التسرب المدرسي في الأردن: كيف تخفي ضآلة النسب ضخامة الأعداد

أطفال يلعبون على أسوار إحدى المدارس الحكومية. تصوير حسام دعنة.

التسرب المدرسي في الأردن: كيف تخفي ضآلة النسب ضخامة الأعداد

الإثنين 08 أيار 2017

تصميم معاوية باجس

تقف أسماء (17 سنة) في ساحة مركز الأميرة بسمة للتنمية في مدينة معان، مع زميلتيها حنان (15 سنة) ومها (14 سنة)، في نهاية يوم الدوام استعدادًا للعودة إلى المنزل من المركز الذي يتعلمن فيه قواعد أساسية في اللغة العربية والإنجليزية والرياضيات، إضافة إلى بعض المهارات اليدوية مثل صنع الإكسسوارات والخياطة والتجميل.

ترتدي الفتيات الثلاث النقاب، مع عباءات سوداء وأغطية رأس باللون ذاته. وهذا هو أسبوعهن الأول في المركز الذي يقدم نوعًا من التعليم غير النظامي للطلبة المتسربين من المدارس، ويتيح لمن يكمل منهم البرنامج الذي يستمر سنة وثمانية أشهر واحدًا من خيارين: العودة إلى المدرسة، بعد اجتياز اختبار مستوى، أو التحويل إلى برامج تدريب مهني.

درست أسماء إلى الصف الثالث الابتدائي، ثم أخرجت من المدرسة وألحقت بدار لتحفيظ القرآن، حيث أصبحت دراسة القرآن هي محور تعليمها. تقول إنها تلقت في تلك الدار دروسًا في اللغة العربية والرياضيات، لكن بشكل «خفيف».

من بين الفتيات الثلاث، كانت أسماء هي الوحيدة التي دخلت في إحصائيات التسرب من التعليم الأساسي، في المحافظة التي احتلت العام الماضي المركز الأول بنسبة 0.55%، مقابل النسبة العامة للتسرب في المملكة 0.25%1. كانت الوحيدة لأن الفتاتين الأخريين لم تدخلا أي مدرسة، بل ألحقتا مباشرة بدار تحفيظ القرآن. وهذا يعني أنهما لم تكونا قط ضمن أرقام التقارير الإحصائية التعليمية، التي ترصد التسرب فقط للطلبة الذين التحقوا فعلًا بالتعليم النظامي.

حسام (16 سنة) ترك المدرسة قبل ستة أشهر، وكان في الصف التاسع، لأنه كما يقول لم يشعر بأن هناك جدوى من وجوده في المدرسة. ففي المركز يتعلم مهنة الكهرباء، وهذا سيوفر له فرصة عمل، هو غير متأكد من أنه سيحصل عليها في ما لو أكمل تعليمه المدرسي.

وسام (15 سنة) قدمت من سوريا قبل خمس سنوات. التحقت حينها بالصف الخامس، لكنها خرجت من السابع لأنها لم تعد تتحمل ما تقول إنه «تمييز» كان يُمارس ضد التلميذات من اللاجئين السوريين، وهو نوع من المعاملة، تؤكد أنها لا تتعرض له في المركز.

في كراج ميكانيك في مركز المدينة، هناك أحمد (18 سنة)، الذي خرج قبل ثلاث سنوات من المدرسة، عندما كان في الصف التاسع، وهو الآن المعيل الرئيسي لعائلته، نتيجة تعطل والده عن العمل. يقول إنه لا يجيد القراءة والكتابة. وبحسبه، لم يكن الأمر فقط أن أحدًا في المدرسة لم يكن يفعل شيئًا لمساعدة من هم مثله، بل يقول إنهم أيضًا كانوا يتعرضون للتعنيف من قبل بعض المعلمين الذين كانوا «يسبّوا بألفاظ بذيئة وبضربوا بالخرزانة والبربيش والعصاي».

على بعد أكثر من مئتي كم في قرية سويمة التابعة لمحافظة البلقاء، والتي كانت الثانية في تسرب طلبتها بنسبة 0.47%، هناك قصص أخرى: رجاء (15 سنة) خرجت العام الماضي من الصف التاسع لتتزوج. لم يقبل القاضي عقد قرانها لأنها كانت دون السن القانونية، وهي الآن في المنزل، تنتظر أن تبلغ هذه السن لإتمام العقد. وهي سعيدة بوضعها الحالي، فالمناهج في المدرسة، كما تقول، بالتحديد اللغتين العربية والإنجليزية، كانت صعبة جدًا بالنسبة إليها.

علاء (13 سنة) كان في الصف الرابع عندما ترك المدرسة ولم يكن قد استطاع تعلم القراءة والكتابة. كانت أميته وضرب المعلمين له السبب في تسربه، إذ لم يكن، كما يقول، يستطيع فهم أي مادة دراسية. يقول إنه لا يفعل شيئًا في الوقت الحالي عدا أنه يجلس طوال اليوم في المنزل يشاهد التلفزيون.

هذه القصص تروي بعض وجوه قضية تسرب الطلاب من التعليم الأساسي؛ قضية يتشابك فيها الاقتصادي والاجتماعي والتربوي.

حسابات التسرب

إنها واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا، كما يصفها رئيس قسم التعليم غير النظامي في وزارة التربية، عبد الله الناصر. وتعدد العوامل المؤدية إلى التسرب يعني تعدد المؤسسات الحكومية وغير الحكومية التي تدخل أطرافًا أساسية في القضية. وزارة التربية، كما يقول، هي مجرد واحد من هذه الأطراف.  

وفق قانون التربية والتعليم 2، فإن التعليم الأساسي الذي يمتد من الأول إلى العاشر «إلزامي ومجاني في المدارس الحكومية». وإلزامية التعليم في الأردن ليست جديدة. فوفق الباحثة زينة نعمة 3، قبل منتصف الستينات كان التعليم إلزاميًا للصف السادس، ثم أقر العام 1964 قانون جعل التعليم إلزاميًا للأطفال من سن 6-15. وفي عام 1988 أصبح التعليم إلزاميًا من عمر 6-16 سنة. ويعدّ الطالب الطالب متسربًا عندما لا يعود إلى المدرسة في العام الذي يلي العام الذي كان مسجلًا فيه.

IMG_8784

بلغت نسبة التسرب العام الدراسي الماضي 0.25%، منخفضة عما كانت عليه قبل سبع سنوات، إذ سجلت العام الدراسي 2008-2009 ما نسبته 0.31%. ويغري الانخفاض «النسبي» أحيانًا بالتهوين من شأن المشكلة، فالنسبة هي أقل من ثلاثة بالألف، وهي ضئيلة مقارنة بالنسب العالمية، كما يصرح مسؤولون. لكن الواقع هو أن النسبة التي تبدو ضئيلة تخفي وراءها أعدادًا كبيرة. فقد بلغ عدد الطلبة المتسربين من التعليم الأساسي العام الماضي 4035 طالبًا وطالبة، في انخفاض عن العام الذي سبقه، الذي تسرب فيه 4870 طالب وطالبة.

وفي ظل تقارب النسب في كل عام، فإن أعدادًا مشابهة تتسرب سنة بعد سنة. لهذا يلفت المدير السابق لإدارة التخطيط التربوي، الدكتور محمد أبو غزلة، إلى حقيقة أن النسب بهذا المعنى يمكن أن تكون «خادعة»، فحتى لو لم يكن المتسربون بالآلاف، وكانوا أقل من ذلك بكثير فإن الرقم يجب أن يثير القلق على مستقبل هؤلاء. ويلفت أبو غزلة إلى أن هذا ينطبق أيضًا على المحافظات التي تتسرب فيها أعداد كبيرة من الطلبة سنويًا، لكن ارتفاع الكثافة السكانية للمحافظة يسهم في انخفاض النسبة.

وما يؤكد الدور الذي تلعبه النسبة العامة في «التعتيم» على ضخامة العدد، هو أرقام محافظة العاصمة التي حققت العام الماضي نسبة منخفضة نسبيًّا هي 0.21، لكنها في الحقيقة كانت الأولى في عدد المتسربين بـ1252 طالبًا وطالبة.

أمر آخر يجعل النسب العامة لا تكشف للجمهور الواقع يأتي من حقيقة أن التقارير الإحصائية التي تنشرها الوزارة على موقعها لا تربط نسب التسرب بالمناطق الجغرافية. وبذلك فإن عرضها كنسبة عامة منخفضة  لكل المملكة، يخفي ارتفاعها المقلق في كثير من المناطق، صحيح أن نسبة المتسربين بشكل عام هي أقل من 3 طلاب لكل ألف، لكنها في معان مثلًا قاربت العام الماضي الضعف بنسبة 0.55 في المئة، حيث تسرب 168. وفي البلقاء كانت 0.47 في المئة، حيث تسرب 479.

بل إن النسبة ترتفع أكثر فأكثر في أجزاء بعينها من المحافظات، منها مثلًا مديرية تربية البادية الجنوبية التابعة لمحافظة معان، التي كانت نسبتها العام الماضي 0.91% وهي تقريبا أربعة أمثال النسبة العامة للمملكة.

في السياق نفسه، تثير الأرقام المتاحة علامة استفهام كبيرة تتعلق بالفجوة بين عدد الملتحقين بالصف الأول وأولئك الذين وصلوا إلى الصف العاشر.  فخلال العامين الدراسيين (2010-2011 و2011-2012) كان عدد طلبة الصف العاشر أقل بنسبة 16% تقريبًا من عدد الملتحقين بالصف الأول، ارتفعت هذه النسبة إلى 22% في العام (2012-2013)، ثم قفزت إلى 35% خلال الأعوام الثلاث اللاحقة.

وعند تتبع فوج من الطلبة، مثلا المسجلين في الصف الخامس للعام الدراسي (2010-2011)، نجد أن من وصل إلى الصف العاشر من الدفعة ذاتها، كان أقل بـ11 ألف طالب تقريبًا، شكلوا نسبة 8% تقريبًا من الملتحقين بالصف الخامس.

بالطبع فإن الفجوة بين عدد الملتحقين بالصفين الأول والعاشر، مجرّد مؤشر على التسرب، ذلك أن جزءًا من الطلبة قد يكون قد تأخر ليعيد صفه أو رحل خارج البلاد، لكن ضخامة العدد تجعل من هذه الفجوة مؤشرًا يُؤخذ في الاعتبار عند مناقشة قدرة النظام التعليمي على الاحتفاظ بطلبته.

إضافة إلى كل هذا، فإن الإشكالية في البيانات المتاحة هي أنها لا توفر الكثير من الفهم لتأثير اللجوء السوري على نسب التسرب في المملكة لأن وزارة التربية لا تملك أرقامًا منفصلة لنسب المتسربين من الطلبة السوريين. وفق أرقام وزارة التربية، كانت نسبة التسرب في المملكة في العام الدراسي 2009-2010، العام الذي سبق مباشرة الأزمة السورية، كانت 0.34%. وفي العام الذي يليه، بدأت المدارس الحكومية باستقبال الطلبة السوريين، الذين يبلغ عددهم الآن 119 ألف طالب تقريبًا في مرحلة التعليم الأساسي 4. بدا «نظريًا» أن نسب التسرب سترتفع في السنوات التالية، في ضوء تقارير دولية نبهت إلى ظاهرة تسرب الطلبة السوريين، منها تقرير 5 أشار إلى مسح في مناطق تركز اللاجئين في عمان والمفرق وإربد، أظهر أن 10% من الأسر «أخرجت» أطفالها من المدارس لصالح العمل أو الزواج المبكر. لكن الأرقام تظهر، على العكس، أن النسب واصلت انخفاضها حتى وصلت إلى 0.25% في العام الماضي. وهي نسبة تشمل بحسب وزارة التربية المتسربين من كل الجنسيات بما فيها اللاجئين السوريين.

عدم امتلاك الوزارة أرقامًا بأعداد الطلبة السوريين المتسربين من التعليم. وهذا يعني أنه لا يمكن، على ضوء البيانات المتاحة، معرفة حجم ونوع تأثير الطلبة السوريين على نسب التسرب العامة، ولا ما هي حصة الطالب الأردني منها.

القانون يلزم ولا يعاقب

تشترك المناطق الأكثر ارتفاعًا في نسب التسرب في أنها تاريخيًا جيوب فقر. ويكمن خطر تسرب الطلبة من التعليم الأساسي في هذه المناطق، في أن هؤلاء، كما يقول تقرير6 صادر عن مؤسسة المجتمع المفتوح (Open Society Foundation)، عندما يفوتون فرصة التعليم فإنهم في الحقيقة يفوّتون ما يكاد يكون فرصتهم الوحيدة للخروج من الفقر. إنهم، بحسب التقرير، يصبحون «غير مرئيين» للنظام، ما يجعلهم في معظم الأحيان عرضة  لـ«الاستغلال وأحيانًا للانتهاك».

ومن هنا تأتي أهمية إلزامية التعليم الأساسي التي نصّ عليها القانون. والنصّ على الإلزامية يعني أن أولياء الأمور، الذين يخرجون أطفالهم من المدارس أو يسمحون لهم باتخاذ قرار الخروج منها، يرتكبون مخالفة يستحقون عليها المساءلة. من هنا فإن الإجراءات التي تتبعها وزارة التربية في حالة تسرب أي طالب، كما يوضح ضابط الارتباط الخاص بالطلبة المتسربين في مديرية تربية البادية الجنوبية، عواد النعيمات، هي ضمن التسلسل الآتي: يبلغ مربي الصف المكلف برصد الغياب مدير المدرسة، الذي يبلغ مديرية التربية الذي يتبع إليها، ومن ثم تبلغ المديرية الحاكم الإداري في المنطقة، ليتخذ إجراءاته.

ووفق محافظ الكرك، عبد الله آل خطاب، عند وصول بلاغ بتسرب طالب إلى الحاكم الإداري، فإنه يحرك الشرطة إلى بيت ولي أمر الطالب ويجلبه إلى مبنى المحافظة، حيث «يتعهد» بإرجاع طفله إلى المدرسة. إنه إجراء يقول آل خطاب إنه فعله مرات كثيرة خلال خدمته التي شملت أكثر من محافظة.

لكن السؤال هو: ما الذي يحدث إذا لم يعد الطفل إلى المدرسة؟ الجواب كما يقول خبراء هو لا شيء، ذلك أن المفارقة، هي أن القانون الذي نص على إلزامية التعليم لم يتضمن أي آلية تضمن تنفيذ هذه الإلزامية، بمعنى أنه لم يتضمن عقوبات لأولياء الأمور، ولا حتى أعطى صلاحيات حقيقية للحاكم الإداري. أقصى ما يستطيع الحاكم الإداري فعله كما يشير أستاذ القانون في جامعة البلقاء، الدكتور محمد النسور هو أن يستدعي ولي الأمر ويجعله يقدم تعهدًا، لكن من دون أن يكون هناك عنصر الإلزامية.

من هنا، فإن ما يحدث على الأرض بحسب مدير مدرسة في محافظة البلقاء، طلب عدم ذكر اسمه، هو أن الحاكم الإداري يحرّك الشرطة إلى منزل الطالب المتسرب، لكن هذا الطالب يداوم بعدها ليومين أو ثلاثة ثم يذهب بعدها من دون عودة، ولا أحد يستطيع أن يفعل شيئا بخصوص ذلك. يحدث هذا بشكل شبه شهري، كما يؤكد المدير، بحيث تحوّل إلى ما يشبه الإجراء الروتيني.

النعيمات يلفت في هذا السياق إلى «حلقة مفقودة» هي أن التربية لا تعرف بعد إبلاغ الحاكم الإداري ما تم، لأنه ليس من بين سلسلة الإجراءات المتبعة أن يخاطب الحاكم الإداري التربية ليبلغها بالإجراءات التي اتخذها.

بكلمات أخرى، فإن الطالب «يختفي» من النظام كما أشار تقرير مؤسسة المجتمع المفتوح السابق الذكر.

لذا هنالك، بحسب النسور، توجه لتغيير التعليمات باتجاه منح صلاحيات أوسع للحاكم الإداري، وحتى للمدرسة نفسها. النسور الذي كان مديرًا لدائرة حقوق الإنسان في وزارة العدل ورئيس لجنة لتعديل تعليمات بهذا الخصوص، أنجزت مسودّتها العام الماضي، بالشراكة ما بين المجلس الوطني لشؤون الأسرة ووزارات التربية والعمل والداخلية، قال إنه كانت هناك فكرة بتضمين التعليمات عقوبات من مثل غرامة مالية، لكن العقبة كانت أن فرض عقوبات يحتاج إلى قانون، لهذا عدلت التعليمات باتجاه توسيع صلاحيات الجهات صاحبة العلاقة. إضافة إلى تفعيل المادة 25 من قانون التربية والتعليم، المتعلقة بتشكيل لجنة محلية للتربية والتعليم تضم ممثلين عن فعاليات رسمية وأهلية ومجالس آباء ومعلمين. إذ يمكن لهذه اللجنة، بحسب النسور، التدخل في الحالات التي عندما يتسرب الطلبة.

شبكة أسباب متداخلة

لكن خبراء تربويين يؤكدون أن المسألة بالغة التعقيد، ولا يمكن حلّها ببساطة بتوسيع صلاحيات أو حتى فرض عقوبات. التعقيد يأتي بسبب تعدد العوامل المؤدية إلى التسرب، والتي يتشابك فيها الاقتصادي مع الاجتماعي والتربوي. إنه تشابك لا يترك للحكام الإداريين الكثير من المساحة لكي يتحركوا حتى بوجود قانون، لتصبح المسألة في النهاية مرتبطة بـ«اجتهاد» الحاكم الإداري، وتقديره الخاص لطبيعة المجتمع والظروف الخاصة بكل حالة، أو بما يسميه مدير تربية قصبة معان، يوسف نوافلة «الفروق الفردية» بين الحكام الإداريين. إنها فروق كما يشرح النوافلة الذي عمل 30 سنة في قطاع التربية، ترتبط بالسمات الشخصية لهؤلاء الحكام وقدرتهم على الإقناع في تعاملهم مع أولياء الأمور.

أمر يؤكد عليه هارون آل خطاب، الصحفي في جريدة الرأي، وأحد أبناء مدينة معان. وفقه، فإن الحاكم الإداري في تعامله مع حالات التسرب مضطر لأن «يراعي خصوصية المجتمع»، فهو مثلًا في بيئات اجتماعية معينة، كما يقول آل خطاب، لن يحرك الشرطة إلى منزل ولي أمر إذا كان المتسرب فتاة، ففي البيئات المحافظة يُعد هذا شأنًا أسريًا داخليًا «يعني لو واحد طلّع بنته من المدرسة وحكى للمحافظ: لا ما بدّي أرجّعها، المحافظ ما بيقدر يعمل معو إشي».

لكن ضيق المساحة التي يمكن أن يتحرك فيها الحكام الإداريون لا يرتبط فقط بالخصوصية الثقافية لبيئات اجتماعية معينة، بل يرتبط أيضًا بأن جزءًا كبيرًا من حالات التسرب هي نتيجة ظروف قاهرة، منها كما يقول النوافلة الفقر، التفكك الأسري، والمخدرات وبطالة الحاصلين على شهادات عليا بما يجعل التعليم يبدو في أعين الطلبة بلا جدوى.

بالنسبة لمدير تربية الشونة الجنوبية، الدكتور محمد الكلوب، فإن الفقر، وبشكل عام النمط الاقتصادي للأسرة، هو العامل الأول في المنطقة. يعمل الكلوب منذ سنتين ونصف السنة مديرًا للتربية في المنطقة التابعة لمحافظة البلقاء، التي احتلت في إحصائيات التسرب للعام الماضي المرتبة الثانية بنسبة 0.47%. ويقول إن التسرب ظاهرة طبيعية في المنطقة التي يسود فيها نمط البداوة وشبه البداوة، حيث يسكن قطاع كبير من السكان في بيوت شعر، ويتنقلون خلال السنة بين مناطق الشفا المعتدلة في الصيف ومناطق الغور الدافئة في الشتاء.

عدا عن أن طبيعة التنقل يصعّب الاستقرار في المدارس، فإن الفقر هو عامل أساسي، فالطالب الذي يخرج من المدرسة لا يوفر على عائلته كما يقول الكلوب، كلفة المدرسة من مواصلات ومصروف فقط، إنه أيضًا يوفر لها يدا عاملة ترعى الغنم وتحلبها. وبغيابها ستكون الأسرة مضطرة لدفع كلفة استئجارها.

أمر يؤكد عليه مدير المدرسة السابق الذكر الذي يقول إن ضعف تحصيل الطلبة يزيد من دافعية أسرهم لإخراجهم من المدرسة. إذ يحدث أن يأتي ولي أمر ويقول إنه لو استعان براعٍ فإنه سيدفع ما لا يقل عن 300 دينار أجرة، فلماذا يفعل ذلك إذا كان ابنه سيؤدي المهمة مجانًا خصوصًا عندما يكون هذا الطالب ضعيف التحصيل؟ بحسب المدير، فإن أولياء الأمور هنا يحسبون الأمر من ناحية الاقتصادية، فوجود الطفل في المدرسة في هذه الحالة غير مجد اقتصاديًا للأسرة.

لكن فشل التعليم أحيانًا في أن يكون ذا جدوى لا يقتصر على البعد الاقتصادي، ولا على حقيقة أن البطالة في صفوف خريجي الجامعات تحبط قطاعًا كبيرًا من الأجيال الجديدة. هناك إحساس بضعف الجدوى الناجم عن انفصال محتوى المناهج المدرسية عن بيئة الطلبة وحاجاتهم. الطلبة، كما يقول هارون آل خطاب، يغرقون في دراسة وحفظ معلومات ليس لها أي علاقة مباشرة بحياتهم ولا هموم واقعهم؛ معلومات لن يستخدموها لا في حاضرهم ولا مستقبلهم، في وقت لا يكون هناك أي حضور لقضايا ملحة، يضرب آل خطاب مثالًا عليها في الصدامات التي تحدث بين فترة وأخرى بين رجال الأمن ومطلوبين في المدينة، وما يتبعها من الانتشار الكثيف للمظاهر الأمنية في أرجاء المدينة، وما يحدث أحيانًا من إطلاق الغاز المسيل للدموع من قبل الأمن. هذا بحسبه يساهم في تشويه صورة رجال الأمن في أذهان الأجيال الجديدة في المدينة. يحدث هذا في وقت تنفصل فيه المدرسة تمامًا عن نقاش هذه القضية، أو محاولة إفهام الطلبة ملابسات ما يحدث.

أطفال ذوو إعاقات ومدارس غير مهيأة لاستقبالهم

يرسم تقرير7 لمنظمة اليونيسيف ما يسميه «بروفايل» الأطفال المتسربين، فهم آتون من خلفيات اقتصادية واجتماعية فقيرة، منخرطون في عمالة الأطفال، أبناء للاجئين أو عمال مهاجرين بوضع غير قانوني، وأصحاب إعاقات.

بحسب التقرير الصادر نهاية العام 2014، تشكل الإعاقة واحدًا من العقبات الأساسية أمام الالتحاق. ويحدد مجموعة من العوامل المرتبطة بذلك، منها صعوبة الوصول، وضعف تدريب المعلمين، والمناهج الدراسية غير الملائمة، والوصمة المرتبطة بالإعاقة وتؤدي إلى مفاهيم سلبية تجاه هؤلاء من قبل الأهل والمعلمين والطلبة الآخرين.   

ينقل التقرير عن وزارة التربية أن عدد الأطفال من ذوي الإعاقات الملتحقين بالمدارس الحكومية هو 16,870 طفل، لكنه يلفت إلى أن عدد من هم خارج المدارس من هؤلاء «غير معروف».

بحسب رئيسة قسم الإعاقات في وزارة التربية، الدكتور علياء جرادات، فإن الرقم السابق يمثّل ذوي الإعاقات بجميع أنواعها، أما الملتحقين من ذوي الإعاقات الحركية، فإنهم يقدّرون بـ670 طالبًا وطالبة. تقول جرادات إن عدم تهيئة المباني المدرسية، ونسبة كبيرة منها مستأجرة، لاستقبال الطلبة من ذوي الإعاقات الحركية هي واحدة من أبرز العقبات أمام هذه الفئة من الأطفال. ذلك أنه رغم أن الوزارة بدأت في السنوات الأخيرة تراعي كود البناء الخاص بأصحاب الإعاقات في كل المدارس الجديدة التي تبنيها، إلا أن «عددًا لا يستهان به» من المدارس القائمة فعلًا ما زال غير مهيأ لهم. فإضافة إلى أن التصميم التقليدي للمدارس الحكومية لا يتضمن حمامات مناسبة لأصحاب الإعاقات، فقد صممت هذه المباني أيضًا بحيث تكون المكاتب الإدارية والمختبرات في الطابق الأرضي، والصفوف في الطابق الثاني. وليس بالإمكان، بحسب جرادات، تزويد هذه المدارس بمصاعد بسبب الكلفة المالية الباهظة التي يتطلبها خيار مثل هذا.

تقدّر جرادات عدد المدارس المهيأة لاستقبال الأطفال من ذوي الإعاقات الحركية بـ150 مدرسة. علمًا بأن عدد المدارس التي تضم صفوفًا أساسية في المملكة تبلغ 3573. وهذا يعني أن 96% من المدارس غير مهيأة لاستقبال أطفال معاقين حركيًا.

ورغم أن مدير إدارة التربية الخاصة في الوزارة، الدكتور داود المعايطة، يلفت إلى أن تعديلات أجريت على ما يقارب الـ1500 مدرسة، إبان الانتخابات النيابية السابقة، لتسهيل وصول الناخبين من أصحاب الإعاقات، إلا أن جرادات تقول إن كل هذه التعديلات كانت تخص فقط المداخل لتسهيل دخول الناخبين على كراسي متحركة.

العلاج والوقاية في التعامل مع التسرب المدرسي

يقول الناصر إن الوزارة في تعاملها مع قضية التسرب تسير في مسارين: وقائي يشمل في أحد جوانبه الأساسية توفير مرشدين تربويين، وغرف لعلاج صعوبات التعلم في المدارس. وآخر علاجي يتمثل في مراكز التعليم غير النظامي الذي تستهدف من بين من تستهدفهم الطلبة المتسربين.

في ما يتعلق بالمسار العلاجي، تنفذ الوزارة، بحسب الناصر، مجموعة من البرامج التي تغطي فئات عمرية وظروف مختلفة، هي أولًا برنامج تعزيز ثقافة المتسربين الذي تنفذه الوزارة بالتعاون مع منظمة كويست سكوب، وبدأ العام 2003، متزامنًا مع الحرب على العراق، ولجوء عائلات عراقية إلى الأردن بصحبة أطفال في عمر المدرسة، لم يكن عدد كبير منهم يحمل أي وثائق.  والبرنامج  يقدم خدماته للمتسربين من الجنسيات كافة، فيستقبل الذكور من عمر 13-18، والإناث من عمر 13-20. ووفق الناصر، هناك 119 مركزًا موزعة على 31 مديرية تربية من بين المديريات الأعلى تسربًا.

البرنامج الثاني هو برنامج الدراسات المنزلية، الذي بدأ، كما يقول الناصر، العام 1978، ويستهدف المتسربين ممن لا تقل أعمارهم عن 12 سنة، من الذين لا تنطبق عليهم تعليمات العودة إلى التعليم النظامي، لكنهم يرغبون في إكمال تعليمهم الأكاديمي. وفي هذا البرنامج يدرس الطالب ذاتيًا للصف الذي يريده ويذهب للامتحان في المدرسة التي يريدها  

إضافة إلى ذلك هناك «برنامج التعليم الاستدراكي» الموجه للطلبة من عمر 9-12 سنة، أيضًا ممن لا تنطبق عليهم تعليمات العودة إلى التعليم النظامي، وبرنامج آخر للدراسات المسائية موجود الآن حصرًا في مراكز الإصلاح والتأهيل. ويشير الناصر إلى أن جميع هذه البرامج هي للأردنيين وغير الأردنيين.

ضمن المسار الوقائي، يلفت المعايطة إلى أن الوزارة استحدثت في كثير من المدارس غرفًا خاصة للتعامل مع الطلبة الذي يعانون من صعوبات تعلم في مادتي اللغة العربية والرياضيات. ويستهدف هذا الإجراء التلاميذ في الصفوف من الثاني إلى السادس. ويقوم على هذه الغرف معلمون يحمل جزء منهم بكالوريوس تربية خاصة، في حين يحمل الآخرون بكالوريوس لغة عربية أو رياضيات إضافة إلى دبلوم عال في التربية الخاصة. ومهمتهم، كما يقول، هو تشخيص مواطن الضعف، وتصميم خطط علاجية فردية.

المشكلة هي أن الوزارة لم تستطع إلى الآن تغطية كل المدارس، فعدد هذه الغرف، كما يذكر المعايطة، 848 غرفة موزعة على جميع مديريات التربية في المملكة. ووفق أرقام الوزارة 8، يبلغ عدد المدارس التي تشمل صفوفا أساسية دنيا 3233 مدرسة. وهذا يعني أن  26% فقط بالمئة من المدارس مغطاة بغرف لمعالجة صعوبات التعلم. لكن المعايطة يقول إنه يحدث أن يزور معلم صعوبات تعلم مدارس ليس فيها معلمين ويقدم بعض التوجيهات لمعلمي اللغة العربية والرياضيات في تلك المدارس. لكنه يستدرك بأنها زيارات لا يحكمها نظام بل تقوم على «الفزعة».

قبل أن يتسرّبوا

هشام (13 سنة) طالبٌ ما يزال في الصف السابع في سويمة. هو يشكو من أن «الدراسة صعبة كثير». يضاف إلى ذلك بُعد المدرسة عن بيته، واضطراره لأن يمشي كل يوم ما لا يقل عن أربعة كيلومترات، في مشواري الذهاب والإياب. هشام لم يتسرّب من المدرسة بعد، لكنه يقول إنه يفكّر جديّا بذلك. وليس وحده، فبحسبه «كثير عيال بتركوا المدرسة كل سنة، بداوموا يوم وبعطلوا يوم، وبعدين ما بيجوا».

قبل أن يصبحوا جزءًا من الإحصائيات، فإن الآلاف الذين يتسربون سنويًا، كانوا مثل هشام: «مشاريع» متسربين، ومسؤولية كل الجهات المعنية هو أن تلتقط الإشارات الدالة على ذلك، وتحاول تدارك المشكلة قبل وقوعها، فبحسب تقرير اليونيسيف «إن فهمًا أفضل للعوائق التي تدفع الأطفال خارج المدرسة هو أكثر فعالية من محاولة إرجاع الذين تركوها فعلًا».

تنويه: في نسخة سابقة من هذا التقرير، ورد خطأ في الخريطة التي توضح نسب التسرب المدرسي في كل محافظة، حيث أشارت الخريطة إلى أن نسبة التسرب في الكرك تتجاوز 39٪ بالمئة، بينما الصحيح هو 0.42%. وبناء عليه تم تصحيح الخطأ، لذا وجب الاعتذار والتنويه.


1. إدارة مركز الملكة رانيا لتكنولوجيا المعلومات.

2. المادة 10 من قانون التربية والتعليم رقم (3) لسنة 1994.

3. Social Citizenship Rights -Inequality and Exclusion, Zina Samih Nimeh, 2012.

4. إدارة مركز الملكة رانيا لتكنولوجيا المعلومات.

5. Stand and Deliver: Urgent action needed on commitments made at the London conference one year on. Danish Refugee Council, Oxfam and Save the Children January 2017.

6. Education Justice in the Middle East and North Africa, Reem Jorman and Helen Murray, 2010.

7. All in School, Summary, Jordan, Country Report on Out of School Children, Oct 2014, UNICEF.

8. إدارة مركز الملكة رانيا لتكنولوجيا المعلومات.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية