رأي

أزمة التكسي: القصة مش قصة شوفير

الثلاثاء 30 أيار 2017

خلق دخول شركات النقل الذكي إلى الأردن أزمة لم تستطع الدولة حلّها إلى الآن، أبرز أشكالها الخلاف الذي ظهر بين هذه الشركات وسائقي وأصحاب التكسي الأصفر، حيث ينظر العديد من سائقي وأصحاب التكسي إلى هذه الشركات باعتبارها مصدر تهديد رئيسي لأرزاقهم.

ما زالت حالة الجدل حول من يتحمّل مسؤولية معالجة هذه الأزمة وكيفية معالجتها مستمرّة. لكن الكثير من النقاشات حول الموضوع تنحصر في زاوية ضيقة جدًا، فلا تنظر إلى الأزمة بكونها مرتبطة بمسألة عامة تتعلق بالصالح العام بل باعتبارها مسألة متعلقة بالموقع الاجتماعي لكل شخص فينا، مما يؤدي إلى تفريغ القضية من بعدها الوطني-الاجتماعي، وتجاهل «المعاناة» اليومية لغالبية أبناء المجتمع مع وسائط النقل والتركيز على «معاناة» خاصة بطبقات وفئات اجتماعية محددة.

حصر المسألة ونقاشها، من قبل المتحمّسين للتطبيقات الذكية، في قضية نوعية الخدمة يؤدي بالضرورة إلى القفز عن جوهر القضية ومناقشة أحد مظاهرها، أي تناوله من زاوية سلوك سائق التكسي، والذي من المجحف مناقشته إلا كنتيجة وانعكاس للأزمة التي خلقتها الدولة بانسحابها ورفع يدها عن تنظيم القطاع حتى أصبح هذا القطاع فالتًا من عقاله.

يبرر المتحمّسون للتطبيقات الذكية عدم تعاطفهم مع مطالب سائقي التكسي وشعورهم بالغبن بـ«سلوك» سائق التكسي، أو عدم مقدرته على مواكبة التطور، أو عدم نظافة السيارة، أو انتقائية السائق في قبول الطلبات. وكثيرًا ما تتحول الانتقادات إلى فعل نمذجة ورسم صورة وتشكيل خطاب فوقي-عنصري عن سائقي التكسي الأصفر.

رفض التضامن مع سائقي التكسي، بسبب سلوكيات بعض السائقين ينقل التضامن من كونه فعلًا يتحدد من خلال ما تتعرض له فئة اجتماعية ما إلى كونه فعلًا يتحدّد بسلوكيات بعض الأفراد المشكّلين لهذه الفئة، ويحدث هذا بمعزل عن الأسباب التي أنتجت هذه السلوكيات. كأن يقول أحدهم إنني أرفض أن أتضامن مع المعلمين في مطالبتهم بزيادة الرواتب لأنهم لا يقدّمون نوعية تعليم جيدة لأبنائنا. مثلما هو مجحف تحميل المعلّم مسؤولية تدني مستوى التعليم، فمن المجحف أيضًا تحميل سائق التكسي مسؤولية ما آلت إليه الأمور في هذا القطاع.

فلنأخذ مثلًا موضوع انتقائية السائقين للطلبات حسب وجهة الراكب، حيث أن الكثير من المتذمّرين من سلوك سائقي التكسي يرفضون تفهّم هذا السلوك، وهذا مفهوم تمامًا، لكن أن يتم استخدام هذا الفعل -دون الأخذ بعين الاعتبار مسألة الازدحام، وضمان السيارة، وتدني الأجرة- كمبرر للهجوم على سائقي التكسي والاستخفاف بمطالبهم والتشفي بهم فهو السلوك الإشكالي.

تجاهل الوضع الذي أنتج سلوك سائق التكسي يؤدي إلى تسطيح المسألة وإنتاج خطاب يعمل على شيطنة سائق التكسي من جانب، ويتعامل مع الشركات وكأنها جمعيات خيرية من جانب آخر

قبل فترة وجيزة طلبتُ سيارة تابعة لإحدى شركات النقل الذكي لكي تنقلني من ماركا الشمالية إلى جبل اللويبدة، وبسبب الازدحام، وبدلًا من أن تأخذ الطريق من 20 إلى 25 دقيقة كالعادة، أخذت قرابة 50 دقيقة، وحدث الشيء نفسه (نفس المسافة تقريبًا ونفس مدة التأخير) في أول يوم في شهر رمضان لكن مع التكسي الأصفر. كان فرق التكلفة الناتج عن الازدحام والانتظار خمسة أضعاف لصالح الشركة. بالتأكيد إذا كنتَ سائق تكسي مطلوب منك أن تغطّي مصاريف السيارة من بنزين وغيره، ويُطلب منك ضمان يومي بقيمة تتراوح بين 25-35 دينارًا فإنك على الأغلب سوف تتجنب تحميل طلبٍ مدّته قرابة الساعة لأجل دينارين و40 قرشًا. لذلك كل الكلام عن مطالبة سائق التكسي بتحسين الخدمة لكي يستطيع أن ينافس الشركات الحديثة كلام غير واقعي في ظل غياب جهة رقابية تنظّم وتطوّر عمل القطاع من جهة، وفي ظل ما يستطيع أن يقدمه سائق التاكسي ضمن ظروفه الحالية مقارنةً بما تستطيع أن تقدّمه الشركات الحديثة من جهة أخرى.

أتفهم جدًا استياء وانزعاج البعض من ممارسات سائقي التكسي الأصفر، لكن تجاهل الوضع الذي أنتج سلوك سائق التكسي يؤدي إلى تسطيح المسألة وإنتاج خطاب يعمل على شيطنة سائق التكسي من جانب، ويتعامل مع الشركات وكأنها جمعيات خيرية من جانب آخر. هذه الشركات لم تأت إلى الأردن لحل مشكلة النقل ولا لأن سائق التكسي يدخن بالسيارة، الهدف الأساسي والوحيد لقدومها هو الربح. وتستطيع هذه الشركات لسببين رئيسيين أن تهدد وجود «التكسي» ككل، أولا بسبب جودة الخدمة التي تقدمها هذه الشركات ومحدودية قيمة التكلفة المطلوبة منها للتشغيل، والسبب الثاني يتعلق بغياب منظومة نقل عام، وحاجة فئات اجتماعية عديدة لمثل هذه الخدمات، بالإضافة إلى تراجع مستوى الخدمة التي يقدّمها التكسي، لأسباب كثيرة منها تعامل مؤسسات الدولة مع قطاع التكسي باعتباره أحد الحلول لغياب منظومة نقل عام. وأجرة التكسي الزهيدة نسبيًا في الأردن وأعداد السيارات الكثيرة ما هي إلا ظواهر على الآلية التي تعاملت معها الدولة مع قطاع التكاسي.

الإشكالية الأخرى في تناول الموضوع من زاوية الخدمة فقط هو أن هذا الخطاب قد ينزلق إلى تجاهل ما يتعرّض له سائقو الشركات. في الكثير من دول العالم كانت هناك مطالب من النشطاء والحقوقيين والنقابات لحماية سائقي هذه الشركات وإشراكهم بالضمان الاجتماعي، وحصولهم على التأمين الصحي. لكن في النقاش الدائر لدينا اليوم لا يتم التطرّق إلى غياب هذه الحقوق الأساسية، ولا إلى المظالم التي يتعرّض لها سائقو هذه الشركات من مضايقات بعض الركاب والتي يضطرون إلى قبولها وتحمّلها بسبب نظام التقييم، الذي قد يستغله الركاب كأداة لقمع السائق.

باعتقادي، هناك إشكالية رئيسة في تحويل سائق التكسي من متضرّر إلى طرف في الأزمة، فالمسألة ليست صراعًا بين سائقي التكسي والشركات. سائق التكسي، في نهاية اليوم قد تدفعه الظروف الجديدة إلى ترك العمل على سيارة التكسي واللجوء للعمل في إحدى هذه الشركات كما يفعل بعض سائقي التكسي الآن، أو قد يؤدي الوضع الحالي إلى تراجع قيمة ضمان التكسي اليومي، والذي سيستفيد منه سائق التكسي. لذلك أعتقد أن المشكلة الحقيقية اليوم هي بين أصحاب التكاسي والشركات، أي بين رؤوس أموال صغيرة ومتوسطة تقليديّة الطابع من جهة وبين رؤوس أموال كبيرة وحديثة من جهة أخرى.

الأردن ليس استثناء. العديد من الدول التي دخلت عليها هذه الشركات واجهت نفس الأزمة، لكن المسألة تزداد تعقيدًا في الأردن بسبب ما يسمى بـ«طبعة التكسي». في الماضي لم يكن لطبعة التكسي قيمة، إذ كانت تصدر مجانًا عن هيئة تنظيم النقل البري وقبل ذلك من لجنة السير المركزية في وزارة الداخلية، لكن مع توقف الجهة الحكومية عن إصدار طبعات جديدة نتيجة لتضخم عدد التكاسي، تحوّلت الطبعة إلى سلعة يحدد قيمتها العرض والطلب، فوصلت قيمة الطبعة في عمان إلى أكثر من 50 ألف دينار، يحدث هذا على مرأى ومسمع الدولة ومن دون وجود أي جهة رقابية.

العديد من الدول التي دخلت عليها هذه الشركات واجهت نفس الأزمة، لكن المسألة تزداد تعقيدًا في الأردن بسبب ما يسمى بـ«طبعة التكسي»

نحن اليوم أمام مأزق كبير تتحمل الدولة وحدها مسؤولية حله، إذ يشعر أصحاب التكاسي بالخطر من قبل الشركات لسببين رئيسيين، أولا: إذا تراجع الدخل المتأتي من التكسي بسبب المنافسة مع هذه الشركات فربما يؤدي هذا إلى تراجع القيمة السوقيّة لطبعة التكسي. على سبيل المثال من اشترى خمس سيارات تكسي بقيمة 50 ألف لكل تكسي أي بمجموع ربع مليون دينار قيمة السيارات الخمس، يصبح مهددًا اليوم بخسارة عشرات آلاف الدنانير.

ثانيًا: قد تؤدي المنافسة بين التكاسي وهذه الشركات إلى تراجع قيمة ضمان السيارة اليومي في حال تراجع إقبال السائقين على العمل على التكاسي واللجوء الى الشركات التي تستطيع أن توفر دخلًا أفضل للسائق.

على الدولة، اليوم، التفكير بشكل جدي بإيجاد حلول عملية وسريعة من أجل تنظيم وحماية هذا القطاع من الضرر البالغ الذي قد يسبّبه بقاء الأمور على ما هي عليه اليوم. باعتقادي، أصبح من الصعب اليوم تنظيم هذا القطاع وتطويره دون جهة مركزية تكون مسؤولة بشكل مباشر عن هذا، نظرًا لتضخمه على مر السنوات الأخيرة. لذلك، لماذا لا يتم التفكير بأن تلعب مؤسسة سيادية، قد تكون الضمان الاجتماعي، دورًا في تنظيم هذا القطاع؟ وذلك من خلال استحداث شركة تابعة لهذه المؤسسة السيادية تعمل على شراء طبعات التكسي، وتكون هذه الشركة مسؤولة بالاشتراك مع هيئة تنظيم النقل ووزارة التنمية الاجتماعية عن تشغيل الفئات الأكثر احتياجًا لهذا النوع من الأعمال، كالفقراء وذوي الإعاقة والعاطلين عن العمل على هذه التكاسي كما طرح الصديق محمد عمر على صفحته على فيسبوك، مع ضمان حق الملّاك القدامى، ممن كانوا يمتلكون طبعة واحدة أو طبعتين، بالعمل على هذه السيارات. وتعمل هذه الشركة على إدخال التطبيقات الذكية إلى السيارات وإشراك كافة السائقين بالضمان الاجتماعي، وتختار مؤسسة الضمان الصيغة الأنسب لشكل العلاقة بينها وبين السائقين لتحقيق أرباح وعوائد مقبولة ومجدية للطرفين.

وجود هذه الشركة كجهة مركزيّة رقابية مشرفة على تطوير وتنظيم ومراقبة عمل هذا القطاع سوف يؤدي إلى إغلاق ملف «الطبعة» والآثار المترتبة عليه ورفع القدرة على المحاسبة ومراقبة عمل السائقين وتحسين أوضاعهم، والذي بدوره سوف ينعكس بالضرورة على الخدمة التي سيحصل عليها المواطن.

Leave a Reply

Your email address will not be published.