في مديح الكنافة

الجمعة 21 كانون الأول 2018
طبق كنافة في أحد مطاعم عمّان. تصوير لينا عجيلات.

قد تبدو الكتابة عن الكنافة نوعًا من الترف الثقافي، فنحن اعتدنا على تناول هذه الحلوى إلى حد جعلها جزءًا من ممارسات شبه يومية لا تحتاج إلى حفر معرفي ولا إلى تأملات مجردة، وفي الأردن وفلسطين تحديدًا غدت الكنافة النابلسية كلية الوجود، ذات أدوار اجتماعية وطقوس فردية ترتفع بها إلى أن تكون إحدى مكونات الهوية وأساليب صياغتها. الكنافة معروفة، والمعروف لا يعرّف، كما يقول الفلاسفة.

رغم ذلك، ولأنني أحد المهووسين بهذا الطبق المدهش، فإنني أجد نفسي أحيانًا غارقًا في محاولات لفهم الكنافة وسبب عشقنا لها. ثمة حلويات كثيرة في الأردن، شرقية وغربية، محلاة بالسكر والقطر أو معلوة بالكريمة والشوكولاتة، بقلاوة وفطاير وأم علي وجاتوهات و«كب كيك» وسواها، لكنها كلها في كفة، والكنافة في كفة أخرى. وأنا هنا أتحدث تحديدًا عن الكنافة النابلسية، لا عن الكنافة بالمطلق. ثمة أشياء أخرى يطلق عليها تجاوزًا اسم الكنافة: الكنافة في مصر شيء آخر، وفي لبنان سندويشة لا تعرف الهدف من ورائها. بالنسبة لي، الكنافة هي النابلسية، والنابلسية فقط.

الكنافة مفاجأة لمن لا يعرف مكوناتها. أتذكر ملامح وجوه بعض الأصدقاء الأجانب وأنا أشرح لهم أن هذه الحلوى مزيج من جبنة في القاع وسكر في القمة، يفصل بينهما عجينة ممزقة مصنوعة من السميد. بعضهم كان يستهجن هذا المزيج ويستغرب من أنه ينتج حلوى بهذه الشهرة في منطقتنا. هذا الهجين الخليط بين الجبنة المالحة (قليلًا) والسكر هو دهشة الكنافة. الكنافة بلا قطر يتدفق فوقها ويسيل على جوانبها لا معنى لها. ونحن في حياتنا اليومية نعشق هذا المزيج، فبعضنا يأكل الجبنة البيضاء والبطيخ، أو الجبنة والعنب، أو الجبنة والعسل، ثم جاءت الكنافة، ونقلت هذا المزيج إلى عوالم أخرى. كأننا في الكنافة ننتقم من ملوحة الجبنة ونخبئها بطبقات من السكر المذاب، وفي الصراع بين الملح المختفي في الأسفل والسكر المنتشي على وجه الكنافة تكمن إحدى لذائذ الحياة.

هذا الصراع تفصل بينه عجينة الكنافة. مظلومة هذه العجينة. حاولت مرة تذوقها وحدها وبصقتها فورًا. هي جزء من سياق، وخارج السياق لا معنى لها. العجينة تخبئ الجبنة تحتها ولا تمنحها إلا مقابل سيول من القطر المصبوب فوقها. ثمة متعة في تأمل سدر الكنافة وقد خرج من الفرن للتو في لحظة صبّ القطر عليه. يتحول السدر إلى أرض عطشى، تتشقق العجينة فجأة ويقل سمكها كأنها خجلة من شوقها للقطر، لكنها تعلم أن القطر وحده من يمنحها معناها اللامنتهي في بطون عشاقها.

في هذه اللحظة التي يصب فيها القطر تحديدًا يجب التهام الكنافة. لو تأخرت على الكنافة دقيقتين بعدها لأصبحت شيئا آخر. الكنافة لا تهدى. لا تغلف في علب وتؤخذ إلى البيوت لتؤكل. لا معنى للكنافة إن بردت، ولا معنى لها إن أعيد تسخينها. الكنافة لحظة، زمن إن لم تقبض عليه فسيتجاوزك. توقفت منذ فترة عن أكل الكنافة خارج محلات الكنافة. الكنافة لا تقبل المساومة: هي إما كنافة تامة وإما فلا. سخونة الكنافة جزء من تعريفها، طزاجتها تذكير أنها خرجت للتو من الفرن خصيصًا لك وأنك واقف خصيصًا لها ولا يفصل بينكما شيء.

مكونات الكنافة هذه تتعرض حاليًا لتشويه متعمد عبر المبالغة في وضع المكسرات فوق الكنافة. أشعر أحيانا أن بعض المحلات تبيع المكسرات أصلا حين تبيعني الكنافة، وأضطر أن أزيح المكسرات إلى جانب الطبق أو أرميها آسفا في سلة المهملات قبل تناول الكنافة. المكسرات وحدها لذيذة بالطبع، لكنها تفسد نقاء الكنافة وطعمها الأصلي، وتدخل في سياق غير سياقها لا حق لها في اقتحامه. وشيوخ الكنافة الحقيقيون يدركون أن التقليل من المكسرات هدف بحد ذاته. في محلات الأقصى في نابلس لا يوضع فوق الكنافة ذرة من المكسرات. سدر الكنافة يأتي من الفرن عاريًا إلا من الكنافة، بلا حجاب مكسراتي وقح يتدخل فيما لا يعنيه.

الكنافة لا تهدى. لا تغلف في علب وتؤخذ إلى البيوت لتؤكل. لا معنى للكنافة إن بردت، ولا معنى لها إن أعيد تسخينها. الكنافة لحظة، زمن إن لم تقبض عليه فسيتجاوزك.

ولأن الأصل في الكنافة أن تؤكل في المحل نفسه فما زلنا نأكلها واقفين. طقس الكنافة على الواقف مشهد بحد ذاته أتمنى ألا يختفي. سيكون من المحزن أن يغزو الاتيكيت وسلاسل المطاعم الفخمة هذه الحلوى ويحولوها إلى طبق استعراضي مبالغ في شكلياته، كما يحدث في بعض المطاعم في عمان. ما معنى الكنافة إذا ذهبنا إلى المحل وجلسنا على طاولة وطلبناها من النادل كما لو أننا نطلب شريحة من اللحم؟ تطوير أكل الكنافة و«تهذيبه» سيكون إهانة لا تغتفر. الكنافة تبدأ بالنظر. نحن ننظر إلى سدر الكنافة ونلتهمها بعيوننا قبل أن توضع في الطبق، ونتدخل في طريقة تقطيعها، ونقترح أحيانًا الجزء المحدد الذي نريد من البائع أن يقطعه لنا من السدر، ثم نتناولها مباشرة منه ونأكلها ونحن واقفون. هذا الوقوف يتيح لنا مواصلة النظر إلى سدر الكنافة حتى ونحن نأكلها، كي نحسب مثلًا الدقائق القليلة التي يحتاجها السدر كي يفرغ من الكنافة. ونحن صغار كنا نقيّم محلات الكنافة بالوقت الذي يستغرقه بيع سدر كامل، هذا ينهيه بدقيقتين وآخر بثلاث دقائق.

وخلافًا للحلويات الأخرى التي تطلب بالقطعة حين نتناولها في المحل، فإن الكنافة تطلب بالوزن: أوقية أو نصف أوقية. طلب الكنافة بهذا الوزن القليل يخلق مفارقة مع أثرها الهائل: نصف الأوقية أو الأوقية التي نحن مقبلون عليها ستزن أطنانًا من اللذة في معدتك. ومع احترامي لخيارات الجميع في الكنافة فإنني أرى أن نصف أوقية من الكنافة ظلم لنا ولها. نصف الاوقية هذه تنتهي سريعًا قبل أن تبدأ، كأنها أغنية بلا كلمات، أو فيلم بلا موسيقى تصويرية. في المرات النادرة في حياتي التي اخترت فيها نصف أوقية كنت أشعر بالخديعة، ليس فقط لأنني لم أمتلئ من تلك اللقيمات القليلة، ولكن لأن منظر نصف الأوقية في طبق الكنافة البلاستيكي لا يسر الناظرين. نصف الأوقية تحتل نصف الطبق تقريبًا، تاركة فراغات بيضاء حولها لا تناسب اللحظة الالتهامية التي نحن مقبلون عليها. وعلى عكس ذلك، فإن الأوقية تتمدد في الطبق كله، تقبض على كل فراغ فيه، بحيث لا يكون أمام عيوننا مجال للهرب من لون الكنافة فيه. أشعر أحيانًا أن الطبق البلاستيكي هذا صنع خصيصًا من أجل اوقية الكنافة، فهو بمقاسها تمامًا، لا يخطئ ولا ينقص، وهو في خفة وزنه مناسب كي يوضع في كف واحدة، فيما تتولى الكف الأخرى حرائق الالتهام. إنها خفة الكنافة التي لا تحتمل.

الأردن جنة من جنان الكنافة على الأرض. حيثما تلفت في الأردن فثمة كنافة. والمغترب تحديدًا يعرف معنى الكنافة في الأردن حين نعود في الإجازات.

تخترق الكنافة طبقات المجتمع كافة. ثمنها لا يزال معقولًا، رغم الازدياد الطفيف الذي يطرأ عليه كل بضع سنين. هي من الأشياء القليلة التي يتفق عليها الجميع: رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، إسلاميين وعلمانيين وليبراليين ويساريين، أردنيين وفلسطينيين، برجوازيين وبروليتاريا: كلنا أمام الكنافة سواء. المنسف لا يتمتع بهذه السمة، فهناك نباتيون لا يأكلونه. الكنافة شيء آخر، حل سهل ومدهش في آن حين تشتهي الحلويات. تتوقف في أي مكان وتتناول طبقًا وتمشي. تفكر في دعوة أحد ما سريعًا دون تعقيدات فتجد الكنافة خيارك الأمثل.

الأردن جنة من جنان الكنافة على الأرض. يتغنى الجميع بحلويات حبيبة في وسط البلد، لكنه على تميزه ليس وحيدًا. حيثما تلفت في الأردن فثمة كنافة. والمغترب تحديدًا يعرف معنى الكنافة في الأردن حين نعود في الإجازات. المهووسون بها مثلي قد يزيد وزنهم بضع كيلوات في أسابيع محدودة بسبب الكنافة. أنا أتناول الكنافة في عمان بسبب وبدون سبب، جائعًا كنت أم شبعانًا، فرحًا أم حزينًا. حالتي النفسية والجسدية لا تؤثر على علاقتي بالكنافة. كلما أنزل وسط البلد آكلها، كلما أمر بشارع المدينة أتوقف وأبحث عنها، وأحيانًا حين أبدأ أشعر بضرورة التقليل منها أغير مسارات الشوارع التي أمرّ منها في عمان كي لا تلتقط عيني محل كنافة.

ولأن الكنافة نابلسية فهي بالضرورة ذات بعد فلسطيني. في نيويورك حيث عشت لسنوات كانت الكنافة قضية، بطاقة تعريف، مبدأ لا يخضع للمساومة. كنا نقطع المسافات من نيويورك لنيوجيرسي أو من مانهاتن لأستوريا حيث يقطن الفلسطينيون بحثًا عن محلات الكنافة. حين نجد صديقًا أجنبيًا لا يعرف الكنافة نجرّه جرًا نحو محلاتها ونبدأ نحدثه عنها بطريقة تبشيرية أتذكرها الآن ضاحكًا، أما حين نجد عربيًا يعرفها ولا يحبها فكنا نقضي الساعات في نقاش محتدم على طريقة «قاتل أو مقتول»، مقدّمين مرافعات وحججًا تحول الكنافة من حلوى إلى قضية.

والغريب في الكنافة أنها من الرموز الفلسطينية القليلة التي تركتها «إسرائيل» في حالها. في نيويورك يقدم الحمص والفلافل والتبولة على أنها أطعمة «إسرائيلية»، وقبل سنوات افتتح مطعم في مانهاتن يقدم السحلب على أساس أنه مشروب «إسرائيلي». وحدها الكنافة صمدت أمام الكولونيالية الإسرائيلية، و«إسرائيل» التي سرقت فلسطين كلها قد عجزت عن سرقة الكنافة. لا أملك تأويلًا لهذه الحالة. ربما شعر الإسرائيليون أن الكنافة لا تتمتع بصفات كوزموبوليتانية تمكنهم من الافتخار بها عند سرقتها كما يفتخرون بالحمص والفلافل. ربما يكون مذاقها خاصًا، مزيجا لا تستسيغه الأذواق الأوروبية التي ترعرع فيها الجيل الأول من هؤلاء المستعمرين. مهما يكن السبب، فنحن الرابحون. الكنافة ظلت لنا، شيئا حميميًا نقرأ فيه تاريخًا لم يتح له أن ينمو بشكل طبيعي. الكنافة قصيدتنا المحلية التي لا تترجم ولا تستعمر. ليس ثمة مرادف لها. لا تملك الثقافات الأخرى سوى أن تأخذها كما هي إن أحبت، باسمها وشكلها ورائحتها، أما إن لم تحب فلن تخسر الكنافة شيئًا. نحن فقط من سنكسب مزيدًا من سحرها.

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية