تدوينة

طاولة لواحد: الطبخ سبيلًا لمصادقة الذات

الإثنين 04 كانون الثاني 2016
طبخ cooking

لا أحب التصريحات الدرامية، خاصة الشخصية منها، لكن قبل أكثر من عام، قرأت مقالًا يمكنني أن أقول أنه «غيّر حياتي». كان المقال أشبه بمرافعة بديعة اللغة دفاعًا عن الطبخ؛ تحديدًا عن أن تطبخ لنفسك. أعلم أن المقال لم يكن ليترك أثرًا كبيرًا لو لم أكن قد بدأت بالاتجاه نحو الطبخ قبل قراءته، لكن كاتبته قالت لي في تلك اللحظة ما احتجت سماعه بالضبط:

«على مدى سنوات، التهمت عشرات وجبات العشاء الرديئة التي جمعتها من الفتات لأنها كانت لي وحدي، لأدرك لاحقًا أن الطعام الرديء والعَجَلة قاداني مباشرة إلى الوحدة التي كنت أحاول تفاديها. فقط حينما قررت أن أكون مع نفسي، لا وحدي، أي أن أقدم لنفسي وجبة لا تقل فخامة عما قد أقدمه لغيري، فقط حينها بدت الغرفة ممتلئة وفرِحة وانسلّت الوحدة مبتعدةً».

قد يبدو يقين الكاتبة مبالغًا فيه، وقد تبدو حكمتها زائفة، لكن ذلك لا يغير أنها طرحت فرصة أكبر من ألا تُقتنص: في أسوأ الأحوال، أكون قد تجنبتّ الجوع، وفي أحسنها، أكون قد صادقت نفسي وقتلت وحش الخزانة، ولو لليلة.

اتبعت النصيحة وبدأت بالأساسيات: المهم المكونات. بتّ أملأ ثلاجتي الصغيرة بأي شيء أجده صحيًا وقد يبدو جميلًا على طبق. احتاج ذلك في البداية زيارات متكررة إلى خضرجي «مغلونجي» في جبل اللويبدة، لكي أتمكن من إعداد سلطة تحوي ثلاثة أصناف من الخس وبعض الرمان والبروكلي والجوز مع رشة بارميزان، لكني قبلت بذلك ككلفة للسعادة الموعودة. لاحقًا، بعد أن توسعت ترسانتي من البهارات والصلصات، أصبحت أكثر ثقة، وبتّ أعد ما أسميه: سلطة «كل إشي في الثلاجة».

في تلك المرحلة، كنت فخورة بإنجازي الصغير بحيث صرت أتحدث عنه أمام الآخرين، الذين كانوا يردون بالسؤال شبه البديهي «طب شو بتطبخي؟»، ولا حاجة لي بشرح النظرة الاستخرائية التي كنت أتلقاها حين أجيب «بعمل سلطات زاكية».

الطبخ دومًا يصور على أنه حرفة شديدة التعقيد، لها كهنوت خاص، وتؤخذ بشموليتها فقط

لعل تلك من أهم العقبات التي حالت دون إقبالي المبكر على الطبخ، فهو دومًا يصور على أنه حرفة شديدة التعقيد، لها كهنوت خاص، وتؤخذ بشموليتها فقط، فإما أن تكون «بتعرف تطبخ» أو «ما بتعرف تطبخ». وإن أردت أن أمرر ما قد يوصف بـ«نظرية مؤامرة نسوية» لقلت أن تلك هي نظرة الذكوري الباحث عن أمان في كونه «ما بيعرف يطبخ» بالتالي ما من فائدة في محاولة إقناعه بذلك. لكن هذه النظرة جنت على الجميع رجالًا ونساءً، إذ أقنعتنا بأننا معطوبون، لا يمكننا يومًا أن نفهم السحر الذي تمارسه أمهاتنا، وتنقصنا موهبة ما، هي في الواقع ممارسة بشرية أساسية شديدة الشخصية لا تقل جوهريةً عن الأكل نفسه.

العقبة الأخرى، التي هي الوجه الآخر لما سبق، هي الربط التقليدي والحصري للنساء بالطبيخ (حتى كلمة «طبيخ» باتت تكتنف نوعًا من الاحتقار للطبخ كممارسة). لعل القليلين هم من ما زالوا يتمتعون بالوقاحة الكافية للتعبير عن هذا الربط، جهرًا على الأقل، لكنه خلق لي حاجزًا نفسيًا لم أدركه إلا حين تجاوزته. هي بالتأكيد عقبة أقل صعوبة من عقبة «فقدان الموهبة»، لكنها تحتاج جهدًا واعيًا لتخطيها لأنه تجاوز مزدوج؛ للتنميط وللردة عنه.

على كل حال، كنت سأحتاج عاجلًا أم آجلًا لإعداد شيء غير السلطة، حتى أتجنب أن تصعب عليّ نفسي في الساعة الرابعة من عصر يوم ثلاثاء في المكتب، فألجأ إلى محل الشاورما القريب لسد جوعي. فحين يبدأ مشروع الطبخ، تبدأ أسبابه المنطقية بالظهور تباعًا: «أصلًا الجانك فود عم بيخرب الكوكب، أصلًا لازم أنحف شوي، أصلًا أرخص، أصلًا صحي، أصلًا لازم أصير نباتية… إلخ». بدأت شيئًا فشيئًا أجرب وصفات أكثر تعقيدًا وإشباعًا: أنواع عديدة من الباستا، من الفاصولياء والثوم والطماطم المقلية إلى التونا والزيتون والموزاريلا، ثم الكسكس مع يخنات خضار مختلفة، ثم يخنات شبيهة مع الأرز، وصولًا إلى المحاشي وطنجرة المقلوبة الكلاسيكية.

ما زلت أتابع مواقع الطبخ للاقتباس أو الإلهام من حين لآخر، بل اقتنيت منذ فترة قريبة أول كتاب طبخ في حياتي، وما زلت لا أستطيع أن أفلفل الأرز تمامًا، ولم أقتحم عالم الخَبز، وأتصل بأمي لتذكرني ببهارات اليلنجي في كل مرة أعده قريبًا، وأفشل أحيانًا في أن أتبع نصيحة صديق في أن «أقرر أن أحب الطعام فأحبه». لكنني بتّ أستطيع مشاركة زملائي وجبة اخترعتها وطهوتها لأول مرة ولم أتذوقها بعد دون أن أخشى أن تتسبب في امتعاض أو تسمم أحدهم. بتّ أشعر أن الطبخ للآخرين أصدق تعبير عن محبتهم، كما أن الطبخ للذات أصدق تعبير عن محبتها، بل خلق مستمر لهذه المحبة. والأهم أنني صرت أستطيع أحيانًا الاستئناس بنفسي، والاستمتاع مع نفسي بوجبة طهوتها لنفسي على طاولة صغيرة في مكان ما من العالم، دون أن أحدق طويلًا في الفراغ على الطرف الآخر من الطاولة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية