هم في حدود محمية البتراء التي يمنع البناء فيها، وهو ما يجعل كثيرين يعتبرون أنهم «محاصرون» بلا مأوى سوى كهوفهم القديمة التي ورثوها أبًا عن جدّ.

بعد عبور ما يسميه أهل المنطقة «الطريق الصحراوي الثاني» داخل المدينة الوردية بالسيّارة، تصل إلى تجمع عائلات تنتظر من يرى بأم عينه كيف تعيش.

يعي من يعود إلى الكهف أنه يرتكب مخالفة اليوم، فالموقع أضحى إرثًا عالميًا للجميع، ولكن المخالفات التي تحرّرها المحمية بحق المخالفين لا تردع من لا يجد حلًا آخرًا على حد وصفهم.

عندما جاء موظف المحمية إلى مغارة سعيد*، أجابه الأخير بأن الأولى من تحرير مخالفة هو السؤال عن حال من لا يزال يسكن مغارةً في عام 2016، وهو أمر لو «قلته لأي واحد في الشارع، غير يقولك يا زلمة مستحيل في ناس هيك عايشة».

نشأ سعيد في قرية أم صيحون حتى أتم الصف السادس، ومن ثم هجر المبنى ذا الطابقين الذي تسكنه عائلته الممتدة المكونة من 36 فردًا. يقول سعيد أنه «في الصيف الواحد بينام عالسطوح عادي، بس في الشتا وين بده يروح؟ أعطيني حل ثاني عادي بروح، بس ما في!».

عاش سعيد في مغارته وحيدًا منذ أن بلغ 11 عامًا، وقليلًا ما كان يزور عائلته. يؤكد هذا الشاب ذو الثلاثة وثلاثين عامًا، والذي لم يعمل في حياته إلا لفترة وجيزة، على الحق المشروع لسكان هم «أقدم من الحكومة الأردنية ومن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» في هذه البلاد.

وفي الوقت الذي لا يأبه هو شخصيًا بإيجاد حل له بعد أن اعتاد على الظروف الصعبة، فإنه قلق على أطفال المغارات الذين يضطرون إلى قطع مسافات طويلة للوصول إلى مدرستهم في أم صيحون، فالطفل «اللي ماكلته الشمس في الطريق، ما بيفهم شو الأستاذ بيحكي».

سعيد ليس الوحيد الذي هجر عائلته بسبب ضيق المساحة، فقد اضطر عمر* أيضًا إلى ترك منزل ذويه عندما بلغ 18 عامًا. يقول عمر أن عائلته مكونة من 12 فردًا يسكنون في بيت مكون من غرفتين، و«ما بقدر أنام بحد خواتي البنات».

يسكن عمر في المغارة اليوم مع زوجته وطفليه، وقد حُرّرت أيضًا مخالفة بحقه منعته من الحصول على شهادة حسن السيرة والسلوك. على الرغم من الضائقة الاقتصادية الظاهرة، إلا أنه يقسم أنه مستعد لدفع مئتي دينار مقابل إيجار شقة في أم صيحون، ولكن ما من أرض تتسع لشقق جديدة تُعرض للإيجار بعد.

أما سميرة*، وهي أم لستة أطفال يبلغ أكبرهم 11 عامًا، فإنها تعتبر أنها وعائلتها «مبسوطين [في الكهوف]، بس أطفالنا بدهم يقروا»، ويصرخ هؤلاء الأطفال من شدة البرد على حد قولها أحيانًا عندما يخرجون مشيًا على الأقدام إن لم يحالفهم الحظ بإيجاد سيارة عابرة تقلهم إلى مدرستهم في القرية.

تشير دراسة أجرتها باحثة من جامعة الحسين بن طلال إلى ظاهرة التسرب من المدارس المنتشرة بين أطفال أم صيحون، فيبلغ عدد الأطفال العاملين في السياحة في أوج الموسم 550 طفلًا، ويتراجع إلى 250 طفلًا عند انتهاء الموسم.

وبحسب الدراسة ذاتها، فإن 40% من آباء الأطفال هم أميون، مما يشير إلى عدم توفر البيئة الأسرية التي تشجع على التعليم. بيد أن مشاهدات من يزور المنطقة اليوم ويسمع من أهلها كفيلة بإثبات بداية ندم الأهالي على تركهم للتعليم وتركيزهم على النشاط السياحي سابقًا.

وأبدى كثيرون تفاؤلهم بالمدرسة العسكرية التي فتحت أبوابها في أيلول الفائت، مشيدين بقدرتها على «ضبط» الأطفال، وإن انطوى ذلك على الضرب في بعض الأحيان الذي اعتبره بعضهم مقبولًا في سبيل بقاء الطفل في المدرسة.

حادثة عام 2000 والاعتراف الرسمي بمطالب «البدول»

تعجّ ذاكرة أهل البتراء بالزيارات واللقاءات الرسمية التي وُعدوا بحل مشكلتهم فيها، إلا أن حادثة واحدة سالت فيها الدماء تبقى تتكرّر على ألسنتهم للتأكيد على مشروعية حقوقهم.

بحسب سلمان* الذي عاصر الحدث، في «عام 2000 صارت مشكلة. كان بدهم يصبوا بيت غير مرخص، جابوله الشرطة، إجباري، مش بالقانون بدنا نسجنك، لأ بدهم يهدوا. صارت مشكلة وذبحوا ثلاثة، ما نعرف مين ذبحهم، أجا جلالة الملك، قلنا لعيونك أبو حسين ولادنا، وأمر بتنفيذ مطالبنا بالجريدة».

في الأعوام القليلة الماضية، طرحت الجهات الرسمية حلًا يقضي ببناء وحدات سكنية جديدة في منطقة أخرى بوادي موسى، الأمر الذي لاقى اعتراضًا من السكان بسبب بعد المنطقة عن مصالحهم ورغبتهم في البقاء في المنطقة، مطالبين بالتمدد فيها ذاتها.

يقرّ رئيس سلطة إقليم البترا محمد النوافلة في حديثه لحبر بحقّ الناس في أن يكون لهم سكن مناسب، ويقول إن «المشكلة قديمة جديدة.. البترا إرث عالمي للجميع، ولا يجوز السكن في المغارات وفي المناطق الواقعة في حدود المحمية، لكننا صابرين حتى تحل المشكلة».

وأضاف النوافلة أنه نقل «الصورة بشكل واضح للحكومة، هناك نسبة خصوبة وتكاثر عالي في المنطقة.. وين الناس بدها تروح؟ البيوت ما بتسع، في عشر و15 نفر في البيت»، ويقول أن هناك حلول قريبة لهذه القضية «المعقدة أكثر مما واحد بيتصور»، دون أن يوضّح ماهية هذه الحلول.

بيد أن كثيرين لا يخفون تشكيكهم بقدرة أي مسؤول على حل هذه القضية، ومنهم السيدة المسنة صالحة التي اشتكت من تكدس الناس في البيوت، وعدم قدرة أحفادها الذين يقيمون معها في البيت ذاته على الزواج لهذا السبب.

تتساءل المسنة التي تملك دكانًا في أم صيحون ومتجرًا في البترا، وكلاهما بحسب روايتها «ما بيجيبوا قرش» حاليًا: «الإقليم وش طالع بإيده؟ عليه دولة. إحنا الكبار اللي عندنا راحوا.. ظلينا زي الغنم يوم يموت راعيه.. جعنا، شبعنا، ما حدا سائل!».

* أسماء مستعارة بناء على طلب أصحابها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية