تدوينة

عن أصواتنا المُكمّمة: ما نفقده بفعل المنظّمات الدولية «الإنسانية»

الإثنين 16 كانون الأول 2019
أطفال سوريون يلعبون في مخيم الزعتري شمال الأردن. 3 كانون الأول 2016. تصوير خليل مزرعاوي، أ ف ب.

ما يزال من الصعب علي أن أنسى وجه الأم الأربعينيّة في إحدى جلسات النقاش الكثيرة التي قمت بها خلال عملي في «المجال الإنساني»، حين قالت خاتمةً مشاركتها لسيلٍ من المشكلات التي تواجهها: «إنت جيتِ هلأ وسمعتِ مشاكلنا، إذا ما رجعتِ وعملتِ شي، شو استفدنا منك إحنا؟». 

ولم أعُد.

هذا المقال ومقالات أخرى متاحة للاستماع عبر صفحات صوت.

لم تكُن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي شعرت فيها أنّني سَلَبتُ أحدهم صوته في نطاق عملي الذي كثيرًا ما كان يسلبني صوتي أنا أيضًا. كل ما كنت أريده قبل ثلاثة أعوامٍ من اليوم هو أن أجعل هذا العالم البائس أكثر احتمالًا، ودخولي إلى عالم المنظّمات الدولية «الإنسانية» كان لأجل ذلك. إلا أنّ شعوري الدائم بالعجز وقلّة الفعاليّة وغياب قدرتي على اتخاذ القرار زاد من شعوري بالبؤس. ثلاث سنوات؛ كم من تقرير كُتب، كم اجتماع، كم مؤتمر، كم طلب منحة، كم وعد لم يكتمل، كم حالة شعرت أمامها بالعجز، كم خرافة وتصوّر خاطئ عمّا يحتاجه مجتمعنا، كم تعريف مغلوط للتنمية، وكم صوت سلبته حقّه في أن يحكي عن نفسه، وكم مرّة سُلبت أنا صوتي.

اليوم بعد قضائي شهري الثالث خارج مجال المنظّمات الدوليّة، يمكنني أن أقول إن العمل الإنساني الذي تقوده هذه المنظمات بشكله الحالي يُجري بعض المشاريع التي قد تعود على المجتمع بالنّفع. إلّا أنّ السّؤال الذي علينا طرحه هو: ما الذي تُفقدنا إيّاه تلك المشاريع؟ 

ما أكتبه اليوم هو محاولة لتسليط الضوء على الأصوات التي تُفقد وتُكمّم في عالم المنظّمات الدولية. وهو محاولة لإيجاد صوتي عبر توثيق مجموعة من التأمّلات لأثر وجودي في تلك المساحة، التي أُقدّر محاولات من بقيوا فيها، وأقاوم أيّ تخلٍّ عن أصواتهم وأيّ سلبٍ منهم لأصوات غيرهم. 

العمل الإنساني كمجموعة مهام

كثيرون ممّن خالطتهم أثناء عملي في المجال الإنساني هم ناشطون سابقون في المجال التطوّعي والمجموعات الشبابيّة المجتمعيّة. فما دفعني ودفع الكثيرين غيري للعمل في المنظمات «الإنسانية» هو الشعور بالمسؤولية والرغبة في إحداث تغيير من نوعِ ما في المجتمع، إلا أن ما وجدته على أرض الواقع من مأسسة للعمل «الإنساني» سلبه وسلب العاملين به البُعد الإنساني. فما تفعله المنظّمات هو تحويل ذلك الدافع لوظيفة كما أي وظيفة، من الساعة التاسعة صباحًا حتى الخامسة عصرًا؛ وظيفة بمجموعة مهام عليك القيام بها وحدها، لتنتظر في آخر الشهر راتبك المرتفع مقارنةً برواتب معظم العاملين في البلد.

وممّا رأيت، فإنّ الراتب أصبح بحدّ ذاته دافعًا للعمل في هذا المجال، حتى بغياب الوعي الكافي بأحوال المجتمع الذي يتم العمل معه عن قرب، أو القضيّة التي تتم خدمتها. فالقضيّة التي تؤمن بها كعامل في المجال تتحوّل لوظيفة تحت مؤسّسة، ويصبح صوتك هو صوت المؤسّسة. فبمجرّد أن استلمت راتبك منها وارتديت هويّة تحمل شعارها، يصبح نقدها ومحاسبتها نوعًا من أنواع المقاومة غير المحبّذة. هناك مساحة من حرّية صوتك تُسلب بمجرّد ما ارتضيت تحويل إيمانك بقضيّةٍ ما إلى عمل. وكما تذكر أرونداتي روي في ضوء الأفكار ذاتها في مقالها «تحويل المقاومة إلى منظمات غير حكومية»: «المقاومة الحقيقية لها تبعات حقيقية، وليست بأجر».

في أروقة أفخم الفنادق، يتمّ الحديث عن أزقّة الزعتري والأزرق والركبان.

خلال عملي كان هناك عدد لا نهائي من الأوراق والتقارير والفواتير التي عليّ تسليمها وتوثيقها بعد وقبل أيّ فعاليّة مهما كانت صغيرة، ممّا كان يسبّب لي أحيانًا قلقًا لم يفهمه من حولي: «بسيطة. عبّي هاي الورقة، وهاتي الفواتير وجيبي توقيع مديرك. ما بدها إشي». جزء أساسي من المؤسسة «الإنسانية» هي بيروقراطيّتها الشديدة. لست بصدد تحليل الأسباب الدافعة لذلك، إلا أن كمّ الأوراق التي يترتّب على العاملين في المجال التنموي أن يقوموا بتحضيرها، في رأيي، تسلب العمل على الأرض قيمته، وتجعل منه همًّا، لأن المزيد من الخدمات يعني المزيد من الأوراق والتقارير والفواتير. كما أن كل تقرير يُكتب يعتمد بشكل كبير على المانح. كل مانح لديه قالب مُعدّ مسبقًا للتقرير، يحدد المعلومات المطلوبة، ممّا يسلب العامل على الأرض وبالقرب من الناس القدرة على التعبير بحرّيّة وعكس الصورة كاملة، ويُعطي صانع القالب سُلطة انتقاء المعلومات وتوجيهها. 

وممّا أدّت إليه مأسسة العمل الإنساني أيضًا أنها صنعت «بريستيجًا» معيّنًا حول العاملين في المجال الإنساني، وجعلت المساحات التي تُناقش فيها القضايا التي تحدث على الأرض بعيدة جدًا عن المكان الذي تحدث فيه. ففي أروقة أفخم الفنادق، يتمّ الحديث عن أزقّة الزعتري والأزرق والركبان. إضافةً إلى أنه كلّما علا منصبك في المنظمات، ابتعدتَ عن العمل على الأرض واقتربت من المكتب والتقارير والاجتماعات المحشوّة بالـ«كوفي بريكس». وهل من شيء أبعد من هذا عن العمل الإنساني، وأشدّ خنقًا لصوت العامل على الأرض؟ 

تكميم أصوات «المستفيدين»

عدا عن سلب أصوات العاملين في المجال الإنساني، فإنّ العمل الإنساني بشكله المؤسساتي والتجاري يسلب «المستفيدين» أصواتهم من أوّل مراحل أي مشروع يقدّم لهم حتى نهايته. فالسّؤال الأوّل والأهمّ الذي علينا طرحه في سياق أي مشروع يُخطّط له، هو تعريفنا للتنمية، وللمشاكل التي ينوي المشروع «حلّها». من يقرّر حاجات المجتمع والطرق التي تقدّم بها هذه الحاجات؟ في معظم الأحوال تُكتب طلبات المنح بناءً على ما يطلبه المانح، وكثيرًا ما تكون حسب «الموضة». وإن تمّ سؤال المستفيدين في تلك المرحلة، فإن الأسئلة عادةً ما تكون موجّهة، والإجابات تأتي على غرار ما اعتاده المجتمع من المنظّمات. 

إن كانت إحدى الثيمات الشائعة في العمل التنموي هي التوعية بأنواع العنف، فإن سلب المستفيد صوته في تحديد مشاكله وطريقة حلّها هو بحدّ ذاته عنف ممنهج.

وعادةً ما تكون الحلول، كما المشاكل، معلّبة مسبقًا. أذكر جيدًا في وظيفتي السابقة، حين كنت أعمل مترجمةً لجلسات علاج نفسي لضحايا التعذيب من اللاجئين، أن أحد الطرق التي كانت تستخدم كأداة للتفريغ النفسي كانت «التنفس العميق». كنت أرى رجالًا ونساءً كبار في السّنّ يُطلب منهم أن يفرّغوا ضغوطهم النفسية إثر الحرب عن طريق التنفّس العميق، ليخرجوا بعد الجلسات للركوب في المواصلات العامّة الضاغطة، أو التعامل مع مجتمع ينظر لهم نظرة دونيّة. وترجمت جلسات كنّا نعلّم فيها الأُمّهات كيفية التواصل مع أبنائهن دون عنف، في حين أن أكبر ضاغط وأكبر هم للأمهات هو توفير الدخل اليومي لهؤلاء الأطفال. أكاد أجزم أن كمية الاغتراب الذي يعانون منه بسبب المسافة بين ما نقدّمه كحلّ وبين ما يحتاجونه حقًا لتخطّي معاناتهم مهولة! فكما قالت إحدى «المستفيدات» تعليقًا على خدمات المنظّمات: «كل منظمات الدنيا بتعمل دعم نفسي، والمُستفيد بيقللك طعميني».

التنمية -كما أفهمها- عليها أن تنبع من أهل البلد لأهل البلد؛ أي تنمية عدا ذلك قد تؤذي أكثر ممّا تنفع. فكيف يمكن خلق أي تغيير في حال غياب الحقوق وأهمّها حق الإنسان في الحديث بالنيابة عن نفسه؟ إن كانت إحدى الثيمات الشائعة في العمل التنموي هي التوعية بأنواع العنف، فإن سلب المستفيد صوته في تحديد مشاكله وطريقة حلّها هو بحدّ ذاته عنف ممنهج.

سلبُ المستفيدين أصواتَهم لا يكون في تحديد نوع الخدمات وطريقة تقديمها وحسب، بل إن كتابة التقارير حول هذه الخدمات والمشاريع أيضًا تلعب دورًا في قولبة المستفيدين، كما مفهوم التنمية. فالتقارير التي تُكتب تُصور المستفيدين إما على أنهم ضحايا يحتاجوننا لإنقاذهم، كما في طلبات المنح، أو أبطالٌ تغيّرت حياتهم للأفضل بفعل برامجنا، كما في قصص النجاح بعد تنفيذ المشروع. أذكر جيدًا طلبات المنح التي كنت أمرّ بها والتي كانت تعيد خلق الصور النمطيّة عن الفتيات اللاجئات، اللاتي دائمًا ما كان يُفترض أن مشكلتهن الأولى هي الزواج المبكّر، في حين أنّ نقاشاتي الكثيرة معهنّ لم تكن تضع تلك المشكلة على رأس ما يواجهنه من تحدّيات. 

إضافةً إلى حرمان «المستفيد» من قصّته الحقيقية، التي تُروى بالنيابة عنه، فكثيرًا ما تُستخدم أجزاء من قصّته والكثير من صوره لإثبات عملنا للمانح. تحرص المنظّمات بشكل كبير على الحصول على موافقة «المستفيدين» قبل نشر الصور والقصص، إلا أنّ ديناميكيات القوى التي تحكم العلاقة بين المنظمات والمستفيدين ترسم إشارة استفهام على تلك الموافقة. وتلك الصور والقصص تُستخدم إمّا للحصول على منحة جديدة أو للإعلان عن عمل المنظّمة أو كجزء من تقرير للمانح، وكل ذلك البيع والشراء باسم المجتمع يجري دون إعطائه صوتًا حقيقيًا وكاملًا.

علاقة القوة بين «اللوكال» و«الإكسبات»

لو افترضنا أنك استطعتَ أن تتحمّل سلب صوتك كعامل في المجال الإنساني، وسلب صوت «المستفيدين» الذي قد يؤنّب ما تبقّى من ضميرك، فهناك صوت الأجنبيّ الأعلى من صوتك العربيّ والذي لن تستطيع إخراسه. فلمجرّد كونك عربيًا في منظّمة دوليّة ستكون «لوكال»، أي أحد المحليين. وفي الغالب سيحتلّ منصب مديرك أو مدير مديرك شخص أجنبي أو «إكسبات» راتبه أعلى من راتبك بكثير، وسُلطته في اتخاذ القرار أعلى من سلطتك بكثير. إضافةً إلى كونه محمّلًا في كثير من الأحيان بعدد لا بأس به من الصور النمطيّة عنك وعن أبناء جلدتك، وغالبًا ما يحمل عقليّة المنقِذ الأبيض، ربما بنيّة طيّبة، إلا أنّ الفكر الذي يحكم تصرّفاته مبني على رغبته في «المساعدة» و«التطوير» و«الانتشال» كما يرى هو ويريد.

إحدى أصعب تجاربي خلال سنواتي الثلاث في المنظّمات «الإنسانية» كانت مرافقة فتاة لم تتجاوز الواحد والعشرين من عمرها، أتت من بلاد العم سام في محاولة لتحقيق ذاتها وكتابة كتاب عن اللاجئات «بلسانهن». كنت أُترجم الحوار بينها وبين الفتيات، وكان عليّ رفض ترجمة الكثير من الأسئلة المحمّلة بالصور النمطيّة الجاهزة عن الفتيات العرب: «كيف تتزوّجون دون حُب؟»، «أبوكِ بيجبرك تتزوّجي؟»، «شو شعورك تجاه الحجاب؟»، «رح تكملي دراسة؟». طلبت منّي يومها أن أكتب رسالة للحجاب الذي أرتدي، ولم أدرِ لمَ عليّ أن أشرح لها أو لسواها ما ألبس وما لا ألبس، ولا كيف ارتأت أنّ من حقّها أن تطلب مني أو من الفتيات تبريرًا أو تفسيرًا لطريقة حياتنا.

عدا عن هذه النظرة، هناك أيضًا النظرة الدونية التي ننظر بها نحن «اللوكال» لأنفسنا. كنت أسمع تعليقات بين زملائي العرب عمّن يتحدّثون الإنجليزية بلكنة عربيّة منهم. وكنت أتعب جدًا من الاجتماعات التي نُجبر على الحديث بالإنجليزيّة ليفهم «الإكسبات» رغم أن معظم الحاضرين من العرب. ولا ندري لِمَ لا يُشترط على أي أجنبي يعمل في منطقتنا أن يتعلّم اللغة، كما يُتوقّع منا نحن إتقان الإنجليزية. الأسوأ من هؤلاء «الإكسباتس» هم «اللوكالز» الذين يؤدون دورهم كحلقة وصل بأن يعكسوا الصورة النمطيّة ذاتها، ويتحدثوا عن أبناء مجتمعهم بطريقة فوقية، يرددوا ما يريد «الإكسبات» أن يسمعه. فكعامل في المجال «الإنساني»، حتى تحافظ على بعض صوتك العربي، ستجد نفسك دائمًا في حالة حرب مستمرة للدفاع عن مجتمعك ودحض الصور النمطية عن نسائنا وعن تعليمنا وعن مجتمعاتنا. 

في محاولة إيجاد صوتي من جديد 

بعد ثلاث سنوات من محاولة العمل في المجال «الإنساني»، يمكنني أن ألمس بوضوح قدرَ تكميم الأصوات الذي علينا مواجهته ومقاومته. لست أدّعي بأي شكل من الأشكال أن هذه المنظمات وحدها هي المُكمِّمة لأصواتنا وفعاليّتنا في المجتمع، إلّا أنها مساحة تدّعي العمل «الإنساني» في حين تسلب الإنسان حقّه في إيصال صوته كما يريد هو له أن يكون. لذا، فالمؤكد أن العمل «الإنساني» بشكله الحالي يستدعي منّا إمّا حالة مقاومة يوميّة، أو التخلّي عن بعض إنسانيّتنا وأصواتنا لنستطيع متابعة العمل فيه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية