إيرلنغ هالاند: قصة حُبّ معاصرة

الأحد 05 آذار 2023
هالاند
إرلينج هالاند خلال لعبه في صفوف دورتموند في مباراة أمام هرتا برلين في أيار 2022. تصوير: إينا فاسبيندر. أ ف ب.

ترجمة بتصرّف لمقال نُشِر بالإنجليزية في العدد 24 من مجلة مونديال.

مثلكم، نحن مجموعة من الناس الذين وقعوا في حبّ كرة القدم في طفولتهم، وعلَّقوا الملصقات على جدرانهم، وبكوا عندما خَسِرَت فِرَقهم ومسحوا مخاطهم بأكمامهم؛ يجعلنا إيرلنغ هالاند نحبّ كرة القدم أكثر بقليل، بمجرّد أن نضع ولاءاتنا لأنديتنا جانبًا. 

لم يسبق أن أتى أيّ لاعب في مكانته إلى إنجلترا في هذه المرحلة من مسيرته الكرويّة، لكنّ ذلك لا يعني أنّه الأفضل، بل أنّه ببساطة وصل إلى تلك البقعة المحبَّبة تمامًا، ومن المثير أن يكون جزءًا من دورة الأخبار اليوميّة، خاصّة وهو يحظى بالكثير من المرح. 

صحفيًّا، ثمّة عمل لا بدّ من إتمامه؛ فنحن قطعًا ما نزال في بداية واحدة من المسيرات الكرويّة الأيقونيّة، التي تسير بإيقاعٍ سريع يهدِّد باختفاء أجزاء كبيرة منها وتحوّلها إلى مجرّد مدخلات بيانيّة. الآن، يبدو مكتمل التكوين، بجسده المنتفخ تحت قميصه الأزرق السماويّ، إلى درجة أنّكم لو رأيتموه يلعب سابقًا بقميص «نادي سالزبورغ»، فسيتوجّب التحقّق من أنّه كان فعلًا على هذا القدر من الصعوبة والجحشنة قبل ثلاث أو أربع سنوات.

من الصعب أن يكون هناك وقت نراه فيه يتوقّف عن تسجيل الأهداف، وستصبح تغطية صولاته وجولاته بمرور الوقت ثنائيّة ومختزلة. لذلك السبب، قرّرنا السفر إلى مدينة دورتموند الألمانيّة، لأنّنا أردنا الاحتفاظ بهذا الجزء من قصّته للأجيال المستقبليّة. دراسة أنثروبولوجيّة لواحد من العظماء. قصة حُكِيَتْ بينما الذكريات ما تزال في طور التشكّل، يحكيها أناس كانوا في الصفوف الأماميّة لمشاهدته وهو يخرج من شرنقته. 

هذه قصة أهداف، ذلك مؤكّد، لكنّها ليست قصة أرقام، بل قصة عن كرة القدم الحديثة، وعن شابّ تخلّى عن جمهوره، وعمّا يتطلّبه الأمر لتصبح أسطورة.

خليّة النحل الصفراء والسوداء 

أينما ولّيتم وجوهكم في دورتموند، تجدون اللونين الأصفر والأسود في يوم المباراة، وقد يكون ذلك بديهيًّا، لكن لم يسبق لنا أن رأينا عرض ألوانٍ مثل هذا في أيّ مكان في العالم؛ بعلامة تجاريّة أو من دونها، من الأحذية الرياضيّة المصنّعة خصيصًا، إلى جدائل الشعر، والرجل المسنّ في سترة صفراء وفرو أسود، إلى الملصقات في الحمّامات، والأكواب الملوّنة بألوان النادي، والسيّاح بأكياسهم البلاستيكية المنتفخة، وأوشحة المعاصم، وأوسع مجموعة ممكنة من سترات البدلات الرياضيّة على وجه الأرض. حتّى إنّ هناك سترة من الجينز بلا أكمام خيطت خصيصًا لتعكس تلك الألوان. 

جئنا إلى هنا لأنّنا أردنا النظر في أعين الناس عندما نسألهم الأسئلة، ولنحيط أنفسنا بهم ونغمر أنفسنا بالمكان الذي سمّاه إيرلينغ هالاند المنزل لسنتين ونصف.

كلّ نادي كرة قدم مهمّ لمشجّعيه، لكنّ ما لا شكّ فيه هو العلاقة العميقة ما بين نادي «بروسيا دورتموند» لكرة القدم، وما بين المدينة والمشجّعين. تشكّل منطقة وادي رور موطنًا لواحدٍ من أكبر حقول الفحم في العالم، منطقة صناعيّة كانت في الماضي حيويّة وتحتّم عليها أن تعيد إنتاج نفسها بعد أن عفا الزمن على تاريخها وتقاليدها. لكن أندية كرة القدم في تلك المنطقة ما تزال تشكِّل مصدرًا للاستمراريّة، مشيّدةً جدارًا بحريًّا ضدَّ تسونامي الزوال، ولذلك يكون يوم المباراة مهرجانًا. 

بدءًا من التاسعة صباحًا، يعجّ الميدان الرئيسيّ بالناس وهم يحملون أكواب البيرة الضخمة ويدخّنون السجائر العاديّة الكبيرة والسجائر الإلكترونيّة، ويستمرّون في ذلك حتّى وقت طويل بعد صافرة النهاية. سيكون منصفًا وصف المدينة بمدينة كرة قدم؛ فإن كان النادي يشكّل قلب المدينة، فالناس هم روح النادي والعكس صحيح. إنّه مكان يستطيع منحك شعورًا جيدًا حول العالم، وهذا كلّه ونحن لم نطأ أرض الملعب بعد. 

حان الوقت لمقابلة جان، واحد من قلّة لم نرهم في ذلك اليوم يرتدون الألوان. وَصَلَ ويداه في جيبه، وعيناه الخبيرتان من خلف زجاج نظّارته تمسحان الجموع في الميدان. يجلس ويومئ برأسه. يعمل جان مع النادي، لكنّه اعتاد أن يحظى بمكانٍ بارز وراء المرمى، بارز جدًّا؛ في الخطّ الأماميّ والمركز. 

يشتهر «بروسيا دورتموند» بشراء وتطوير وبيع أفضل المواهب، وتحقيق الربح من وراء ذلك، لكنّ هالاند كان مختلفًا، فلم يكن مجرّد فتى موهوب سُرق من أكاديميّة ما. 

يقول جان: «قام ووالده آلفي، ووكيله مينو رايولا، بجولة عندما كان ما يزال في «سالزبورغ». ذهبوا إلى «نادي لايبزيج»، ومن ثم وصلوا إلى هنا. وقبل ذلك، أخطروا الإعلام الألمانيّ بنوع طائرتهم الخاصّة، ما مكّن الناس من تتبّع رحلتهم من سالزبورغ وحتّى عودتهم في المساء». 

يتوقّف جان لحظة ليرتشف اللاتيه، يميل قليلًا إلى الأمام ويكمل: «كنّا في حيرة من أمرنا! وتساءل: ما هذا؟! هل نحن أمام مسلسل تلفزيونيّ؟ كان حوله الكثير من الضجيج لأنّ أسلوب لعبه كان مذهلًا، لكن، بالنسبة لنا، كان ذلك الاهتمام الإعلاميّ زائدًا عن الحدّ». 

ربّما يستحق الأمر أن نقولها صراحة، لكن، ليس ثمّة العديد من الفتيان في التاسعة عشر من عمرهم، مهما بلغت موهبتهم، يتنقّلون بين أندية «البوندسليغا» بطائرة خاصّة رفقة والدهم لاعب كرة القدم النرويجيّ الدوليّ السابق، ووكيل رياضيّ خارق يشتهر بشراسته وقتاليّته.

هالاند سيأتي وتأتي الأهداف 

«قال الناس في وسائل التواصل الاجتماعيّ: ليس هناك مشكلة! هالاند سيأتي وسيسجّل هاتريك! كان الأمر مذهلًا»، يقول أولي هيسّي. 

يبلغ أولي اليوم خمسين عامًا تقريبًا، من حاملي التذاكر الموسميّة، ويرتدي قبّعة مسطّحة ووشاح «بروسيا دورتموند». كان مؤلّفًا وصحافيًّا عبقريًّا، ومحرّرًا لموقع «إيلف فغونديه» (11 Freunde)، ومؤلّفًا لا لكتابٍ واحدٍ فقط، بل لكتابين من أفضل كتب كرة القدم الصادرة هذا القرن.

سألناه عن أحداث 18 كانون الثاني 2020، حيث كان «بروسيا دورتموند» خاسرًا خارج أرضه في ملعب «أوغسبورغ»، بنتيجة 3-1، والساعة تشير إلى الدقيقة الـ53 من وقت المباراة. قال: «شعرت بحتميّة ما. شاهدت كرة القدم لوقتٍ طويل، ولم يسبق لي أن رأيت لاعبًا يدخل أرضيّة الملعب وهو فتى، وفي الوقت نفسه تعرف أنّه سيلعب بشكل جيّد». 

هالاند، بشعره الجانبيّ الرطب، استدعاه إلى المباراة مدرّبه لوسيان. يرتدي قميصًا أسودًا، تزيّنه نجمتا «بوندسليغا» صفراوتان على الصدر، وبعض التفاصيل الفضّيّة. هل بدا متوتّرًا؟ كلّا. يدخل راكضًا ويصرخ بالتعليمات الجديدة في وسط الضباب وبأصابعه الضخمة يعيد التأكيد عليها في حال لم يسمعه البقيّة. 

لن نبالغ إن وصفنا ما حدث بعد ذلك بواحدة من أعظم المباريات الافتتاحيّة في كرة القدم؛ فقد وصل هالاند، وأمسك بنادي «أوغسبورغ» من خنّاقهم، مثبّتًا إيّاهم على الحائط، وملقّنًا إيّاهم درسًا تقليديًّا في الإهانة والبهدلة. كان الهدف الأوّل صاروخيًّا بتسديدة من قدمه اليسرى مرّت من جانب الحارس، فيما الهدف الثاني كان بالكاد لمسة خفيفة مهّدت للنهاية؛ متابعًا تمريرة طوليّة من زميله جيو رينا، راكضًا بشكل منحنٍ، ملتهمًا الأرض من أمامه، قبل أن يوجّه الضربة القاضية للخصم المحطّم، بينما الأصدقاء يبتعدون والغرباء يهزّون رؤوسهم غير مصدّقين ما يحدث. 

يشدّه زملاؤه من قميصه ويعوون خلفه، يتحوّل وجهه إلى الأحمر مثل وجه جرو سمين بدا فجأة كأنّه لا يمكن إلّا ملاحظته، كأنّه يوشك على الانفجار بسعادة بالغة وهو يضاجع بعينيه المشجّعين المرتحلين وراء فريقهم ويداه ممتدّتان في الهواء. 

تمكّن هالاند لتوّه من تسجيل أوّل ثلاث تسديدات له في الدوري الألمانيّ. في الأسبوع التالي، دخل من الدكّة ليسجّل هدفين ضدّ «نادي كولن»، وفي الأسبوع اللاحق، سجّل ثنائيّة أخرى على أرضه ضدّ «نادي يونيون برلين»، وفي الأثناء، ينال جائزة لاعب الشهر في الدوري الألمانيّ وهو لم يكن قد لَعِبَ لأكثر من 57 دقيقة. 

أرسل تأثيره المزلزل صدى اهتزازيًّا عابرًا لـ16 ولاية فيدراليّة ألمانيّة، واجتاح مكاتب الأخبار وشاشات الهواتف الذكيّة في كلّ مكان. «كان مثيرًا، ذلك ما يمكن قوله»، ويكمل أولي: «هيمنة «بايرن ميونخ» كانت واحدة من المشاكل الّتي نواجهها، إضافة إلى بروز الدوريّات الأخرى على حساب البوندسليغا. لكن، خلال أسابيع فقط، كان المشجّعون يصلون من كلّ العالم إلى دورتموند لمشاهدته، وقد رفع ذلك من معنويّات الجميع، حقيقة وصول لاعب نجم لم يلعب لـ«بايرن ميونخ»». 

الطلقة التي تردد صداها

رغم كونها في الأصل سطرًا في قصيدة لرالف والدو إيمرسون، كتبها لتخليد بداية الثورة الأمريكيّة، إلّا أنّ عبارة: «الطلقة تردّد صداها في كلّ العالم»، قد أعاد الكتّاب والمذيعون الرياضيّون توظيفها منذ وقت طويل، لكن أيًّا من تلك التوظيفات لم يشبه استخدامها في وصف هدف إيرلنغ هالاند في مرمى «باريس سان جيرمان» يوم 18 شباط 2020. لم يسبق أن سُمِعَ صوت صاخب في حلبة رياضيّة يمكن أن يكون تمثيلًا مسموعًا للفعل وفاعليه ووجودهم بأكمله. «لن أنسى ذلك الضجيج أبدًا»، يقول جان ويضيف: «ثمانون ألف شخص، لكن، الضجيج عندما سُجِّلَ الهدف والتصفيق كان صاخبًا جدًّا». 

سبق لكم ورأيتم الهدف، سَمِعْتُموه، وشاركتموه، لكن إن أعدتم مشاهدته مرّة أخرى من كلّ الزوايا، خاصّة في فيدو صُوِّرَ من فوق علم الزاوية اليسرى يُظهِرُ لقطة لوجهه في لحظة التسديد، ستستطيعون، لو جمّدتهم الفيديو في اللحظة الّتي يلمس فيها الكرة، أن تروا اللحظة الّتي يتحوّل فيها من الفتى الأعجوبة إلى النجم الخارق؛ سترون عضلات وجهه الملتويّة وهي تحوّل وجهه إلى وجه قبيح وغاضب، بينما ترتفع ذراعاه إلى الأعلى في شكل يشبه وضعيّة ركلة الرافعة الشهيرة في فيلم «فتى الكاراتيه» (The Karate Kid)، كأنّهما جناحان هائلان يمدّانه بالتوازن الضروريّ ليكون قادرًا على زراعة اللغم عميقًا في مرمى «سان جيرمان». ومن ثمّ ينطلق الضجيج الهادر الصاخب المنعش. 

كذلك كان احتفاله طافحًا بالدلالات على ما فعله هدفه به وعلى مَنْ كان حقًّا؛ فقبل ثماني دقائق، عندما سجّل الهدف الأوّل، كانت لديه سرعة البديهة ليضع ساقًا فوق أخرى ويؤدّي وضعيّته البوذيّة الّتي كانت جزءًا من أداءٍ، وقد صُوِّرت وبَدَت جيّدة. 

هنا، وبعد دقيقتين من تسجيل نيمار لهدف التعادل، وبعد أن سجّل هدف الفوز، استلقى على الأرض وذراعاه ممدودتان وعيناه مغلقتان، فيما خدّاه منتفخان ويبدوان مثل منفاخ لهبٍ، وفي تعابيره خليط من سعادة قصوى وذهول ممّا حقّقه لتوّه. لم يكن في تلك اللحظة «المُختار»، بل فتى في الـ19 من العمر، مدفوعًا برغبة حارقة ليكون الأفضل، وقد فعل لتوّه شيئًا استثنائيًّا، ولا شيء من ذلك كان عاديًّا. 

يعترف جان أنّه كان متفاجئًا من الأثر الّذي تركه هالاند في أرضيّة الملعب، وفي الفريق وفي زملائه. يقول: «كنت مخطئًا بشدّة، لأنّه غيّر من طريقة لعبنا لكرة القدم، وكذلك من عقليّة غرفة تغيير الملابس، لأنّه بسبب درجة الاحترافيّة الّتي تمتّع بها؛ كان أوّل مَنْ يصل إلى أرضيّة التدريب يوميًّا، وكان لديه تأثير جيّد في اللاعبين الآخرين. مثلًا، قبل أن يصبحا صديقين، اعتاد جادون سانشو على لعب البلايستيشن ليلًا وربّما شرب بعض المشروبات الغازيّة، لكن بعد ذلك، سرعان ما أصبح يستيقظ في السادسة صباحًا ليركض حول البحيرة».

لو كانت هذه المقالة فيلمًا أو وثائقيًّا لحياة هالاند، لذهب المونتاج كما يلي: الانطلاقة، بطل جديد ينهب الأهداف عبر ألمانيا وأوروبّا، محدثًا ضجيجًا صاخبًا جدًّا، تتناقل اسمه عناوين الأخبار الرئيسيّة ويصرخ المعلِّقون باسمه، يربت زملاؤه على كتفيه الضخمين، فيما يتسلّق المشجّعون من كلّ الجنسيّات فوق بعضهم البعض ليتمكّنوا من مشاهدة الأعجوبة الثامنة في عالم كرة القدم. 

بعد ثلاثة أسابيع، خَسِرَ دورتموند مباراة العودة بنتيجة 2-0 في باريس، في مباراة لُعِبَت خلف الأبواب المغلقة، وكانت الأخيرة لهالاند لمدّة شهرين. 

اللعب دون مشجعين

لا يستغرق القطار من مركز المدينة إلى استاد «سيغنال إيدونا بارك» وقتًا طويلًا، ومسافة المشي القصيرة بين المحطّة وأرضيّة الملعب مفعمة بالحيويّة. وقد حوّل فيضُ اللونين الأسود والأصفر المتزايد الممتزج بكهرباء الحدث، وما عَنَاهُ لكلّ فردٍ ومجموعة، المكان إلى خليَّة نحلٍ ضخمة نابضة. 

ذلك كان في الخارج فقط، أمّا في الاستاد، فقد توجّب علينا الصعود بشكل حادّ إلى الأعلى، لنجلس في المدرّجات العلويّة يمينًا بالقرب من الجدار الأصفر، كان الأمر مذهلًا، وفي الأعلى، كان الجوّ صاخبًا جدًّا. إسمنت ومعدن، دَم ودويّ، ومشروبات متطايرة في الهواء. كان الاستاد الأعلى حضورًا في أوروبّا يضجّ سمعيًّا، وبصريًّا، وعاطفيًّا. والجدار الأصفر خلف المرمى، الّذي سمعتهم عنه الكثير، كان مذهلًا بالقدر الّذي حُكِيَ لكم عنه؛ بزئيره وشراسته، لكن، أيضًا بما يطالب به من عمل شاقّ ولعبٍ من أجل القميص ولأجل الفريق ككلّ. تلك طريقتهم في كرة القدم، طريقتهم في الحياة. 

تخيّلوا روعة أن تسجّلوا هدفًا أمام هؤلاء المشجّعين؛ تخيّلوا أن تكونوا مهاجمين في سنّ الـ19، وفي مباراتكم العاشرة من مسيرتكم الكرويّة مع «دورتموند»، وبعيدًا عن الضجيج من حولكم، والطائرات الخاصّة، والوكيل الخارق، تنالون الثقة وتسجّلون الأهداف لتحصِّنَوا نفسكم في قلب قاعدة المشجّعين هذه، ومن ثمّ، يتوقّف كلّ شيء. 

«[هالاند]، نِتاجُ كرة القدم الحديثة، وهو نتاجٌ جيّد لأنّه فعّال، لكنّه يمثّل كلّ ما هو جيّد وسيئ حولها».

«أنت بحاجة إلى رابطة عاطفيّة مع الشجّعين، وكوڤيد جعل ذلك مستحيلًا»، كما قال لنا أولي، فقلب الجدار الأصفر، الآلاف من المشجّعين، جميعهم أُفْرِغوا من الاستاد دفعة واحدة في مشهد يحبس الأنفاس. «المباراة الأولى بعد كوفيد في عام 2020 كانت مباراة الديربي ضدّ «نادي شالكة»، فُزنا 4-0، وقد سجَّلَ ولَعِبَ جيّدًا، وقد كان سيكون لاعب الجماهير المفضّل لو كانوا حاضرين (..)». 

مشاهدة تلك المباراة مرّة أخرى الآن تثير الكآبة، وكذلك العودة بالذكريات إلى مباريات التدريب تلك، الخالية من الروح الّتي جلسنا جميعنا وشاهدناها وسَمِعنا تعليمات المدرّب وقائد الفريق يتردّد صداها في الملعب الفارغ. كرة القدم من دون المشجّعين مملّة، وفي حالة هالاند، فقد حرمته تلك الفترة من فرصة تطوير علاقة أعمق مع المشجّعين في الوقت الصحيح. 

كلّ مَنْ كان له صلة بالنادي كان يعرِفُ أنّه سيغادر في يوم من الأيّام، ولم نكن سنظهر الشفقة لمليونير من طرازٍ عالميّ وبنية جسديّة استثنائيّة، لأنّه كان على ما يرام. لكن، وبعد توقّف كرة القدم في آذار 2020، لم يلعب إيرلنغ هالاند مرّة أخرى أمام استاد ممتلئ حتّى نيسان 2022. في بداية تلك الحقبة، كان الفتى الأعجوبة الذي أعلن عن نفسه أمام العالم، لاعبًا يقرّر أيّ نادٍ سيذهب إليه تاليًا، وخلال وقتٍ قصير سيكون قد انتقل إلى «مانشستر سيتي». 

إن 90% من مباريات هالاند وأهدافه [مع دورتموند] جاءت إمّا أمام عدد قليلٍ من المشجّعين أو من دونهم على الإطلاق. في إنجلترا كنا نرى اسمه يظهر بشكل متزايد في تطبيق (FotMob)، وأصبحت رؤيته في فيديوهات تويتر الّتي تُظهِرُ المدرّجات الفارغة محزنة بشكل لا يطاق. وفي دورتموند، كانوا يشاهدون من غرف معيشتهم اللاعبين وهم يحتفلون بأهدافهم فقط من باب الواجب. 

«استمرّ في التسجيل واستمرّينا في الفوز، لكن لم يكن هناك أحد ليشهد على ذلك»، يقول أولي. «وذلك مخيّب لأنّه اندمج باللعب فعلًا، عندما كان ليفاندوفسكي هنا لم يكن لاعب المشجّعين المفضّل، كان رائعًا لنا، لكنّ الأمر كان عملًا بالنسبة إليه. لكن لهالاند شخصية تتسرّب إليك، مُعْدية، حتّى مع معرفتنا الدائمة بأنّه في النهاية سيُباع إلى أندية أخرى يمكنها تحمّل نفقاته». 

«أتذكّر واحدة من المباريات الأولى بعد عودة المشجّعين، ولم يكن مسموحًا إلّا بسعة 20% من المدرّجات، أو شيء من هذا. شاهدته وهو يخرج من غرفة تغيير الملابس ويقطع راكضًا أرضيّة الملعب نحو المدرّجات ليرى الناس، لقد أراد أن يلعب من أجلهم». 

يكوِّن المشّجعون علاقات مع لاعبي كرة القدم الذين يشاهدونهم على أرض الواقع بشكل منتظم لعدّة أسباب؛ فالأهداف، والتمريرات الحاسمة، والأداءات القويّة، ومعدّل العمل، واحترام العمل الجماعيّ، كلّها مهمّة بشكل بديهيّ، لكنّ الأشياء الّتي تراها بعيدًا عن الكرة أيضًا تساهم في تكوين تلك العلاقات. مثل غمزة لطفلٍ في المدرّجات، والحديث مع الناس عند زاوية الملعب، أو المشي نحوهم بعد صافرة النهاية لتقديم الشكر لهم. إنّه الجانب العاطفيّ الّذي يعني أنّ بمقدورك تقبّل الأمر عندما يفشل الجانب التقنيّ في بعض الأحيان. والعكس صحيح؛ فمشاهدة اللاعبين عبر التلفاز تجعل العلاقة تتمحور بشكل حصريّ حول الأداء. 

إن تمشّيتم حول «سيغنال إيدونا»، ستجدون العديد من جداريّات أساطير النادي المرسومة على الجدران الإسمنتيّة، ومنهم الظهير البرازيليّ الأيسر ديديه، الذي فاز بلقبي دوري يفصل بينهما عقد كامل، وكذلك المهاجم السويسريّ، ستيفان شابوسات، مهاجم فريق منتصف التسعينيات الساحر. 

مسيرة إيرلنغ هالاند مع النادي، المحسومة مقدّمًا، سواءً مع كوفيد أو من دونه، لم تكن أبدًا لتمنحه جداريّة. ومع ذلك، عندما طلبنا من المشجّعين الحديث عن الفترة التي قضاها هالاند مع النادي، كانت الإجابات في معظمها متشابهة؛ لم يكن لدى أحد شيء سيئ ليقوله عنه، كلّ الإجابات كانت حيويّة ومادحة، والجميع تحدّث عن صفاته الجسمانيّة، وعن أسلوب لعبه وهوسه بالأهداف. 

وجد أولي هيسي متعة طفوليّة في مشاهدته، يقول: «كأنّ ثمّة شعورًا أنّه مهما يحدث، حتّى لو كان يومًا سيّئًا، حتّى لو لم يؤدِّ الفريق بشكل جيّد، فسيجد طريقة أو أخرى لتسجيل الأهداف. وأعتقد أنّ 95% من الناس لم يكن لديهم في فريقهم لاعب مثله. لم يكن لديّ ذلك الشعور تجاه لاعب منذ أن كبرت عن أن أكون طفلًا يفكّر بكرة القدم بطريقة رومانسيّة». 

«عندما كنتم تلعبون كرة القدم في الشارع وأنتم أطفال، كان طبيعيًّا أن يكون هناك الطفل الأفضل من الجميع بمراحل، إن كانت هناك مشكلة فما عليك إلّا التمرير له وسيسجّل هدفًا». 

علاقة حب

من الدلائل على احترافيّة هالاند أنّ أداءه لم يكن متفاوتًا خلال الوقت الّذي قضاه في وادي رور. كان رجل الأهداف في كلّ مباراة لعبها خلال موسمين ونصف، وحصيلته المتمثّلة بـ86 هدفًا في 89 مباراة، عَنَتْ أنّه استمرّ في فعل ما كان يفعله في «نادي سالزبورغ»، واستمرّ في فعله، في الوقت الّذي كُتِبَتْ فيه هذه المقالة في كانون الأوّل 2022، في إنجلترا. وقد استمرّ في فعله مع منتخب النرويج، ونأمل أن يكون قادرًا على التمتّع بجمال بطولة «كأس العالم» خلال عقد أو شيء من هذا. 

لكنّ هذه القصة لا تدور حول الأرقام، بل هي حكاية شابّ يسير في طريقٍ مقرّر سلفًا. سألنا جان كيف تعامل نادٍ ينتمي تقليديًّا للطبقة العمّاليّة وجُبِلَ على الصفقات الجماعيّة، مع وهج الإعلام العالميّ والتركيز على الفرد. «أعتقد، قبل أن يأتي إلى «دورتموند»، كان لديه مليونا متابع على «إنستغرام»، وعندما غادر كان لديه 50 أو 60 مليونًا. وبذلك كان واحدًا من النجوم العالميّين الأوائل الّذين لعبوا لنادينا. كان علينا تعلّم الكثير، لأنّنا لسنا معتادين على امتلاك هذا النوع من النجوم في «دورتموند»، لا في المدينة ولا في النادي».

«هناك وقت كان فيه أكبر من النادي في الإعلام؛ إذ يمكن لماركو رويس أن يسجّل هاتريك خلال فوزٍ ولن ينال تغطية إعلاميّة. أمّا لو سجّل هالاند ثنائيّة خلال خسارةٍ، فسينتشر الخبر حول العالم». «وسيقول الناس في المدرّجات: «إيرلنغ! أنت لست أكبر من النادي! فالنادي أكبر شيءٍ في العالم بالنسبة لنا في المدرّجات»، وقد يكون ذلك عديم الحساسيّة قليلًا، لكنّه كان اتفاقًا جيّدًا لكلا الطرفين. لقد أتى مهاجمًا نرويجيًّا من الدوري النمساويّ، وأصبح الآن نجمًا عالميًّا». 

عمومًا، يشبه الوقت الّذي قضاه هالاند في دورتموند العلاقة العاطفيّة التي من المرجّح أنّنا جميعًا كنّا في واحدة مثلها من قبل. لم يكن الحبّ الأوّل الّذي يفطر القلب ولا يستطيع المرء تجاوزه رغم ما يقوله لنفسه، ولم تكن مسألة «علاقة معقّدة» بدأت بطريقةٍ خاطئة وانتهت بطريقة مريعة بانفصال مجموعة أصدقاء إلى اثنتين وبعض السلوكيّات البغيضة على الإنترنت من قبل الأقارب. في الجوهر، كانت علاقة لليلة واحدة، لكن مطوّلة قليلًا، من النوع الذي عادة ما ينتهي بسرعة بمجرّد أن يرغب أحد طرفي العلاقة بالمزيد منها، أو أن يظهر شخص آخر يمكنه أن يقدّم علاقة أكثر إرضاءً وإشباعًا من الأولى. 

تصادفت مباراته الأخيرة للنادي، في أيّار 2022، مع مباراة مارسيل شميلزر، الظهير الأيسر الذي لعب مسيرته الكرويّة بأكملها مع «بروسيا دورتموند»، لكنّه قضى المواسم الأخيرة يعاني من الإصابات وغير قادر على اللعب. نال هالاند وداعه، لكنّ شميلزر لَقِيَ وداع الأبطال، حيثُ ودّعه المشجّعون بالدموع وهم يغنّون اسمه ويُظْهِرون الوشوم الّتي حملت صورته. 

«ليست قصة رومانسيّة»، يقول جان، «سيفوز بالعديد من الألقاب، لكنّ قصّته مع النادي ليست من نوع القصص الرومانسيّة الّتي ستخبرها لأولادك وبناتك بأنّ إيرلينغ هالاند لعب لنادينا. ربّما سيحظى بعشر سنواتٍ جيّدة مع «ريـال مدريد» ويصبح أسطورة هناك ويقول لي: «جاني، هذا أهمّ بكثير من ناديك اللعين في ألمانيا». 

«[هالاند]، نِتاجُ كرة القدم الحديثة، وهو نتاجٌ جيّد لأنّه فعّال، لكنّه يمثّل كلّ ما هو جيّد وسيئ حولها».

ما تزال هيئة المحلّفين منعقدة لتبتّ فيما إذا كان إيرلنغ هالاند سيعتزل أسطورةً للجميع دون أن يكون بطلًا لأحد، أو إن كان سيكون اللاعب الذي يتغنّى الناس باسمه بعد رحيله بوقت طويل، ونعتقد أنّ معرفة ذلك في حدّ ذاتها ستكون ممتعة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية