قصّة مصوّرة: أن تتصالح مع ساق صناعية وتعاود المشي

قصّة مصوّرة: أن تتصالح مع ساق صناعية وتعاود المشي

قد تكون خارجًا من بيتك لتملأ الماء فتصيبك قذيفة خلال حرب دائرة في بلدك، أو طفلًا تلعب في حديقة المنزل وتلدغك أفعى، فلا تعود لمنزلك كما خرجت، وتفقد طرفًا أو أكثر من جسدك، ويعتقد الآخرون أن ذلك سيغيّر حياتك للأبد.

في مستشفى المواساة التابع لمنظمة أطباء بلا حدود في عمّان، قابلنا رياض، 16 عامًا، ويوسف 35 عامًا، اللذين قدما من اليمن، بعد تعرضهما لإصابات أدت لبتر في الساق وتركيبهما أطراف صناعية.

أنهى رياض تأهيلًا للتعامل مع الطرف الصناعي السفلي، ويمكنه قريبًا العودة لحياته الطبيعية في اليمن، بينما يبذل يوسف مجهودًا ليصل ذات المرحلة، خاصة أنه خضع لتركيب طرفين صناعيين اثنين.

رياض: لا شيء يوقف اللعب

كل من في المستشفى يعرف رياض ويحبّه. تراه ضحوكًا في جلسة العلاج الطبيعي، يساعد الآخرين ويشجعهم، ويبدو واضحًا تأقلمه وارتياحه مع الطرف الصناعي.

كان رياض طفلًا في الثالثة من عمره عندما تعرّض للدغة أفعى بينما كان يلعب بجوار منزل عائلته في اليمن. أسعفه أهله منزليًا في البداية، وعندما انتفخت قدمه في اليوم التالي، لجأت العائلة إلى أقرب صيدلية للحصول على أدوية مضادة للالتهاب.

على مدار سبع سنوات تلت تلك الإصابة، كانت قدم رياض تتورم وبروز العظم منها يزداد، لكنه كان يأخذ باستمرار المزيد من الأدوية المضادة للالتهاب والضمادات، حتى تلقت العائلة نصيحة بالتوجه لمنظمة أطباء بلا حدود.

كان عمر رياض عشرة أعوام سنة 2011، عندما بدأ بمراجعة أطباء بلا حدود، وأخبره الأطباء أن بتر جزء من ساقه ضروري بعد أن أصيبت بالتهابات عديدة. «قال لي الدكتور بدهم يبتروا رجلي قلت عادي، لأني كنت زهقان قلت عادي يبتروا أبوها»، يقول رياض.

أنشأت منظمة أطباء بلا حدود مستشفى المواساة في عمّان عام 2006، لتقديم الجراحة التقويمية لجرحى الحرب من العراق، ثم توسّع بعد ذلك ليقدّم العلاج لجرحى الحرب من غزة وسوريا واليمن والعراق.

جاء رياض إلى عمّان عام 2012، وأجريت له عملية البتر لمنتصف الساق وركب طرفًا صناعيًا، وبعد سبعة أشهر من العلاج عاد لليمن.

التعايش مع الطرف الصناعي لم يكن سهلًا على طفلٍ يرغب في ممارسة حياته بالشكل الطبيعي.

أكثر ما كان يهمّ رياض في تلك الفترة هو أن يلعب كما غيره، حتى وإن كانت طبيعة المنطقة الصخرية سببًا في كسر الطرف الصناعي. لم يمنعه ذلك عن مواصلة حركته ولعبه اليومي. وذات يوم لم يقاوم رغبته بالسباحة في بركة من مياه الأمطار مليئة بالحجارة الصغيرة، فأصيب بجرح جديد في القدم المبتورة وتلوث الجرح.

عاد رياض للطبيب المسؤول، الذي أخبره بضرورة بتر جزء إضافي من الساق. «بكيت عند الدكتور في صنعاء»، يقول رياض. كان البتر الثاني أصعب نفسيًا عليه، ورفض العملية، لكنه عاد للأردن عام 2014 وتمكن الطبيب من إقناعه بضرورة بتر ساقه. «حكالي أنا لو علي ما بدي أقطع رجلك، أنا كإني بقطع جلدة من جسمي، فارتحت للدكتور واقتنعت».

أُجريت العملية الثانية لرياض وتم تركيب الطرف الصناعي الثاني. «بعد العملية كنت أنسى وبدّي أدعس عليها (..) بحس إنه رجلي موجوده، بس بعد ما لبست الطرف اقتنعت إنه انقطعت رجلي».

عاد رياض لليمن، وكانت حياته قد بدأت تنتظم «بس يشوفوني يفكروا انه عادي»، يقول. «بس بعض الأحيان كنت أكره انه معي طرف صناعي، كنت أتألم.. بعدين انكسر لأني مشاغب لأني بمشي كثير، كنت أشوف الأطفال بلعبوا ألعب معهم وأمشي كثير».

مجددًا، عاد رياض للأردن في نيسان من هذا العام، لتركيب طرف جديد، ما تطلب عملية جديدة لقص العظم، نتيجة نموّه، حتى يتناسب مع الطرف، لكن هذه المرة تم تركيب كاحل متحرك ينسجم ورغبات رياض في الحركة الكثيرة.

يقف رياض على جهاز المشي، وتحت قدميه مجسّم دائري متحرك، تطلب منه المعالجة الطبيعية أن يصعد عليه، وأن يتحرك بذات الطريقة الدائرية. في البداية كان رياض يستصعب تحريك قدمه الصناعية بشكل دائري، لكنه خلال دقائق فهم الآلية وأصبحت كلتا قدميه تتحركان بالشكل الصحيح، دون أن يكون الفرق واضحًا للمتفرج بين القدم اليمنى الصناعية واليسرى الطبيعية.

تقول لينا علي، المعالجة الطبيعية في أطباء بلا حدود والمسؤولة عن حالة رياض، إن هذا التمرين يمكّنه من الحركة على سطوح غير ثابتة، وهي مرحلة تصفها بالمتقدمة جدًا، وصلها رياض بشكل سريع نتيجة تقبله وتعايشه مع بتر قدمه وتركيب الطرف الصناعي وهو في عمر مبكر، بحسبها.

تضيف علي إن الأصل بالعلاج بتركيب طرف ثابت، لكن لأن رياض يحب اللعب ونظرًا لطبيعة اليمن الوعرة فإن الطرف الثابت في حال اصطدامه بالحجارة سيؤدي لوقف الحركة، وهو ما كان غير مقنع لرياض، فتم تركيب الكاحل المتحرك.

يتحرك الكاحل الصناعي تبعًا لآلية حركة الساق نفسها، ما يمكّن رياض من التحكم بها. «إحنا بنأهله يلبسه ويحس كإنه رجله موجودة ويعطي وزن متساوي على الجهتين.. رياض تجاوز مراحل وبطلع تريدميل (جهاز المشي) وسطوح متحركة الآن»، تقول علي.

كانت الراحة في حركته وتعامله مع طرفه الصناعي بادية على رياض خلال حديثه مع الآخرين ممن يتلقون العلاج الطبيعي في المستشفى، مشجعًا أحدهم ومساعدًا لآخر، وهو ما ترى به معالجته الطبيعية نجاحًا في الوصول للتصالح مع طرفه الصناعي ومواصلة حياته بشكل طبيعي.

خلال لقاء رياض، كان يستعد لعودته لليمن، ليستكمل دروس الصف التاسع ويستعد للامتحانات الوزارية المقررة نهاية العام الدراسي، وهو يقول إنه أصبح طبيعي الحركة ولا يشعر أن هناك اختلافًا طرأ على جسده.

يوسف: المشي على طرفين صناعيين، دون الاكتراث لنظرات الرحمة

على طرفين صناعيين، صعد يوسف مقبل سالم (35 سنة)، بإشراف معالجه الطبيعي، أدراج مستشفى المواساة، وكانت هذه المرّة الأولى التي يصعد فيها درجًا منذ عام 2015، أي منذ فقدانه لقدميه.

في كلّ درجة كانت الصعوبة تزداد وكان الألم والإجهاد باديًا على ملامح يوسف ، لكنه في النهاية صعدها ونزلها، وجلس يروي لحبر قصته.

في عام 2015 خرج يوسف من منزله في عدن ليملأ الماء، بعدما كان طريح الفراش لخمسة أيام نتيجة إصابته بالحمى. على بعد خطوات من باب المنزل سقطت قذيفة وأصابته، خلال الحرب التي تشهدها اليمن منذ بداية عام 2015. في نفس اللحظة عرف يوسف أنه فقد قدمه اليسرى. «شفت الشمال باقي منها شوية وحكيت الحمد الله وما اتطلعت على اليمين»، وفقد بعدها الوعي.

أسعف يوسف في مستشفى تابع لأطباء بلا حدود، وأجريت له عملية بتر الساق الأيسر من الركبة في اليوم التالي، وأخبره الأطباء أن قدمه اليمنى لا تتحرك لتمزّق الأعصاب وأنهم سيحاولون علاجها. لكن الطبيب عاد وأبلغه بعد أسبوع – أجريت له خلاله ست عمليات – إنه لا بد من بتر اليمنى أيضًا من منطقة الفخذ.

قبل إصابته كان يوسف المتزوج والأب لولدين يعمل بالتطريز في مشغل في مدينة عدن منذ اثني عشر عامًا، بعد أن انتقل هناك من محافظة «أبين»، التي عاد إليها مع عائلته بعد خروجه من المستشفى.

استأنف يوسف عمله بالتطريز في المنزل بعد الإصابة، وأصر على مواصلة حياته الاجتماعية والخروج للشارع والتواصل مع الناس، رغم أنه بقي لعامين دون أطراف صناعية. «بأول يوم (..) طلعت على السوق في ناس تطلعت نظرات رحمة وفي ناس تنظرلك نظرات عادي وهذا إشي كان يريحك»، يقول يوسف. «لما تنظر للناس انهم بنظرولك نظرات رحمة ولا يمكن تطلع من البيت، الواحد يحاول يتأقلم مع الحياة أكثر».

بعد عامين من استخدامه للكرسي المتحرك، جاء يوسف للأردن في آذار لتركيب الطرفين الصناعيين، وفي أيار من هذا العام كان يوسف قد أجرى أربعًا وعشرين عملية لساقيه الاثنتين، ثم بدأ بالمشي على الطرفين. «هذه نعمة.. كانت فرحة إنه بعد سنتين تمشي».

لا يزال يوسف يتلقى العلاج الطبيعي ليتمكن من المشي وحده. «لازم أمشي طبيعي بدون عكاز»، يقول يوسف، وهو قد يحتاج لشهرين آخرين، بحسبه.

يقول يوسف أنه لم يواجه مشكلة في إحساسه بقدميه، أو تصديق ما حدث. «كنت مصدق اللي صار، بس بيوم الإصابة حسيت إنه الفترة اللي كنت عايش فيها كانت حلم وصحيت منه (..) حسيت إنه الحياة الأولية كانت حلم وانتهى». لكنه يضيف أنه يشعر بوجود قدمين طبيعيتين الآن يتمكن من تحريكهما، وتمكّناه من استئناف حياته مجددًا.

مراحل التعايش مع البتر والتأهيل للطرف الصناعي يبدأ بها المعالجون مع مبتوري الأطراف منذ عملية البتر وقبل تركيب الطرف الصناعي، بحسب ما يشرح المعالج الطبيعي مع منظمة أطباء بلا حدود أحمد الدردور لحبر.

بعد أيام من عملية البتر، يبدأ المعالج الطبيعي بالتردد على المريض، للتعامل مع «وهم الطرف»، أي أن يشعر المريض أن قدمه لا تزال موجودة، وهي فترة قد تستمر لأشهر، يلجأ خلالها المعالج لأدوات عديدة كالضمادات والمشدّات، والعلاج عبر تسليط المرآة على الطرف المبتور لإقناع الدماغ أن الطرف غير موجود. يقول الدردور أن المريض أثناء النهار لا يعاني من وهم الطرف مثل فترة المساء والليل، عندما يزداد تفكير المريض «فبتزيد السيالات العصبية اللي بتنتقل للأطراف وهيك بزيد الشعور بوهم الطرف».

إلى جانب التعامل مع وهم الطرف، فإن المعالج يقوم بتمارين مختلفة قبل تركيب الطرف، منها تمارين التنفس وتمارين العضلات لمنع ضمورها وتمارين حركة، وتمارين أخرى للحفاظ على حركة المفاصل، إلى جانب تقوية العضلات لتمكين الطرف المتبقي بعد البتر من حمل الطرف الصناعي، إذ أنه ليس خفيفًا، بحسب الدردور. لاحقًا يبدأ المعالج تأهيل المريض على المشي أو استخدام الطرف الصناعي لوحده، والتعايش معه في حال زيادة أو نقصان وزنه.

تلك المراحل قد تختلف من مريض لآخر حسب الحالة، وقد تختلف المدة الزمنية اللازمة لتأهيله وتعايشه مع الطرف، لكن النتيجة النهائية التي يتوقع المعالجون أن يصل لها المرضى مبتوري الأطراف هي أن يصبحوا أشخاصًا مستقلين بذاتهم، يقومون بأنشطتهم اليومية لوحدهم دون أن يشعروا بأي إعاقة، بحسب ما أجمع عليه المعالجون الذين تواجدت حبر في جلساتهم العلاجية مع مبتوري أطراف.


تم إعداد هذا التقرير بدعم من وتعاون مع منظمة أطباء بلا حدود.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية