تفوّق البنات على الأولاد في المدارس: المعلمات أكثر انضباطًا والطالبات أكثر دافعية

تفوّق البنات على الأولاد في المدارس: المعلمات أكثر انضباطًا والطالبات أكثر دافعية

الخميس 13 تموز 2017

يدرس جمال في الصف التاسع، في مدرسة للذكور انتقل إليها عندما أنهى الصف الثالث في المدرسة الحكومية المختلطة التي كان يدرس فيها، والتي تتولى التدريس فيها معلمات. وكان هذا انتقالًا إلى نمط مختلف تمامًا من المدارس، تلخصّه والدته سناء* بكلمة واحدة: «شوربة».

في مدرسته الأولى، كما تقول، كان هناك نظام محدد: جدول دراسي تلتزم به المعلمات، كتب تُدرّس، واجبات مدرسية واختبارات، ونظام واضح لبدء اليوم الدراسي وانتهائه. في المقابل، لا نظام واضح في مدرسته الحالية، فبعض المعلمين يتغيبون عن الكثير من حصصهم، ويرسلون الطلبة إلى البيوت قبل انتهاء الدوام الرسمي. «بعرف إنو الدوام بنتهى الساعة 2، بس كثير أيام برجع من شغلي بلاقيه في الحارة من الساعة 12 (…) بحكيلي ما أخذنا دروس، ولما بسأل زميلاتي اللي أولادهم بنفس المدرسة بيحكولي نفس الحكي»، تقول سناء.

في أوقات الاختبارات، تفتح سناء كتب ابنها فتجد في العديد منها خطوطًا تحت بضع فقرات في المادة المقررة للامتحان، ويخبرها أن المعلم طلب منهم دراسة هذه الفقرات فقط، وتقول إنه «عمليًا المعلم أعطاهم الأسئلة. طيّب هيك الطالب بيكون مبسوط، بس مهو بكرة رح يرسب في التوجيهي».

تقول سناء إن مستوى ابنها تراجع كثيرًا منذ التحاقه بمدرسة الذكور، وطال هذا التراجع حتى مهاراته الأساسية في القراءة والكتابة التي خرج من مدرسته الأولى جيدًا نسبيًا فيها. لقد شكت أكثر من مرة إلى إدارة المدرسة، لكن من دون فائدة، ثم قرر أهالي المنطقة التحرك بشكل جماعي، فقدموا عريضة إلى مديرية التربية. ووفقها، انضبطت الأمور «نسبيًا» لشهر واحد، قبل أن تعود إلى ما كانت عليه.

تقول سناء إنها وغيرها من الأهالي، يحاولون التعويض بالدروس الخصوصية، التي تشكل عبئًا ماليًا كبيرًا، وليست، فوق هذا، بديلًا كافيًا للمدرسة. إنها لا تعرف ما عليها أن تفعل، وتشعر بقلق شديد، ليس فقط على ابنها هذا، بل أيضًا على ابن آخر لها، يدرس في المدرسة المختلطة، وتعرف أنه خلال سنوات قليلة سيلحق بأخيه.

لدى ندى* تجربة مشابهة. لديها ثلاثة أولاد: توجيهي، تاسع، وسادس، يدرسون في مدارس حكومية، نقلتهم إليها تباعًا من المدارس الخاصة التي كانوا فيها.

إلحاقها أطفالها بمدارس خاصة لم يكن، كما تقول، للحصول على نوعية تعليم أفضل، فالمدارس التي تمكنت هي وزوجها من تحمل كلفة أقساطها، لا تقدم تعليمًا أفضل بكثير مما تفعل المدارس الحكومية. هذه المدارس، تعيّن معلمات بمستويات متدنية، يتقاضين ما لا يزيد عن 150 دينارًا، ويكلّفن بأنصبة تدريسية عالية، وليس لديهن، بالتالي، أي دافعية للعمل. الفرق بالنسبة لندى، هو وجود رقابة أكبر على الأطفال داخل المدرسة، والتزام بمواعيد الدوام، فهذه المدارس، على الأقل، لا تخرج التلاميذ قبل نهاية الدوام إلى الشارع من دون علم أهاليهم، وهذا بالتحديد ما كان يخيف ندى، ويجعلها لا تملك الجرأة على إلحاق أبنائها بمدارس حكومية، قبل سن الحادية أو الثانية عشرة على الأقل، عندما يكون بإمكانها أن تثق بأنهم كبروا كفاية لتأمن عليهم. وهي تقول إنه لو كان هناك مدرسة ابتدائية بكادر تدريسي من معلمات، قريبة من مكان سكنها، فإنها ما كانت لتلحق أطفالها بمدارس خاصة.

تجربتها مع المدارس الحكومية لم تشكل مفاجأة بالنسبة لها، فقد سمعت قصصًا كثيرة من جيرانها وأقربائها، والآن هي تختبرها بنفسها. ابنها في التوجيهي يكاد لا يتلقّى أي تدريس، لأن معظم المعلمين، كما تقول، يعتمدون على أن يأخذ الطلبة دروسًا خصوصية، مثلًا: «معلم الرياضيات كان طاير طيران وشلفق المادة شلفقة (…) قبل نص الفصل كانوا خاتمين».

رمزي (..) في الصف التاسع، يقول إن الطلبة في مدرسته يهربون بشكل يومي بالقفز عن السور، ويكون هذا مرات كثيرة بتشجيع من بعض المعلمين.

رمزي، ابنها الذي في الصف التاسع في مدرسة أخرى، يقول إن الطلبة في مدرسته يهربون بشكل يومي بالقفز عن السور، ويكون هذا مرات كثيرة بتشجيع من بعض المعلمين. ولا أحد، كما يقول، يبلغ أهالي الطلاب «بس يرجعوا ثاني يوم المدير بضربهم كل واحد عصايتين وخلص». إضافة إلى ذلك، في حصص بعض المعلمين، يطلب التلاميذ إذنًا لشرب الماء أو الذهاب إلى الحمام، وينسلّون واحدًا بعد الآخر، ويذهبون للعب كرة القدم في الساحة الخلفية، أو للتدخين، دون أن يسأل عنهم المعلم، «مرّات المدير بشوف الأولاد وبرجّعهم على الصف، بس كثير بتخلص الحصة وما حدا منتبه»، يقول رمزي.

لدى ندى ابنة في الصف الأول في مدرسة خاصة، وتقول إنها كانت قد قررت نقلها إلى مدرسة حكومية العام القادم، لكن السبب الوحيد الذي جعلها تعدل عن ذلك هو بعد المدرسة الحكومية عن منزلها، وصعوبة المواصلات. وتقول إنها لم تكن أبدًا لتفكر بتسجيل أيّ من أولادها الذكور في مدرسة حكومية في هذا العمر «أصغر واحد نقلته على الحكومة كان في صف سادس، وكنت حاطّة إيدي على قلبي».

لا يمثل ما سبق بالتأكيد أداء جميع المعلمين في جميع مدارس الذكور، لكنها، أيضًا، ليست شكاوى فردية، وهناك بشهادة خبراء ومعلمين ومسؤولين في وزارة التربية ما يؤشر على أن ضعف أداء مدارس الذكور، مقارنة بالإناث، ليس استثناءًا.

تؤكد دراسة أصدرها المركز الوطني لتنمية الموارد البشرية، العام 2014، هذه الفجوة في الأداء بين معلمات ومديرات مدارس الإناث ونظرائهن في مدارس الذكور، فتشير إلى أن المعلمات والمديرات يتبعن أنماط سلوك تحفز عملية التعلم أكثر من نظرائهن الذكور، لديهن رضا وظيفي أكبر، يتمتعن بتأهيل أعلى، ويبنين علاقات أفضل مع طلبتهن، كما أنهن أكثر متابعة للواجبات المنزلية من الذكور. إضافة إلى ذلك، تذكر الدراسة أن المديرات أكثر إشرافًا على المعلمات مما هم المدراء، وأن مدارسهن «أكثر أمانًا» من مدارس الذكور.

ويقترح خبراء وعاملون في الميدان أن هذا الفرق في الأداء هو أحد العوامل الأساسية وراء تفوق الإناث على الذكور في نتائج الثانوية العامة كل سنة. ورغم أن الإناث، بشكل عام، يشتركن مع الذكور في تدني التحصيل الأكاديمي، لكن تفوقهن النسبي على الذكور في نتائج الثانوية العامة هو ظاهرة سنوية، والتعليقات عليها في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي هي جزء من «طقوس» إعلان هذه النتائج في الأردن كل عام، عندما يتصدّرن المراتب الأولى، ونسب النجاح العامة، غالبًا، في كل الفروع. العام الماضي مثلا، حصلت الإناث على المراتب الأولى في سبع فروع من أصل تسعة في الثانوية العامة. وحققن، على صعيد النسبة العامة، نتائج أفضل في كل الفروع وصل بعضها إلى الضعف. وهي نتائج تتكرر كل عام، ما ينعكس في ارتفاع نسبتهن في مؤسسات التعليم العالي، مقارنة بالذكور. في العام 2015 شكلت الإناث 52% من نسبة الملتحقين بالجامعات، كما شكلن 55% من الخريجين. وهن لايتفوقن على الذكور فقط في الثانوية العامة، بل يحققن أيضًا نتائج أفضل في الاختبارات الدولية (PISA) و(TIMSS)، التي تقيس المستوى في الرياضيات والعلوم والقراءة.

لماذا تتفوق الإناث؟

ما زال حاضرا في الأذهان التفسير «الظريف» الذي خرج به وزير التربية العام 2012، تعليقًا على ذلك، عندما قال إن الفتيات يتفوقن لأنهن يجدن في الدراسة فرصة للتهرب من الأعمال المنزلية. وهو تصريح عاد الوزير فتراجع عنه، بعد انتقادات حادّة في الإعلام.

في الحقيقة، تفوّق الإناث على الذكور في التحصيل الأكاديمي ليس ظاهرة أردنية خاصة، بل هو ظاهرة في العديد من بلدان العالم. وهناك فرضيات تحيل الأمر إلى التركيبة العقلية والنفسية لكل من الجنسين، ومنها أن الفتيات أكثر قدرة على التخطيط بعيد المدى، ووضع أهداف أكاديمية، وأكثر جلدًا على العمل من أجل تحقيق هذه الأهداف، كما أن لديهن قدرة أكبر على العمل تحت وطأة الملل والإحباط. في حين أن الأولاد أقل قدرة على تحمل «الإحباط» الناجم عن نظام التعليم المدرسي الذي يطلب من التلاميذ الجلوس دون حركة، والتعلم غالبا من خلال الورقة والقلم والكمبيوتر.

لا يوجد إلى الآن تفسير علمي قاطع للظاهرة، لكن من المؤكد أن تحليلها أردنيًا يقود إلى تفسيرات «محلية» لفرق الأداء ترتبط بعوامل، يقول خبراء إنها ربما تكون متعلقة بالثقافة المجتمعية، وبالمكانة والوضع الاجتماعي الذي يمنحه المجتمع لإناثه وذكوره، وبالفرص الذي يهيئها لكل منهما. عوامل هي بالتأكيد أكثر تعقيدًا من محاولتهن التهرب من غسل الصحون.

تربويون: مدارس الذكور أقل انضباطًا

«ضعف الالتزام» في مدارس الذكور مقارنة بالإناث، كما يقول جهاد الشرع، وهو معلم علوم اجتماعية في الرمثا، «ظاهرة». عمل الشرع مع نقابة المعلمين في أول دورتين لها منذ إنشائها العام 2012 إلى العام 2016، وهو بحكم نشاطه معها قام بجولات على مختلف مديريات التربية في المملكة لتلمس احتياجات الميدان. بحسبه فإن «ضعف التزام» جزء من المعلمين، مقارنة بالمعلمات، وهو «ظاهرة عامة في كافة أرجاء المملكة (…) في القرى والبوادي والمخيمات». قد تكون الظاهرة «أخف»، كما يقول، في بعض مناطق المدن، لكن حتى في هذه المناطق، فإن ضعف انضباط مدارس الذكور مقارنة بالإناث واضح.

يؤكد على هذا الفرق في الأداء مدير التربية والتعليم في لواء ماركا، الدكتور عبد الكريم اليماني، الذي يقول إن المشرفين لا يجدون في العادة مشاكل مع مدارس الإناث التي هي مقارنة بمدارس الذكور «مدارس مريحة تمامًا». ووفق اليماني، الذي خدم 28 سنة معلمًا ومشرفًا ومدير تربية، في الشونة الجنوبية والسلط وعمان، هناك «تنافس إيجابي بين مديرات مدارس الإناث»، لا يوجد الكثير منه بين مدارس الذكور، وهو تنافس ينعكس على مستوى تحصيل الطالبات مقارنة بالطلاب. لكنه يستدرك بعدها ويقول إن المعلمين غير المنضبطين يمثلون فئةً قليلةً جدًا.

مسؤول قيادي في وزارة التربية طلب عدم الكشف عن هويته، قال إن الفرق بين مدارس الذكور والإناث يتعدى التحصيل الأكاديمي إلى فرق في التعامل مع مرافق المدرسة وبنيتها التحتية، فمدارس الإناث أكثر نظافة بما لا يقارن، وهناك اعتناء كبير بالناحية الجمالية، كما أن الأثاث فيها في حالة أفضل، ويخدم فترات أطول.

السؤال هو لماذا؟ ومن أين جاء هذا الفرق في الأداء؟

أول عامل يُشار إليه لتفسير الفجوة في الأداء، هو تردي رواتب المعلمين، واضطرار الذكور منهم بالتحديد إلى العمل في وظائف إضافية. قبل عشرين سنة تقريبًا، كان أول راتب يتقاضاه المعلم هو 114 دينارًا. حاليًا يتقاضى المعلم بداية تعيينه 380 دينارًا. لكن المعلم الذي عيّن قبل عشرين سنة لا يتجاوز راتبه الحالي 600 دينار.

عادل* هو مثال على المعلمين الذين يضطرون إلى العمل في وظيفة ثانية للتعويض عن تدني رواتبهم. لقد تعين معلم لغة إنجليزية قبل 16عامًا، تنقل خلالها بين أربع مديريات تربية. وكان قبل تعيينه، قد تعلم مهنة الطوبار وعمل فيها مع والده. وظل مستمرًا فيها بعد حصوله على الوظيفة، فزوجته ربة منزل، ومن دون عمله الإضافي، لا يمكن له أبدًا تدبر أمر ثلاثة أطفال، وتغطية أقساط المنزل الذي بناه.

يخرج عادل كل يوم من المدرسة إلى «الورشة»، حيث يعمل إلى غروب الشمس. كما يعمل أيام السبت، إضافة إلى أنه في كل سنة دراسية يأخذ كامل رصيده من الإجازات العرضية والمرضية، ويستغلها للعمل في الطوبار.

وفق الجدول المعلق على جدار غرفة المعلمين، حصصه موزعة على اليوم الدراسي، وهذا يعني أن دوامه ينتهي رسميًا ما بين الواحدة والثانية، لكنه كل صباح يجري مع زملائه تبديلات في الحصص تمكّنه من تجميع حصصه ليعطيها متتالية، وهذا يسمح له بالخروج ما بين الساعة 11:30 و12:30 تقريبًا.
لكن النظام الذي سار عليه طيلة سنوات خدمته مهدد بالاختلال، بعد إعلان وزارة التربية أنها ستطبق نظام البصمة الإلكترونية لضبط حضور وغياب المعلمين، وبدئها تعميم المشروع بالفعل. إذا عُمم النظام، يقول عادل إنه سيتقدم بطلب «استيداع»، ويتفرّغ للطوبار.

وفق عادل، رغم عمله الإضافي، هو ملتزم بأداء كل واجباته، لكن هذا، كما يقول، ليس حال كل المعلمين ممن هم في وضعه، ففي مدرسته مثلا معلم رياضيات يملك محلًا لصيانة أجهزة الكمبيوتر، يخرج كل يوم من المدرسة بعد الحصة الثالثة، أي في العاشرة والنصف، تاركًا خلفه ما تبقى من حصصه: «بس في الفترة الأخيرة المدير قدر يقنعه يظل للحصة الرابعة».

وفق تربويين فإن اضطرار المعلمين للعمل في وظيفة ثانية (وأحيانا ثالثة) هو سبب رئيسي لتفاوت الأداء بينهم والمعلمات، اللواتي لا يعملن، بحسب اليماني، عادة في وظائف إضافية مثل المعلمين.

ليس هناك أرقام توضح بدقة نسبة المعلمين الذين يعملون في مهن إضافية، لكن جميع من قوبلوا في إطار العمل على هذا التقرير، من مسؤولين ومعلمين وحتى أولياء أمور أكدوا أن هناك الكثير منهم. ربحي حميدي، الذي يعمل منذ 37 سنة في قطاع التربية والتعليم، بدأها معلم فيزياء، ثم تحول للإشراف العام 2004، وخدم في عدة مدارس في مناطق البادية الوسطى وعمان، يقول إنه في كل مدرسة خدم فيها أو أشرف عليها، هناك عدّة معلمين يعملون بعد الدوام في مهن منها «سائق تاكسي، كاشير في محل حلويات، بائع في مطعم أو مخبز، عامل في مشتل نباتات وغيرها».

[المعلمات] وإن لم يعملن في وظائف أخرى إلى جانب التعليم، إلا أنهن يتحملن نصيبهن من الأعباء الإضافية في مجتمع يتعامل مع تربية الأطفال وأعمال المنزل بوصفها مهام حصرية للنساء، وهذا يعني أنهن، عمليًا، يمتهن مهنة أخرى.

لكن الرأي السابق، على وجاهته، لا يقدّم تفسيرًا لكامل المشهد، ببساطة لأن المعلمات يتلقين الرواتب نفسها أو أقل، ويخضعن للضغوطات الاقتصادية ذاتها، وهن وإن لم يعملن في وظائف أخرى إلى جانب التعليم، إلا أنهن يتحملن نصيبهن من الأعباء الإضافية في مجتمع يتعامل مع تربية الأطفال وأعمال المنزل بوصفها مهام حصرية للنساء، وهذا يعني أنهن، عمليًا، يمتهن مهنة أخرى.

يقترح من تمّت مقابلتهم من تربويين أن جزءًا من تفاوت الأداء يعود إلى اختلاف «طبيعة» الأنثى عن الذكر. فالمعلمات، كما يقولون، أكثر ميلًا «بطبيعتهن» إلى الالتزام بالقوانين. إنهن، كما يقول اليماني، يملن إلى التقيد بالتعليمات، في حين «لا يحب الرجل لأحد أن يقيده». يقول الشرع إنه ميل يصل أحيانًا إلى حدّ «الخضوع»، وقبول الالتزام بـ«أمور شكلية» لا يقبل المعلمون الالتزام بها، مثل جاهزية دفاتر التحضير والخطط الدراسية ودفاتر العلامات. هذا في الحقيقة، كما يرى، ما يجعل ضعف الانضباط «النسبي» في مدارس البنين يبدو كما لو أنه «انفلات»، وهو في الحقيقة ناجم عن

المقارنة بينها ومدارس البنات التي تدار بصرامة شديد، لا يقبلها المعلمون، كما أنه ناتج عن التركيز على النماذج «القليلة» السيئة من المعلمين. يلفت حميدي إلى أن هذا الميل للالتزام، يحفز «التسلّط» من قبل بعض المديرات. وهو، بشكل عام، ما يجعل مدارس الذكور، برأيه، «أكثر ديمقراطية» من مدارس الإناث، بشكل أساسي لأن المدير يحسب لردّات فعل المعلمين. وبشكل عام، فإن هذا الميل الواضح إلى الالتزام بالقوانين هو ما يجعل الإدارة في مدارس البنات، بحسبه، أميل إلى تطبيق «حذافير» هذه القوانين لا «روحها». لكن هذه المساحة الأوسع من الديمقراطية، كما يقول، تكون في كثير من الأحيان «على حساب العمل».

لا تنكر إيمان عبد اللطيف، وهي معلمة تربية إسلامية منذ 23 سنة، ارتفاع منسوب «الخوف» في مدارس الإناث، فـ «المعلمات ممكن يعملوا أي إشي، حتى لو مش مقتنعين فيه، بس ما يسمعوا كلمة من مديرة أو مشرف». وتقول إن المديرات أنفسهن يفرضن التطبيق الحرفي للقوانين لأنهن أيضًا يردن تجنب المساءلة. لكن إيمان تقول إن هذا تفسير «قاصر». فجزء لا يستهان به من انضباط التدريس في مدارس الإناث، برأيها، هو نتاج «التزام ذاتي»، يتجاوز الأمور الظاهرية من سجلات ومواعيد دخول وخروج إلى جوهر العملية التعليمية نفسها، أي نوعية ما يُقدم للطالبات داخل الحصص. هذا، كما تقول، ما يدفعهن إلى أن يأخذن المهنة على محمل الجدّ نسبيًا أكثر من الذكور. وهو ما يفسّر، كما تقول، الفرق في النتائج بين الذكور الإناث، ليس فقط في الثانوية العامة، بل في كل مراحل التعليم «عندي ستة [أبناء] دخلوا كلهم مدارس حكومية، وشفت الفرق بين تدريس المعلمات والمعلمين، من صف أول لحدّ التوجيهي».

مجتمعنا الذي، كما تقول محادين، يفرض قواعد على الجنسين، يميل إلى جعل هذه القواعد أكثر صرامة على الإناث. كما أنه أكثر تشدّدًا معهن في حال انتهاك هذه القواعد. إنه يمنح الذكور هامش حرية أكبر للتحرك ضمن إطار القواعد المفروضة عليهم.

إنه رأي يؤكد عليه الأخصائي النفسي، باسل حمد، الذي يقول إن الإناث يملن أكثر إلى «تطوير منظومة أخلاقية داخلية»، لكنه يشير في الوقت ذاته إلى عامل آخر، هو أن المجتمع في الوقت نفسه، يضع على الإناث ضغوطًا أكبر للالتزام بالقوانين مما يفعل مع الذكور. إنه يخضعهن إلى «محددات سلوكية» أكثر، ويتوقع منهن انضباطًا أكبر. وهذا ما يدفعهن إلى تطوير «نظام توافقي»، يحفزهن على إدراك معايير المجتمع وقوانينه والتوافق معها، أكثر مما يفعل الذكور.

إن عزو هذا الفرق في الأداء بين المعلمين والمعلمات إلى اختلاف «طبيعة» الذكور والإناث، هو، كما توضّح ابتهال محادين، الأكاديمية المتخصصة في النسوية في جامعة أدنبرة في اسكتلندا، أمر غير دقيق، ويتجاهل حقيقة أن الكثير من الفروقات السلوكية بين الجنسين ترتبط بـ«الفرق الشاسع» بين التربية التي يتلقاها كل من الذكور والإناث في مجتمع يعمل على «قولبة الأشخاص إلى إناث وذكور تبعًا لخصائص معينة محددة اجتماعية (…) حتى قبل ولادتهم». وهي خصائص ترتبط بعوامل عديدة، النوع الاجتماعي هو أحدها.

مجتمعنا الذي، كما تقول محادين، يفرض قواعد على الجنسين، يميل إلى جعل هذه القواعد أكثر صرامة على الإناث. كما أنه أكثر تشدّدًا معهن في حال انتهاك هذه القواعد. إنه يمنح الذكور هامش حرية أكبر للتحرك ضمن إطار القواعد المفروضة عليهم، أكبر بكثير من الهامش الذي يمنحه للإناث؛ وبذلك فإن عواقب انتهاك هذه القواعد ليست متساوية لدى الجنسين.

تعليم الإناث نافذة خلاص

لا تتعلق فجوة التحصيل بين الطلاب والطالبات فقط باختلاف نمط أداء المعلمين والمعلمات. إنها، وفق خبراء، انعكاس أيضًا لاختلاف نمط تحصيل هؤلاء الطلاب والطالبات أنفسهم. تلفت الدراسة السابقة الذكر إلى أن الطالبات، كما للمعلمات، أنماط أداء تخدم هي أيضًا عملية التعلم، أكثر من الطلاب. إنهن بحسب الدراسة «أكثر التزامًا» بأداء الواجبات المدرسية، لديهن طموحات أكبر لإكمال دراستهن العليا، حالات الرسوب بينهن أقل، وأيام غيابهن عن المدرسة أقل من الذكور. يضاف إلى ذلك أن الذكور أكثر انغماسًا في استخدام الكمبيوتر والألعاب الجماعية وشبكات التواصل الاجتماعي.

مع مواصلة التذكير بأن الظاهرة بالغة التعقيد، وهي بالضرورة نتاج شبكة معقدة من العوامل، لكن يمكن بسهولة ربط هذا الفرق في الأداء بأحدها، وهو الوضع الاجتماعي للأنثى في مجتمع محافظ، وبالفرص التي يخلقها التعليم لها. ويمكن اعتبار سوسن* نموذجًا على ذلك.

تدرس سوسن في أحد التخصصات الطبية في جامعة العلوم والتكنولوجيا. منذ البداية، كان واضحًا لها أن خروجها للعمل مرتبط بالضرورة بالتحاقها بالتعليم العالي، لأن معظم الوظائف «المقبولة اجتماعيًا» في محيطها، وفي مقدمتها المهن التعليمية والطبية، تتطلب شهادة عليا، من دونها كانت ستظل «قاعدة في البيت».

ولن تكون هذه الحال لو كانت شابًا، ذلك أن الشباب في محيطها يمكنهم في حال عدم الالتحاق بالتعليم العالي، إنهم «يشتغلوا أي شغلة».

لكن التحاق سوسن بالجامعة لا يمنحها فقط فرصة الحصول، مستقبلًا، على وظيفة تحقق لها استقلالًا ماديًا، بل وسّع أيضًا، في الوقت الحاضر، دائرة حركتها بما لا يقاس. ففي بيئتها الاجتماعية، لا تملك الفتيات، عكس الذكور، الكثير من حرية الحركة، وليس هناك الكثير من الحالات التي يمكن لهن فيها الخروج من المنزل من دون مرافقة أحد من أفراد العائلة «لازم يكون في سبب للطلعة. يعني الناس بس تشوف البنت بتطلع دايمًا لحالها، وما بتكون رايحة على المدرسة أو الجامعة أو الشغل، بيصيروا يحكوا لإنو إشي غريب».

التحاق سوسن بالجامعة خلق تحوّلًا جذريًا في نظام حياتها؛ فهي تخرج الآن من منزلها صباحًا وتعود مساءًا، وخلال يومها الطويل في الجامعة، يُتاح لها أن تفعل ما هو أكثر من حضور المحاضرات، فهي تلتقي بصديقات، وتحضر معهن الفعاليات الثقافية والترفيهية التي تقام في الجامعة وخارجها، وتذهب معهن إلى المطاعم المحيطة بالجامعة، كما يذهبن للتسوق في الأسواق القريبة. وجميع هذه خبرات جديدة تمامًا بالنسبة إليها. وهي أشياء «يُسمح» لها بفعلها لا لأنها كبرت، بل لأنها التحقت بالجامعة، «لو ما طلعلي جامعة، ما كان إشي تغير بحياتي» توضح سوسن.

أولياء الأمور: نريد رقابة أشد على مدارس الذكور

تؤكد سناء وندى أن الفجوة بين مدارس الإناث ومدارس الذكور يمكن أن تُردم في حال شدّدت وزارة التربية على مدارس الذكور، وهذا ما تقول وزارة التربية إنها تفعله، ونظام البصمة الإلكتروني المشار إليه سابقًا يستهدف، بشكل أساسي، ضمان التزام المعلمين بالدوام. لكن التزام المعلمين هو أكبر من مجرد «تواجدهم» داخل المدرسة. ولدى أولياء أمور وطلبة الكثير من القصص عن ذلك. مثلًا رامي الذي أنهى الصف الأول ثانوي، يقول إنه من بين 10 معلمين درسوه العام المنقضي 11 مادة دراسية، هناك خمسة فقط التزموا بشكل كامل بالحصص وبالشرح والاختبارات.

لم يكن البقية بحسبه يغادرون المدرسة في العادة، لكنهم لم يكونوا (بتفاوت) ملتزمين باستغلال الحصص كما هو مفترض، ولم يعطوا كامل المادة المقررة. معلم الحاسوب، مثلًا كما يقول رامي، كان يعطي حصة واحدة من بين كل ثلاث حصص مقررة كل أسبوع، ويقضي بقية الحصص جالسًا على مقعده يتصفح الإنترنت على هاتفه «أول ما يفوت بسأل الأولاد مين عنده إنترنت على تلفونه يعطيني؟ بشبكوله إنترنت، وبطلّعوا هم كمان تلفوناتهم».

وفق رامي، لم يحدث أبدًا أن دخل المدير إلى صفهم، كما أن مشرفًا واحدًا فقط زارهم خلال السنة كلها: «كانت حصة تاريخ الأردن والمعلم كان قاعد، فجأة إجوا معلمين وحكوله في مشرف جاي، فقام بسرعة ورسم خريطة على اللوح وصار يشرح».

لكن هل تستطيع وزارة التربية فرض إجراءات رقابية أكثر تشددًا على مدارس الذكور؟

وزارة التربية، في الحقيقة، في موقف لا تحسد عليه، لأنها بالكاد تستطيع تدبر أمر تسيير مدارس الذكور بما هو متاح لديها من معلمين، في ظل ضعف الإقبال الشديد على المهنة من قبل الذكور.

[وزارة التربية] بالكاد تستطيع تدبر أمر تسيير مدارس الذكور بما هو متاح لديها من معلمين، في ظل ضعف الإقبال الشديد على المهنة من قبل الذكور.

تشكل المعلمات، وفق أرقام العام 2015، 68% من الكوادر التعليمية في المملكة، بفجوة جندر مقدارها 18%. رغم أن فجوة الجندر في عدد الطالبات والطلاب هي 7% تقريبا لصالح الإناث. ويبدو أن الوضع يسير إلى الأسوأ، فوفق أرقام العام 2017 لديوان الخدمة المدنية، نسبة الطلبات المقدمة من ذكور، من كامل طلبات المهن التعليمية هي فقط 9%.

يضعف إقبال المعلمين على المهنة، رغم كل «الأريحية» التي يتميز بها نظام الدوام في مدارسهم؛ فوفق عادل، ينتهي دوام المعلم في أي يوم بإنهائه حصصه. وإذا أراد الخروج لأي سبب قبل ذلك، يبدل حصصه ببساطة مع المعلمين الآخرين، أو حتى يطلب منهم أن يحلوا محله، وهو يأخذ إجازاته بأنواعها بكل يسر. وحتى في الحالات التي تتحول فيها «المرونة» إلى «انفلات»، فإن طبيعة العلاقة بين المعلمين، وبينهم والمدير، وهي علاقة قائمة على التكاتف في وجه السلطة، تمنع غالبًا المساءلة.

في حين يسود نظام مختلف تمامًا في مدارس الإناث، كما تشرح إيمان، فالمعلمة «مجبرة» على البقاء في المدرسة إلى الحصة السادسة، حتى لو أنهت حصصها من الثانية. ويجب أن يكون هناك طارئ «تقتنع به المديرة» كي تستطيع المعلمة أخذ مغادرة أو حتى الاستفادة من إجازاتها العرضية.

تحاول وزارة التربية، التغلب على مشكلة نقص المعلمين، (ونوعية التدريس أيضًا) عن طريق «تأنيث» الهيئات التعليمية، وقد بدأت منذ سنوات بتأنيث الصفوف الثلاث الأولى. وقبل سنتين، كانت إحدى توصيات مؤتمر التطوير التربوي، الذي عقدته وزارة التربية «تأنيث التدريس إلى الصف الخامس». ووفق تصريحات لاحقة لوزارة التربية، فإن خطة لتوسيع التأنيث ستشمل الصف السادس.

لكن هناك ما يؤشر على أن رفع سن الطلبة الذين تدرسهم معلمات، أكثر من ذلك، لن يمر لاعتبارات اجتماعية. ففي العام 2009، تقدم عضو مجلس النواب آنذاك، محمد زريقات، باقتراح لحل مشكلة نقص المعلمين في بعض التخصصات العلمية، يفيد تعيين معلمات في مدارس الذكور. لكن الاقتراح عورض بشدة، وقيل وقتها إنه سيؤدي إلى نقل أجواء مسرحية «مدرسة المشاغبين» إلى مدارس البنين في المملكة. وأرسل النائب، آنذاك، عن حزب جبهة العمل الإسلامي، حمزة منصور، رسالة إلى وزير التربية، الدكتور وليد المعاني، يحذره فيها من «الآثار الكارثية» التي ستنجم في حال طبقت الوزارة الاقتراح. المعاني قال بعدها في مقابلة صحفية، إن منصور أبلغه أنه «ليس لديه مانع بأن يبقى الطلاب بدون تعلم أفضل من أن نرسل لهم إناث ليدرسوهم».


*تم تغيير الأسماء بناءً على طلب أصحابها حفاظًا على خصوصيتهم.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية