لماذا لا يمكننا أن نكون طلال أبو غزالة

الخميس 24 كانون الثاني 2019
طلال أبو غزالة في برلين عام 2011. عن موقع شركة طلال أبو غزالة للحلول التكنولوجية.

بلغة «الوالد والمعلم»، كما سمّى نفسه، وجّه رجل الأعمال طلال أبو غزالة أمس رسالة لرئيس الحكومة، عمر الرزاز، قدم فيها نصائحه الرامية لرفع الإنتاجية والنهوض بالاقتصاد الوطني، بوسيلة في غاية التأثير في نظره: تقليل أيام العطل، وهو الذي يؤمن أن سبب صحته في سن الـ81 هو أنه مستمر في العمل طيلة حياته «دون أي عطلة».

لم يكن أبو غزالة الوحيد في استهجانه للعطلة التي أقرتها رئاسة الوزراء يوم الخميس الماضي، بسبب الأحوال الجوية. فقد أصدرت جمعية رجال الأعمال الأردنيين أمس بيانًا دعت فيه «لإعادة النظر في آلية بلاغات العطل الرسمية أو الطارئة حفاظًا على مصالح وأعمال القطاع الخاص». ورغم أن البيان المقتضب لم يكن بفجاجة رسالة أبو غزالة، إلا أن الاثنين عكسا شعورًا بالاستحقاق لدى رجال الأعمال في الهجوم على عطل الموظفين والعمال، خاصة في ضوء اتجاه مجلس النواب نحو رفع الإجازة السنوية المدفوعة الأجر من 14 إلى 18 يومًا لمن تقل خدمته عن خمس أعوام، وما بين 21 و24 يومًا لمن تزيد خدمته عن ذلك.

عبر المنصات الاجتماعية المختلفة لمواقع إخبارية عديدة، انهمرت التعليقات الساخطة على رسالة أبو غزالة، والمستنكرة لاستكثاره يوم عطلة واحد على موظفيه الذين لا ينعمون بفتات ثروته. لكن بعيدًا عن رد الفعل الواسع على الرسالة بعينها، أضاء أبو غزالة على منطق يشاركه فيه كثيرون؛ منطقٌ يحكم البيئة التي تعمل فيها الأغلبية، وتتبناه السلطة التي ترسم معالم الاقتصاد.

«العمل مفيد للصحة»

حتى يطالب أبو غزالة الحكومة على الملأ بتقليص العطل -لا لموظفيه فحسب، بل لكل موظفي الأردن- فهو بحاجة لتبرير عام، يأخذ أشكالًا مختلفة، يُخرِج دوافعه من دائرة الجشع الرأسمالي الصرف إلى الخوف على صحة الاقتصاد الوطني، لا بل صحة موظفيه أنفسهم.

أخذ هذا التبرير تارةً شكلًا دينيًا في وصف العمل بالعبادة، ليطبّع التفاوت في الثروة على أنه نتيجة تفاوت في العبادة، مذكرًا بنظيره المصري، نجيب ساويرس، حين أجاب على سؤال «إشمعنى إنت تبقى غني وإحنا لا؟» قائلًا «اسأله هو»، مشيرًا إلى السماء. وتارةً أخرى، تم تقديم العمل أيامًا أكثر وأطول على أنه وصفة مجربة لعمر مديد وصحة عالية، في تجاهل لحقيقة أن العيش بالملايين بالضرورة يوفر خيارات أفضل من حيث نمط الحياة والرعاية الصحية، وفي تجاهل لـ2.78 مليون وفاة سنويًا حول العالم بسبب إصابات عمل أو أمراض متعلقة به، و374 مليون إصابة عمل، بحسب منظمة العمل الدولية. هذا فضلًا عن الدراسات التي ربطت زيادة ساعات العمل (في أعمال مكتبية) من سبع إلى عشر ساعات بارتفاع احتمالية الإصابة بأمراض القلب بنسبة 60%، وبالدفع باتجاه أنماط حياة غير صحية، من حيث الحمية والرياضة واستهلاك التبغ والكحول، مما يرفع نسبة الإصابة بالسكري كذلك.

الترويج للعمل لم يأتِ بوصفه طريقًا لتحقيق الذات وتطويرها فحسب، بل، وهو الأهم، بوصفه الطريق الوحيد لتطوير الاقتصاد ورفع الإنتاجية، رغم أن مؤشرات متزايدة تشير إلى أن العلاقة بين ساعات العمل والإنتاجية ليست دومًا طردية، بل قد تكون عكس ذلك. كما أن رجال الأعمال ممن يدعون باستمرار لمواكبة التطور العلمي والتقني يتجاهلون أن الاتجاه العالمي نحو العمل المرن لا يتطلب اعتقال الجسد أمام المكتب في يوم عاصف. لكن ما هو أهم في بلد كالأردن، حيث لا توجد سوق كبيرة قادرة على التأثير بقوة في الاقتصاد، أن السياسات المركزية أكثر قدرة على تشكيل الحالة الاقتصادية، وتكون قدرة الأفراد على المساهمة في النمو ورفع الإنتاجية محدودة، ولو عملوا يومًا إضافيًا في السنة.

إن تحميل مجموعة من الموظفين والعمال مسؤولية انتشال الاقتصاد الوطني هو استمرار لنهج يحمل غالبية الناس مسؤولية مشاكل لم يخلقوها، ويطالبهم بإفناء أنفسهم من أجل تحقيق مكاسب لن يستفيدوا بالضرورة منها. فوسط أحاديث رجال الأعمال عن ضرورة تحسين هذا المؤشر أو ذاك من مؤشرات الاقتصاد الكلي، لا أحد يكلف نفسه عناء توضيح انعكاس ذلك على جودة حياة الناس، أو حتى إثبات أن رفع معدل النمو، على سبيل المثال، لن يصب فقط في جيوب القلة، وهو ما يحدث حين لا تتدخل الدولة في توجيه مواردها لخدمة الصالح العام، وتترك السوق مفتوحًا تهيمن عليه خطابات الريادة والمبادرة الفردية والوظائف التي لا معنى اجتماعي لها. ما ينبغي تذكره هنا هو أن القرارات التي تتخذها الدولة لتوجيه الاقتصاد وإعادة تشكيله هي خيارات سياسية بامتياز، تنبع من تصورات متعلقة بشكل المجتمع الذي نسعى إليه. لذا، من المضلل اختزالها في قرار شركة ما بتمديد أو تقليص عطل موظفيها.

الحياة في الوقت الضائع

تنبع سخرية العديد من الموظفين والعمال وغضبهم الذي عبروا عنه على السوشال ميديا من تعامي أبو غزالة عن موقعه الطبقي، ونفيه القصدي للفوارق الهائلة بين شخصه ومن يخاطبهم. كما أن دفاع الناس عن حقها في يوم إجازة بعد أن تحققت دعواتهم بـ«الثلجة» هو نتيجة منطقية لنظرتهم للعمل وشعورهم تجاهه. فشكل العمل وطبيعته ومردوده المالي كلها أسباب تنمي لديهم كراهية الذهاب إليه وتدفعهم لانتهاز أي فرصة للبقاء خارج أسوار مكاتبه.

فـ«الحياة» تبدأ بعد انتهاء الدوام بالنسبة لجزء كبير من الموظفين والعمال ممن يخرجون من بيوتهم إلى أعمالهم في السابعة صباحًا ليعودوا في السابعة مساءً، في ظل غياب نظام نقل مضمون وفعال. فساعات الدوام تُسرق من عمر الإنسان سرقةً حين يكون العمل بالكاد قادرًا على تأمين الحد الأدنى من احتياجاته البشرية، كإيجار بيت يأويه، ورعاية صحية وتعليم متواضعين له ولعائلته، دون أن ينجو من القلق المستمر تجاه المستقبل.

في غياب الوقت والمال والطاقة اللازمين من أجل الاستمتاع بالحياة خارج الدوام، يصبح الهدف الوحيد للعمل هو استدامة القدرة على العمل أكثر، ليكون مجرد إفناءٍ للنفس من أجل أصحاب العمل ومعاوينهم.

تمسك الناس بحق الجلوس أمام المدفأة ومشاهدة التلفاز أو اللعب على الهاتف في يوم ماطر أو مثلج ينبع من الرغبة الطبيعية بالتنعم بأبسط متع الحياة. وهو مقاومة لشيطنة الرأسمالية للتسلية واللعب والترفيه، ومحاولاتها قمع كل ما هو إنساني و«غير منتج».[1] لذا، فإن ما يصفه أصحاب العمل بـ«تضييع الوقت» في العطل هو في جوهره بالنسبة للعاملين استفادة من الوقت قبل أن تنهبه ساعات العمل المملة والكئيبة. ففي غياب الوقت والمال والطاقة اللازمين من أجل الاستمتاع بالحياة خارج الدوام، يصبح الهدف الوحيد للعمل هو استدامة القدرة على العمل أكثر، ليكون مجرد إفناءٍ للنفس من أجل أصحاب العمل ومعاونيهم.

العصامية التي يتغنى بها الأثرياء، ودعوات أبو غزالة وغيره للعمل المتواصل للوصول إلى ما وصلوا إليه، هي محض أساطير أيديولوجية تخفي عوامل بنيوية تنتج وتعيد إنتاج غياب العدالة والفوارق الهائلة في الثروة بين الناس، وتضفي عليها صفة العادية. إذا كنت تعمل من أجل أن تسد حاجاتك وحاجات أسرتك الأساسية، ستدرك بأن طريق الوظيفة للوصول للثراء مغلق، وأن كل الكلام عن أن «اللي بتعب بلاقي» هو مجرد بيع أوهام. فالوظيفة لن تجعلك بثراء طلال أبو غزالة، ولو كنت مثالًا في العصامية، وراتبك وحده كموظف أو عامل يصعب أن يقفز بك طبقيًا في بلد كالأردن، ولو كنت أشد الموظفين التزامًا.

لا يحتاج الناس إلى تجربة مهنية طويلة لمعرفة ذلك. فالبراهين متوفرة في حياتهم وحياة أسرهم، حتى لدى أقلهم خبرة وعمرًا. في دراسة صادرة عام 2016، تنقل الباحثة ميسون سكرية مقابلاتها مع مجموعة من الطلاب في جبل النظيف في عمان، حول انطباعاتهم تجاه تدريبات تلقوها من منظمات دولية لتوجيههم نحو بدء مشاريع أعمال صغيرة. أيمن أحد هؤلاء الطلاب المشككين في سردية الريادة والاعتماد على الذات وضرورة التشبيك الاجتماعي من أجل إنجاح المشاريع. «يقولون لنا أن نستخدم شبكاتنا الاجتماعية [في العمل]»، يقول أيمن، «لكن شبكاتي يمكنها أن تجعلني آذنًا، أما شبكاتهم فتجعلهم وزراء. كيف تسمى هذه عصامية؟».[2]

  • الهوامش

    [1] Paul La Fargue, «The Right to Be Lazy,» Translated and adapted from the French by Harriet E. Lothrop. Standard Publishing Co. 1904. pp.3-4.

    [2] Mayssoun Sukarieh, «On Class, Culture, and the Creation of the Neoliberal Subject: The Case of Jordan,» Anthropological Quarterly, Volume 89, Number 4, Fall 2016, pp. 1201-1225.

 

 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية