قصة فارينا: رحلة حلم سريلانكي

امرأة سريلانكية تضع الماكياج في صالون التجميل الذي تعمل فيه في عمّان، بينما تحضر والدتها وصديقتها لرقصة تقليدية احتفالا برأس السنة في سريلانكا. تصوير ناديا بسيسو.

قصة فارينا: رحلة حلم سريلانكي

الثلاثاء 07 شباط 2017

عندما وصلت فارينا* (50 عامًا)، قبل خمس سنوات من سريلانكا إلى الأردن عاملةً منزلية، كانت شقيقتها الصغرى قد أكملت أربعة أشهر في ثلاجة للموتى في إحدى الدول العربية، بعد أن قُتلت بماء مغلي سكبته عليها مخدومتها. وقد زامن وصولها الأيام الأخيرة لمفاوضات انتهت بأن تدفع عائلة المرأة التي أودعت السجن عشرة آلاف دولارٍ مقابل أن تعفو عنها عائلة القتيلة. ورغم أن العائلة التي عملت لديها فارينا في الأردن استشارت لها محاميًا أكّد أن العائلة لو وكّلت محاميًا جيدًا، فإن بإمكانها الحصول على أضعاف هذا التعويض، إلا أن جثمان أختها شُحن بعدها بأيام إلى سريلانكا مع العشرة آلاف دولار.

كان من المقرّر أن تكون الأردن هي المحطة الأخيرة في رحلة عمل فارينا، التي استمرت 23 عامًا في سنغافورة والسعودية والكويت والإمارات، حققت فيها جميع أهدافها، فقد تمكنت من تربية وتعليم ثلاثة أبناء وابنة، وبَنَت منزل أحلامها المكوّن من ثماني غرف، قالت إنها بلّطت مطبخه وحمّاماته بالسيراميك، وزوّدته بجميع ما أرادت من أثاث وأجهزة كهربائية. وإضافة إلى ذلك، فقد زوّجت ابنتها وابنين آخرين، اشترت لأحدهما شاحنة صغيرة، وللثاني سيارة تاكسي. وأرادت في رحلة عملها الأخيرة أن تشتري ذهبًا لعروس ابنها الأصغر الذي يعمل في الجيش، ليكون تزويجه ختام مسؤولياتها، لكن رحيل شقيقتها التي خلّفت وراءها ثلاث بنات وولد، أكبرهم في السابعة وأصغرهم في الثالثة، خرّب عليها خطتها للتقاعد. فشقيقتها التي زارتها قبيل رحلتها الأخيرة القاتلة، وتلفتت في أرجاء منزلها متسائلة بحسرة متى سيصبح لديها منزل كمنزل شقيقتها، تزوّج زوجها بعد وفاتها بستة أشهر، وأعلن أنه لن يأخذ سوى الولد، وهو ما رفضته فارينا التي قررت احتضان الأطفال.

تقول إنها فعلت ذلك لأنها تعرف والدهم، وتعلم أنه حتى لو احتضن جميع أبنائه، فإنه سيضيع النقود، وستكون هي من سيتحمل في النهاية عبء رعاية الأطفال، فوالداها متوفيان، وشقيقها الوحيد (من أمها) مريض بالسرطان. لهذا قررت أن من الأفضل لها وللأطفال أن تحتضنهم من الآن، لتكون بذلك الوصية على تعويض الوفاة. وهكذا طلبت من ابنها الأصغر ترك وظيفته، والتفرّغ لرعاية أطفال خالته، الذين لم يخبرهم أحد بوفاة أمّهم، وهم يسألون فارينا في كل مكالمة هاتفية «لماذا لا تملك ماما هاتفًا مثلك؟».

سنوات الرعب والفوضى

ولدت فارينا عام 1967 في مدينة كاندي (115 كم من العاصمة كولومبو)، لأب مسلم وأم مسيحية كانت هي الزوجة الرابعة لوالدها الذي كان يملك مزرعة أرز. وكانت الزوجتان الأوليان قد توفيتا بعد أن أنجبتا له تسعة أبناء، فتزوج الثالثة التي أنجبت ثلاثة، عندما وقع في غرام الرابعة، وكانت مراهقة باهرة الجمال تنتمي إلى عائلة فقيرة.

تزوج والدا فارينا عام 1966. والدها كان في الخمسينات من عمره، ووالدتها كانت ما تزال في الثالثة عشرة. أنجبت الزوجة الجديدة بنتين وولد، لكنها بعد تسع سنوات هجرت زوجها وأطفالها وعادت إلى منزل عائلتها.

تتذكر فارينا تلك الأيام جيّدا، عندما تولّت شقيقات والدها العناية بالأطفال، وبدأت تسمع الكبار يتهامسون بالسوء عن والدتها، مرددين أنها تركت المنزل لأنها أحبت شابًا يسكن جوار منزل أهلها.

تقول فارينا إن هذا جعلها آنذاك تكره أمها، واستغرقها الأمر سنوات لتفهم ولتستطيع أن تنظر بتسامح إلى الطفلة الفقيرة التي زُوّجت من رجل في عمر جدّها، ثم قررت في الثانية والعشرين استعادة حياتها. ذاب الجليد بين الاثنتين في النهاية، وكانت أمّها هي من يحتضن الأطفال، عندما كانت فارينا تذهب في رحلات العمل.

عام 1979، كانت فارينا في الثانية عشرة، عندما وصلت والدها أقاويل بأن والدتها تخطط لتزويجها، عندما سيحين الوقت، بواحد من أقاربها، وهو ما رفضه والدها بعنف، فقد أراد لها زوجًا مسلمًا، لهذا استبق الأمر، ودبّر لها في عمرها الصغير هذا زيجة من قريب له.

ورغم أن القانون في سريلانكا يمنع زواج الفتاة دون سن الثامنة عشرة، إلاّ أن والدها استخدم علاقاته، كما قالت، مع بعض الموظفين ليمرر الزيجة. ساعد على ذلك تراخٍ في تطبيق القانون في البلاد، التي انحدرت بعدها بسنوات قليلة إلى حرب أهليّة انطلقت شرارتها العام 1983. ففي البلد المكوّن من أغلبية بوذية، وأقليات هندوسيةٍ ومسلمةٍ ومسيحيةٍ، بدأت حركة «نمور التاميل» الانفصالية مقاومةً مسلحةً تطالب باستقلال المنطقة الشمالية الشرقية من البلاد، التي تتركز فيها أقلية هندوسية.

انصاعت فارينا لرغبة والدها، لكنها عندما كبرت وأنجبت فيما بعد أولادها الأربعة، تعاملت بتسامحٍ مطلقٍ مع عقائد شركائهم، فقد تزوجت ابنتها من مسيحي، وتزوج أحد أبنائها من هندوسية، وتقول إنها لم تكن لتمانع لو تزوج ابناها الآخران من بوذيات، فالله كما تقول «مو لواهد»، والمهم «ما يسوّي النّفر شي هرام»، أي «الله ليس لواحد»، والمهم «ألاّ يقوم الإنسان بفعلٍ حرام». أمّا تفسيرها للحرام فهو إيذاء الآخرين.

كان زوج فارينا في الثانية والعشرين ويملك حافلة صغيرة لنقل الركّاب. في الأيام الأولى للزواج، كانت مرعوبة، ونامت الليالي الأربع الأولى في غرفة حماتها، لكن والديْ زوجها وشقيقاته، غادروا صبيحة اليوم الخامس إلى منزل أحد الأقرباء، ووضعوها أمام الأمر الواقع.

أنجبت فارينا أبناءها الأربعة في سنوات الفوضى والرعب. «نمور التاميل» التي يتزعمها فيلوبيلاي برابهاكاران (Velupillai Prabhakaran) ارتكبت أعمال عنف ضد حكومة كولومبو، شملت تفجيرات انتحارية لمعابد بوذية ومبانٍ حكوميةٍ ومدارس ومحطّات قطارات. إضافة إلى سلسلة اغتيالات لمسؤولين حكوميين. وجميعها عمليات ردّت عليها القوات النظامية بقسوةٍ، ليذهب أكثر من 70 ألف شخص ضحايا للعنف المتبادل.

تتذكر فارينا كيف ارتبط مقاتلو الحركة بأعمال النهب وقطع الطرق والسطو على البنوك. وتروي كيف كانت هي نفسها شاهدة على إحدى الفظائع. حدث هذا عام 2004، وكانت قادمة من الكويت في إجازة، عندما ذهبت لزيارة ابن أخٍ لها يقيم في قرية نائية. بعد وصولها بساعاتٍ قليلةٍ ساد القرية الهرج، فقد اقتحم مسلّحو التاميل حوالي 30 بيتًا، وقتلوا، كما قالت، أكثر من 80 شخصًا قبل أن يفرّوا. وعندما جاءت الشرطة، اندفعت فارينا مع الناجين من الأهالي لتفقد الضحايا، وهناك رأت عائلات بأكملها ذبح أفرادها بالسواطير ومثّل بجثثهم. وما زالت تذكر من بين الضحايا طفلًا لا يتعدّى عمره الأربعة أشهر نحرت عنقه، وشابةً قطع أحد ثدييها.

الحلم السريلانكي

في العام 1989، أي بعد عشر سنوات من الزواج، كانت فارينا ما تزال تعيش في منزل عائلة زوجها، الذي انتقلت منه أخيرًا إلى منزل مكوّن من ثلاث غرف، بناه زوجها من الطين. لكنها أرادت أكثر . قالت إنها أرادت منزلًا كبيرًا من الإسمنت، مع أثاثٍ وأدواتٍ كهربائيةٍ، ولم يكن هذا متاحًا لها آنذاك، وازداد الأمر صعوبة بعد خروجها من منزل العائلة، إذ تعثّر عمل زوجها. لا تربط فارينا هذا التعثّر بالأوضاع الاقتصادية والأمنية السائدة آنذاك، وبعد كل هذه السنوات لا زالت مقتنعةً أن ذلك كان بفعل «سحر» مارسته شقيقات زوجها، اللواتي ساءهن أن ينقطع دعمه المادي للعائلة.

اتفقت فارينا مع زوجها على أن تسافر لتصبح عاملة منزلية، كما تفعل نساء بلدتها، وكان من المقرر أن تعمل لسنتين فقط، على أن يكون هذا في سنغافورة بالتحديد، لأن سمعتها، كما تقول، في معاملة العاملات المنزليات كانت أفضل من غيرها في ذلك الوقت.

الله كما تقول فارينا «مو لواهد»، والمهم «ما يسوّي النّفر شي هرام».

كانت وقتها في الثالثة والعشرين، وكانت سنغافورة في ذلك الوقت تشترط ألا يقل عمر العاملة المنزلية عن 25 عاما. فتقول إنها دفعت رشوة، وحصلت على جواز سفر سُجل فيه أنها في الثامنة والعشرين. وهكذا غادرت في العام 1989 إلى سنغافورة، تاركةً خلفها أولادها الذين كان أكبرهم في الثامنة، وعمر الأصغر سنة.

في سنغافورة، عملت لدى زوجين أميركي وصينية يملكان مصنعا للصحون، وكانت مهمتها التنظيف والعناية بطفليّ العائلة. عندما وصلت هناك، كانت تملك شعرا طويلا وكثيفا يصل إلى أسفل ظهرها، فقالت المرأة إنه سيعيقها عن العمل، وأخذتها إلى صالون تجميل، حيث جعلتهم يقصّونه لها إلى أذنيها.عندما عادتا إلى المنزل، ناولتها المرأة مئة دولار، دون أن تقول شيئًا، فأدركت فارينا أنّ مخدومتها باعت شعرها. وهي لا تعرف إلى الآن الثمن الذي باعته به.

ما عدا ذلك، سارت الأمور بيسرٍ. ومعاناتها الوحيدة كانت مع الطعام، فقد كان يصيبها الغثيان وهي تشاهدهم يأكلون الفئران البيضاء والضفادع والأفاعي التي كانت تأتي في علب مثل علب التونة، وعليها صورة رأس أفعى. لكن مخدوميها كانوا في أيام طبخ الفئران والضفادع يعطونها نقودًا لتشتري الطعام من الدكاكين أسفل المنزل.

بعد سنة وشهرين من عملها وصلتها برقية من بلدها، وكانت باللغة الإنجليزية التي لا تجيدها، فأخبرتها مخدومتها أن عائلتها ترسل في طلبها لأن أحد أطفالها مريض. أرادت فارينا التأكد بداية من وضع ابنها، وقالت لمخدومتها إنه إذا لم تكن الحالة صعبةً، فإن الحل العملي هو أن ترسل النقود إلى عائلتها لعلاجه دون أن تعود هي نفسها. لكنها استغربت أن مخدومتها أصرّت عليها بشدة أن تسافر.

وصلت فارينا إلى مطار كولومبو الساعة الثالثة فجرًا، وهناك طلبت من أحد الموظفين أن يساعدها في العثور على تاكسي يوصلها إلى مدينتها، لكن الموظف أبلغها أن سائقي التاكسي لا يقبلون الخروج في مثل هذا الوقت خوفًا من نمور التاميل الذين كانوا يقطعون الطرق، ويسرقون السيارات بعد قتل أصحابها.

كانت تتحدث مع الموظف وجواز سفرها الذي يحمل داخله البرقية في يدها، فتناوله الموظف وقرأ البرقية، ولاحظت حينها أنه وبعد قراءة البرقية أطال إليها النظر، ثم اصطحبها إلى أحد المقاعد، وبادر بإحضار كوب شايٍ، قائلًا لها بلطف إنه في تمام الخامسة صباحًا سيؤمن لها بنفسه سيارة تاكسي.

عندما وصل التاكسي إلى الحيّ الذي تسكن فيه، بدأ قلبها يدق بعنف، فقد كان الشارع الذي يقود إلى منزلها مزروعًا بالرايات البيضاء، وهو التقليد الذي تقول إنه يُتّبع عندما يتوفى شخصٌ له شأن، أو تكون الوفاة نتيجة حادثٍ جللٍ.

بوصول التاكسي إلى منزلها اندفعت فارينا خارج السيارة وهي تصرخ، فقد كان هناك عشرات الرجال والنساء من أبناء منطقتها متجمعين أمام البوابة مرتدين ملابس الحداد البيضاء، ينتظرون وصولها. لقد أيقنت أن طفلها قد توفي، لكن المفاجأة التي كانت تنتظرها هي أن زوجها هو الذي توفي، إذ قتل في حادث سيارة، في منطقة لا تبعد كثيرًا عن المنزل. وعندما دخلت وجدته ممددًا على سريرهما، وقد تعلّقت ذراعه اليسرى بخيط من الجلد في كتفه، أمّا ساقه اليسرى فكانت ممددة إلى جانب جثته. حين رأته على هذه الحال اندفعت، من دون وعي، تركض إلى مكان الحادث، وهناك جثت على الأرض، وبدأت تهيل على رأسها التراب الغارق ما يزال بدم زوجها.

أرسل أهالي المنطقة الطعام إلى منزلها طيلة سبعة أيام، كما تقضي التقاليد، في حين لازمت هي المنزل، ولم تتجاوز عتبته 45 يومًا، كما تقضي التقاليد أيضًا. بعدها، حزمت أمتعتها، وأرسلت أطفالها إلى والدتها، وقفلت عائدةً إلى سنغافورة لتواصل رحلة كان من المقرّر ألا تتجاوز العامين، لكنها ستمتدّ إلى 23 عامًا، ربّت فيها أولاد الآخرين، وطهت طعامهم ونظّفت بيوتهم.

أكملت فارينا ثلاث سنوات في سنغافورة لدى العائلة ذاتها، ثم أتبعتها بأربع سنوات في السعودية لدى عائلة مكوّنة من عشرين فردًا، تضم أربعة أجيال: امرأةٌ مسنّة وابنها وزوجته مع أبنائهم وأحفادهم. في هذا المنزل كانت النساء يساعدنْها، لكن الكمّ الهائل من الأعمال المنزلية المطلوبة في منزل يقيم فيه عشرون فردًا، كان يوقفها على قدميها من السابعة صباحًا إلى الثامنة ليلًا.

كانت المرأة المسنّة مقعدةً وغير قادرة على الكلام، ولسبب لم تفهمه فارينا، فقد كان مخدومها، ابن هذا المرأة، قد أصدر أمرًا بأن تتولّى زوجته لا العاملة المنزلية تغيير الفوط لوالدته. كانت الزوجة تمقت ذلك، لكنها، وفق فارينا، لم تكن تجرؤ على الرفض، لهذا، ولكي لتخفف العبء عن نفسها، كانت تعطي حماتها كميات قليلة جدًا من الطعام، مستغلّةً عدم قدرتها على الكلام. وعرفت فارينا أنه ليس من الحكمة أن تفتح فمها بهذا الخصوص، لكنها كانت، بين وقتٍ وآخر، تهرّب بالسر للعجوز بعض الطعام، حريصةً على أن يكون بكميات لا تفضح فعلتها عندما يحين موعد تغيير الفوطة.

أيّام «الوناسة»

في العام 1996، ذهبت فارينا إلى الكويت، حيث عملت 12 سنة لدى عائلةٍ مكونةٍ من رجل وزوجته يتوليان وظيفتين حكوميتين مرموقتين. وكانت مخدومتها آنذاك حاملًا في شهرها الأول بابنها البكر.

كانت مهامها في البداية العناية بالصغير، وتنظيف المنزل وطهي الطعام، ثم بعد قدوم الطفل الثاني، استقدمت العائلة عاملة أخرى لتساعدها، ثم عاملةَ ثالثةً مع قدوم الطفلين الثالث والرابع. حينها تقرّر أن تتفرغ فارينا للأطفال، في حين تقوم الأخريان بالطهي والتنظيف.

في تلك السنوات، تجاوزت فارينا دورها بوصفها عاملة منزلية أو حتى مربية لتصبح عمليًا أمًّا للأطفال الأربعة، فقد كان الوالدان يعودان من عملهما، ويأخذان بعد الغداء مباشرة قيلولة تمتد إلى السادسة مساء، ثم يخرجان بعدها كلٌّ إلى أصدقائه، ويعودان في ساعة متأخرة من الليل بعد نوم الأطفال.

وبذا، كانت فارينا هي من يتولّى كل شؤون الأطفال، فتجهزهم في الصباح للمدرسة وتوصلهم مع السائق إليها، ثم تعيدهم منها. وكانت تتابع دراستهم (كان يكفي أن تراهم يكتبون شيئًا في دفاترهم لأنها لا تقرأ العربية). بعد ذلك كانت تجلس معهم أمام التلفزيون أو الكمبيوتر. وفي المساء تنبّههم إلى ترتيب كتبهم حسب الجدول المدرسي، ثم ترسلهم إلى فراشهم بعد تناول العشاء. وفي العطل كانت هي والسائق يخرجان بهم إلى المطاعم والمولات وأماكن الترفيه، حيث كانت مخدومتها تعطيها مبلغًا شهريًا من المال لتغطية نفقات نزهاتهم، ولتشتري به ما قد يحتاجونه خلالها. وقبيل الأعياد، كانت فارينا تصحب الأطفال إلى الأسواق وتدور بهم من محلٍ إلى آخر، حتى يستقرّوا على ما يريدونه من ملابس، ثم تسجل عناوين المحلات وأنواع قطع الملابس وألوانها، وتسلّمها لمخدومتها التي تذهب إلى شرائها دون الأطفال.

تصف فارينا هذه المرحلة من حياتها بـ«أيام الوناسة»، فهي نسبيًا، لم تكن تكلّف بأي مهام شاقة، ولم يكن مطلوبًا منها أكثر من مجالسة الأطفال الذين عاشرتهم منذ الساعات الأولى في أعمارهم وبَنَت معهم علاقة هي نفسها التي يبنيها أي طفل مع أمه، حتى أنها كانت هي من لجأت إليه الفتاتان عندما جاءتهما دورتهما الشهرية الأولى، وشرحت لهما بعربيّتها المكسّرة كيف تعتنيان بنفسيهما خلال هذه الأيام.

إضافةً إلى ذلك، أتاحت لها رفقة الأطفال ارتياد المطاعم والمتنزهات والمولات، حيث انفتح أمامها عالم الاستهلاك المبهر: آلاف الأصناف من الأطعمة، الأدوات المنزلية، أجهزة الكهرباء، الأثاث، الملابس، والتي كان مخدوموها المقتدرون ينهلون منها بشراهة.

تقول إنها في كل مرّة تعود فيها إلى سريلانكا تحتاج إلى وقت للتأقلم مع الطعام ونمط الاستهلاك هناك. ومن المفارقات التي ما زالت تتذكرها، هي أنها في إجازاتها كانت تأخذ معها نوعًا من الشاي السيلاني، اعتادت شربه في الكويت ولم تكن تجده عندما تعود إلى سريلانكا.

لقد نجحت في تأثيثها لمنزلها في نسخ الكثير من الذي رأته في الكويت. وكان هذا بشكل أساسي لأن مخدومتها أغدقت عليها الكثير، فكانت تعطيها «عيديات» سخية، وتشحن معها بواسطة البحر في إجازاتها، صناديق كبيرة تضم أجهزة منزلية وملابس وأطعمة، بل إنها في إحدى الإجازات أرسلت معها فرن غاز، تحتفظ به في مطبخها، مع أنها في إجازاتها لا تستخدمه إلّا في حالة الضيوف المفاجئين، ففي مطبخها كما هو الحال في منطقتها، هناك موقد حطب، تستخدمه لأنه أوفر كثيرًا من الغاز.

أيام الجوع

انتهت أيام «الوناسة» لفارينا بعد سلسلةٍ من المشاحنات والمكائد مع العاملتين الأخريين، اختارت بعدها أن تغادر الكويت، فعادت إلى سريلانكا العام 2008، لتغادرها أوائل العام 2009 إلى الإمارات. وفي شهر أيار من ذلك العام، أي بعد أقل من شهرين من وصولها، قُتل زعيم نمور التاميل في هجوم مسلّح للجيش السريلانكي على أحد معاقل الحركة، لينهي مقتله حربًا أهليةً استمرّت 26 عامًا. لكنّهم عندما كانوا يرقصون في شوارع سريلانكا ابتهاجًا بانتهاء الحرب، كانوا في منزل أخيها ينوحون على ابنه المجنّد في الجيش، الذي قتل قبل أن يكمل التاسعة عشرة، على يد مسلّحي الحركة، قبل أربعة أيام فقط من مقتل الزعيم.

تقول فارينا إن البقايا كانت تجمع لها في صحن كما لو أنها قطّة. وعندما كانت تقول إنها جائعة، تجيبها المرأة «كلي تمر، واشربي ماء».

لم تبق فارينا في الإمارات إلا بضعة أشهر، لأن مخدوميها تطلّقا، واستغنيا عن خدماتها. فذهبت مرة ثانية إلى السعودية التي لم تبق فيها أيضًا أكثر من ثلاثة أشهر، اختبرت فيها لأول مرة في حياتها الجوع.

كان مخدومها موظّفًا في دائرة حكومية، وتعمل المرأة معلمةً في روضة أطفال. كان الاثنان يسكنان في الطابق الثاني لمنزل عائلة الرجل، وكان على فارينا إضافةً إلى أعمال التنظيف العناية بطفلين، أحدهما عمره سنة ونصف، وطفلة عمرها خمسة أشهر.

في هذا المنزل، تقول فارينا، لم يكن هناك سوى التمر، ولم يكن في الثلاجة سوى الماء، فقد كان الاثنان يتناولان معظم وجباتهما خارج المنزل، في حين كان طعام الطفل الأكبر يرسل لفارينا من منزل جدّيه في صحن صغير، لتطعمه أثناء غياب والديه في العمل. في المرّات القليلة التي كانت فيها المرأة تطهو وجبة، تقول فارينا إن البقايا كانت تجمع لها في صحن كما لو أنها قطّة. وعندما كانت تقول إنها جائعة، تجيبها المرأة «كلي تمر، واشربي ماء». ووفق فارينا، فقد كانت المرأة تحتفظ في خزانتها المغلقة بعلب الشوكولاتة والبسكويت، التي كانت تخرج فقط عندما تكون في المنزل، لتأكل منها وزوجها وأطفالها، ولم تناولها خلال الأشهر الثلاثة قطعة واحدة.

تخبرني فارينا أنها أثناء إطعام الطّفل كانت تلتقط حبّات الأرز التي تسقط على ملابسه، وتضعها في فمها، وتأكل بقايا صحنه عندما ينتهي، وكانت تشرب الحليب الذي يتبقى من رضعة الصغيرة. وخلال ثلاثة أشهر، هزلت كثيرًا، وكانت مصابةً بالدوار طوال الوقت، ولم تعد ترى بشكل جيّد، فطلبت إعادتها إلى بلدها. هنا ناولها مخدومها راتب شهرٍ، وقال إنه اشترى براتب الشهرين الآخرين تذكرة سفرها، معتذرًا بأنّه ليس لديه نقود، لأنه يقوم ببناء منزلٍ كبيرٍ يستنزف كلّ دخله.

الخديعة

في العام 2011 جاءت فارينا إلى الأردن، وبمجرّد وصولها إلى مكتب الاستقدام، عرفت أنها تعرّضت للخداع، ففي سريلانكا أخبروها أنها ستقوم بالتنظيف، في حين شرحوا لها في الأردن أنها سترعى امرأة مسنةً ومقعدةً. وعندما كان الموظف في المكتب الأردني يشرح لها ما ستقوم به، كانت توازن الأمر في ذهنها: هل ترفض وتعود إلى بلدها وتقدّم شكوى في حق المكتب الذي يلزمه القانون بتوضيح المهام الحقيقية للعاملة المنزلية قبل التعاقد معها، أم تصمت وترضخ للأمر الواقع؟ لقد اختارت سريعًا القرار الثاني، فقد كانت بحاجةٍ ماسةٍ لرحلة العمل هذه، ومع الأخذ في الاعتبار أن سنّها -المزور- في جواز السفر هو 49 سنة، فإنها محظوظةٌ، نسبيًا، لحصولها على هذه الفرصة.

لقد كان قرارًا ندمت عليه بعدها، فالمرأة التي كانت في الثمانين من عمرها، تحتاج إلى الرعاية ذاتها التي يحتاجها رضيعٌ في شهوره الأولى، فكان مطلوبًا منها أن تطعمها وتحممها وتغير لها فوطها. وقد «انكسر» ظهرها وهي تنقلها بناءً على طلبها من السرير إلى المقعد، ومن المقعد إلى السرير عشرات المرّات في اليوم الواحد. أيضًا، كانت المرأة في حالة عصبيّة جدًا معظم الوقت، إضافةً إلى أنها كانت بالكاد تنام. وفي وقتٍ تعطّل فيه كلّ جسدها، فإن فمها هو العضو الوحيد العامل فيها، فهي تصرخ طوال الوقت، وتطلب الطعام طوال الوقت، وتعضّ.

إضافة إلى ما سبق، فإن من الأشياء التي تسبب لفارينا الضيق الشديد في الأردن شحّ الماء، ففي كل مرة تفتح الحنفية تنطلق من خلفها التحذيرات «شوي شوي على المي». في حين أنّها في سريلانكا لم تختبر، ولو لمرّةٍ في حياتها، انقطاع المياه عن الحنفية، ويوجد لديها في محيط منزلها ثلاث عيون ماء، في حين أنها هنا ترى الحارة تظل مستيقظةً برجالها ونسائها إلى الثالثة صباحًا ليلة دور الماء ليملؤوا خزانات المياه، ويغسلوا الملابس، ويشطفوا الشرفات ويملؤوا البراميل الاحتياطية.

لا تنام فارينا أكثر من خمس ساعات متفرقة خلال الليل، ويبدأ صباحها دائمًا بتغيير الفوطة للمسنة التي ترعاها، ما يصيبها بعدها بالقرف الشديد من يديها، لدرجة تعاف معها لمس الطّعام، كما لو أن الوسخ اخترق مطّاط القفازات إلى جلد يديها. ورغم أنها تدعك يديها جيّدًا بالصابون والمطهّر، وترش العطر في الغرفة وعلى ملابسها عدّة مرات في اليوم الواحد، إلّا أن رائحة القذارة تطاردها طوال النهار لأنّ «الكرى صار داكِل مكّ آنا» أي «الخرا أصبح داخل مخّي».

وفي انتظار انقضاء المدّة الباقية، تخرج فارينا كل يوم لتجلب الصحيفة من الصندوق الحديدي المعلق على البوابة، وتقلّبها بحثا عن صورة ذهب، فقد باتت تعرف بالخبرة أن هذا سيكون بالتأكيد خبرًا عن سعر الذّهب، عندها تطلب من أحد أطفال العائلة أن يقرأ لها المكتوب ليطمئنّ قلبها أن سعره ما زال في متناول يدها.

***

سألتُ فارينا، هل يستحق ما حصلتِ عليه الثّمن الذي دفعتِه من أجله؟

تجيب فارينا على هذا السؤال بنعم، فهي، كما تقول، فعلت كل هذا لأولادها. فأولادها الذين ربّاهم غيرها في وقت كانت فيه منشغلة بتربية أبناء الآخرين، كبروا، كما تقول ضعافًا مثل «دجاج مزرعة» ، وما كانوا أبدًا ليؤمّنوا أنفسهم بالأشياء التي أمنتها هي لهم.

إنها فقط حزينةٌ لأنها لن تتمكن من التقاعد كما كانت تتمنى. وهي تعرف أنّها لن تحصل على فرصة أخرى للسفر، وعليها بالتالي، لكي تطعم الأفواه الجديدة، أن تدبّر أمرها بما لديها في سريلانكا، لهذا تخطط لافتتاح كشكٍ للوجبات السريعة الساخنة. وبعد أن تقسِم منزلها بينها وابنها الأصغر ليتزوج فيه، ستخصص غرفةً تؤجرها للسيّاح. كما أنها ستعود لتزرع في حديقة منزلها مؤونة العائلة من الخضروات والفواكه. وهي تعرف أنّها ستقوم بكل هذا وحيدة.


* اسم مستعار.

كُتبت هذه القصة قبل أربع سنوات، وحُررت الأزمنة فيها لتأخذ فارق الزمن بعين الاعتبار. 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية