كان التاسع من كانون الأول 2022 يومًا فاصلًا في مسيرة بعض لاعبي التايكوندو المشاركين في النسخة الأقوى من بطولة الجائزة الكبرى (Grand Prix). وفي حلبة الصالة الخضراء بالرّياض في السعودية، بدأ كل لاعبٍ التحضير لخوض ثلاث مبارياتٍ، سيتأهل الفائز بها للمنافسة في اليوم التالي على الميدالية الذهبية، ثم ستنهمر النقاط عليه رافعةً تصنيفه العالمي.
في غرفة الإحماء، كانت لاعبة المنتخب الأردني جوليانا الصادق تستعد لخوض المباراة الثالثة الأكثر شراسةً، بعدما فازت سريعًا باثنتين. وبينما كان شقيقها يزن؛ بطل العالم سابقًا في التايكوندو للناشئين، يساعدها في تمارين الإحماء ويسدي لها النصائح حول تكنيكات اللعب، كان والداها في عمّان يشاهدانها عبر الإنترنت، فيما التوتّر يسيطر على والدها من المواجهة مع روث غباغبي، لاعبة ساحل العاج المعروفة بقوّتها الجسدية.
كانت غباغبي قد حرمت جوليانا سابقًا من الفوز في مباراة مهمة في أول مواجهة بينهما، لذا استذكرت جوليانا ما أمكنها حول طريقة لعب منافستها، ثم دخلت الحلبة مبتهجةً تقول لنفسها إن هذا اليوم هو يومها. لكن، ما إن انطلقت المباراة حتى وجّهت لها غباغبي أول ركلة، فاتخذت جوليانا موقعًا دفاعيًا، ثم في 10 ثوانٍ فقط ردّت بهجومٍ معاكس. «بدايةٌ عظيمة، وعنيفة بعض الشيء»، يقول المعلّق بحماسة.
خسرت جوليانا الشوط الأول من المباراة بفارق نقطتين، ثم فازت بالشوط الثاني بفارق نقطة واحدة، فكان لا بد من شوطٍ ثالثٍ فاصل، فازت فيه جوليانا بفارق تسع نقاط هذه المرّة. لم يكن ثمة أفضل من هذه النتيجة لتحتفل بها في ذكرى ميلادها الـ28 الذي يصادف اليوم نفسه.
في اليوم التالي، بحماسةٍ واندفاعٍ كبيرين، ستواجه جوليانا منافستها الصينية مينجو التي تتمتع بمرونة وسرعة عاليتين، ويزيد طولها بثمان سنتيمترات، لذا ستعتمد جوليانا على الهجوم وتقليل المساحات أمام مينجو وتوجيه اللكمات التي تتطلب اقترابًا من الخصم. هكذا، نالت جوليانا الميدالية الذهبية في شوطين فقط بعد أن قدمت أداءً ذكيًا بحسب المعلقين على المباراة، وحصدت كذلك مئة نقطةٍ رفعتها من الترتيب السادس إلى صدارة التصنيف العالمي لمن هنّ تحت وزن 67 كغم، لتكون بهذا أول عربيّةٍ تحتل هذا الموقع.
جوليانا الصادق خلال التدريب
من باحة المنزل إلى تصفيات الأولمبياد
أواسط السبعينيات، كان فؤاد الصادق، والد جوليانا، متأثرًا بممثل الفنون القتالية الصينيّ بروس لي، ولمّا سمع وهو في الـ15 من عمره آنذاك أن مدربًا كوريًا جاء إلى عمّان لافتتاح أول نادٍ للتايكوندو في منطقة راس العين، صار يذهب إلى النادي لمشاهدة التدريبات في الساحة، فأحبّ اللعبة وبدأ تعلّمها وممارستها عام 1980 في نادي جبل عمّان للتايكوندو. وإن كان درس شبكات الكمبيوتر وعمل في هذا المجال، إلا أنه سيتفرّغ لتدريب التايكوندو بعد تقاعده عام 2005، لكنه قبل ذلك سيتزوج وينجب ويسعى جاهدًا لتعليم أولاده يزن وجوليانا وأنس وجوانا اللعبة، رغم أن والده لطالما قال له «إنه الرياضة ما بتطعمي خبز (..) بس أنا كنت مصمم أطلع أولادي أبطال عالم».
في باحة المنزل وضع فؤاد أعمدة التدريب والإطالة، وشرَع في تدريب الابن الأكبر يزن وشقيقته التي تصغره بعام ونصف جوليانا. يتذكّر فؤاد المنافسة بينهما في تمارين الإطالة والوقوف على اليدين، قائلًا إن جوليانا وهي لم تتمّ الخامسة من عمرها بعْد لم تستسلم لأخيها رغم ألمها الشديد أحيانًا: «يعني تبكي، تبكي من الوجع ولا ترضى إنه أخوها يفوز عليها».
وما إن أتمت خمسة أعوام، حتى سجّلها والدها في في نادٍ لتدريب الجمباز ليعزز لياقتها قبل أن تبدأ مشوارها في التايكوندو. وفي أول مرّة لها في النادي، جعلها مدرب الجمباز تعلّق نفسها في الهواء ممسكة أحد الأعمدة بيديها، وبدا خائفًا عليها أن تسقط، «وقعوا كل البنات وظلّت هي، وتطلع عليّ وأشجعها من المنصة، ظلت أكثر من نص دقيقة»، يقول فؤاد.
تدربت جوليانا الجمباز بانتظام لثلاثة أعوام، وكانت خلالها تشاهد شقيقها يزن يتدرّب التايكوندو، ثم في يوم أخبرت والدها أنها تريد لعب التايكوندو على غرار يزن: «بالأول كنت أروح أتسلى، بعدين صرت أشوفهم يلعبوا قتال صار بدي ألعب قتال»، تقول جوليانا. فسجّلت في النادي الذي سبق وتدرّب والدها فيه؛ نادي جبل عمان، وقد كان البيت مهيأً للتدريب أيضًا فكل ألعابهم للحركة والتمارين، حتى إن الوالد وضع ماسورة وكيس ملاكمة داخل غرفتهم للتمرينات خلال فصل الشتاء.
تذكر جوليانا أن والدتها كانت تمنع بشدّة استخدامهم القوة خارج المنزل، لكن جوليانا كانت تضع بعض الاستثناءات: «يزن أخوي لما كان صغير كمان كان ممنوع يضرب الأولاد، بس ييجوا أولاد يدايقوه أنا كنت أروح أدافع عنه (..) وأضربهم، بس بنات ما كنت أضرب لو إيش».
فؤاد الصادق والد جوليانا، وخزانة الميداليات التي حصدتها وإخوتها خلال لعب التايكوندو
عام 2005، وهي في سنّ الـ11 عامًا، حصلت جوليانا على الحزام الأسود، لكن بعدها بقليل برزَتْ عظمة في ركبتها، فأوصى الطبيب بتوقّفها عن ممارسة اللعبة، ورغم عدم اقتناع والدها بالتشخيص الطبي إلا أن جوليانا ابتعدت عن التايكوندو لثلاث سنوات ونصف، مارست خلالها -بانتظامٍ- السباحة فقط. ثم حلّ العام 2008، وحصد شقيقها يزن الميدالية الذهبية في بطولة العالم للناشئين، فأصابت الحماسة جوليانا: «حسيت إنه والله حلو، أخوي جاب بطولة عالم، معناته الموضوع مش مستحيل».
وبعد تردّدٍ لانقطاعها الطويل عن اللعبة، عادت للتمرّن على يد والدها في غابة مدينة الحسين للشباب. وبعد أيام رافقته إلى المنتخب لتسجيل يزن في إحدى البطولات، «حكولي ليش ما تسجلها تصفيات ناشئات؟»، وهكذا فعلوا. ورغم أنها لم تتدرّب كفاية إلّا أنها فازت في تصفيات منتخب الناشئين والناشئات لعام 2009، لتلتحق بالمنتخب ملتزمةً بتدريباته قبل البطولات الكبرى، فيما استمرّت بالتدرّب مع والدها في مدينة الحسين للشباب، إذ لم تكن تدريبات المنتخب آنذاك مستمرة على مدار العام.
في العام نفسه، حققت جوليانا أولى بطولاتها الخارجية محرزةً فضّية بطولة العرب، رغم ذلك لم تكن راضية عن النتيجة، وكانت تنزعج بشدّة من الخسارة، لكن مدرب منتخب الناشئات آنذاك، فارس العساف، بدّد إحباطها مشيدًا بلعبها. وهي تقول إن علاقة المدرّب باللاعب تؤثر على أدائه، وإنها لطالما تلقّت الدعم من العساف: «كان والدي يثق بتدريب كوتش فارس، والوقت اللي ما يكون فاضي يدربني يوديني عنده هو يدربني». علمًا بأن العساف كان مدرّب شقيقها يزن عندما حاز ذهبية العالم للناشئين.
في الأثناء، حاولت جوليانا التنسيق والموازنة بين اللعبة والمدرسة، لكنها توقّفت مرةً أخرى عن اللعبة خلال التوجيهي، ثم سرعان ما عادت إليها، وما إن أتمّت عام 2018 الثامنة عشر من عمرها حتى انتسبت إلى منتخب السيدات، وصارت كذلك طالبة في تخصص التربية الرياضية في الجامعة الأردنية، دون أن تؤثر اللعبة على دراستها: «كان ممنوع أغيب عن الجامعة» حتى تضمن عدم حرمانها من المساقات الدراسية في حال تغيّبت عن المحاضرات للمشاركة في البطولات الخارجية، وإن كانت اضطرت مرّة لتأجيل فصل دراسيّ من أجل التحضير لتصفيات أولمبياد ريو 2016.
ورغم استعدادها للتصفيات، والنضوج الملحوظ على أدائها بعد انتسابها لمنتخب السيدات، إلا أن خسارتها عام 2015 لمباراةٍ بفارق نقطتين فقط حالت دون تأهّلها للبطولة الأهمّ، وهي تعزو ذلك إلى قلة خبرتها آنذاك، «وقتها النتيجة زعلتني وكسرتني فعليًا». لتبتعد عن لعب التايكوندو من جديدٍ لمدة عامٍ ركّزت خلاله على دراستها الجامعية، فتخرّجت من الأوائل على دفعتها، كما عملت في مدرسةٍ خاصة للتربية الرياضية، ومدربةً في صالة ألعاب رياضية (Gym) في الوقت نفسه، حتى تبتعد ما أمكن عن التايكوندو.
صعودًا إلى القمة
مضى عامٌ قبل أن تتجاوز جوليانا الإحباط الذي أصابها، ثم لعبت عام 2016 في تصفيات المنتخب الوطني التي تؤهل اللاعبين واللاعبات للمشاركة في بطولات المنتخب، ففازت وعادت للمنتخب، لكنها كانت منذ فترة تشعر بتعبٍ وإرهاق شديدين، وصارت تفقد الكثير من وزنها، دون أن تعلم السبب، وهو ما قد يؤثر على مسيرتها الرياضية. وبعد تشخيص طبيّ، تبيّن إصابتها بفرط نشاط الغدة الدرقية، فباشرت العلاج، واستمرّت في اللعب، وإن كان أداؤها في بعض البطولات قد تأثّر سلبًا إلى حين استقرار حالتها.
في الفترة نفسها، كانت جوليانا تواجه صعوباتٍ في التأقلم مع أحد المدربين، ما تسبّب لها بضغط نفسيّ وعاد لها الإحباط مجددًا، حتى إنها فكّرت بالاستقالة من المنتخب، لولا أنْ والدها قد حثّها على عدم الاستسلام. وفي عام 2017، جاء لجوليانا خبر جيّد أشعرها بحماسة شديدة؛ مدرّبها فارس العساف صار مديرًا فنيًا ومدربًا للمنتخب.
حينها، لم تكن تصنيفات اللاعبين تؤهلهم لخوض بعض البطولات، ومنها بطولة الجائزة الكبرى (Grand Prix) التي تُقام أربع مرات في العام، ويُدعى للنسخ الثلاثة الأولى منها أول 32 لاعبًا في التصنيف العالمي، فيما يشتدّ التنافس على الوصول إلى النسخة الرابعة حيث يُدعى لها 16 لاعبًا فقط. لذا يتوجب على اللاعبين من أجل المشاركة فيها رفع تصنيفهم العالمي عبر المشاركة المستمرة في بقية البطولات وتجميع النقاط منها.
بدأت تدريبات المنتخب بالانتظام، فصار اللاعب يتدرب يوميًا لمدة أربع إلى خمس ساعات، دون انقطاعٍ خلال العام. وسعى العساف إلى رفع تصنيف جوليانا وزملائها، حتى وصلتها أول دعوةٍ للبطولة عام 2018 بعد وصولها للتصنيف 32 على فئتها في العالم. حينها، واجهت جوليانا المصنفةَ الأولى عالميًا وخسرت أمامها بفارق بسيط، ما دعاها لمراجعة أخطائها والعمل على تطوير أدائها. ثم في العام نفسه، وفي النسخة الثانية من البطولة، حصلت على البرونزية، لتكون بذلك أول سيدة أردنية تحصد هذه الميدالية.
جوليانا الصادق خلال التدريب
لقد كان العام 2018 فارقًا في مسيرة جوليانا، إذ انتسبت للأمن العام، أما رياضيًا فقد لعبتْ 11 مباراة كبيرة حصدت منها خمس ذهبيات وفضيّتين وبرونزيّة الجائزة الكبرى، فرفعت سقف أهدافها ساعيةً لتصير المصنفة الأولى على قارة آسيا من خلال مشاركتها في دورة الألعاب الآسيوية عام 2018، وهو ما حققته بالفعل عندما حصدت ذهبيتها الأولى في هذه البطولة، متفوقة بذلك على «أصحاب اللعبة» كما تقول.
كانت جوليانا قد التزمت بمشاهدة مبارياتها في المنزل، متمعّنة في أخطائها ومتعلّمة منها بدلًا من اتخاذ موقف سلبي من الخسارة، كما كانت تشاهد مباريات اللاعبين المميزين وتستفيد من طريقة لعبهم، وأبرزهم اللاعب الكوري لي داي هون، وهو أكثر لاعب تفضّل متابعته نظرًا لطريقة لعبه الممتعة وتكنيكاته الذكية. والعكس يحدث أيضًا، فقد التقت جوليانا بنجمها المفضل بعد حصولها على ذهبية آسيا: «وقتها حكالي إنه بحضرلي مبارياتي، وإنه مبسوط من أدائي»، ما أعطاها دافعًا قويًا وشعورًا بالسعادة والفخر بنفسها.
بعد أقل من عامين، في آذار 2020، وفيما كان أعضاء المنتخب الأردني، ومن بينهم جوليانا وشقيقها الأصغر أنس، يحزمون حقائبهم استعدادًا للعودة من معسكر تدريبيّ في روسيا، أعلنت الحكومة الأردنية إغلاق المطارات وبدء الحجر الصحي استجابة لانتشار فيروس كورونا، فعلقوا هناك لشهرين استمرّوا خلالها بالتدرّب يوميًا مع المنتخب الروسي. ثم لمّا عادوا إلى الأردن، قضوا فترة الحجر بالتمرين في مركز الإعداد الأولمبي، لحقها فترة تدريبية أخرى في أحد فنادق عمّان، حتى عادت الأوضاع تدريجيًا إلى سابق عهدها.
تعتبر جوليانا فترة الجائحة مثمرة بالنسبة للمنتخب: «كنا إحنا الفريق دايمًا واقفين مع بعض، ودايمًا بنشجع بعض (..) فهاد إشي عنجد بطلّع فريق قوي». ستنتهي هذه الفترة، ثم ستتأهل جوليانا لأول مرةٍ إلى الألعاب الأولمبية للمشاركة في أولمبياد طوكيو التي أقيمت عام 2021، وهي تتذكر احتفالات المنتخب بتأهلها، «شفت أخوي أنس مبسوط ومدمّع، فكثير تأثرت». لكن الحظ لم يحالفها هناك، وقد كانت -على عكس التجارب السابقة- راضية عن النتيجة، فهي مع الخبرة المتراكمة أدركت أن الهدف من اللعبة هو الاستمتاع بها: «هاي لعبة مفروض تخليني أنبسط (..) فصرت أنبسط وأتعلم من أخطائي».
ستحصل جوليانا أواخر 2022 على ذهبية الجائزة الكبرى، وتقف على قمة التصنيف العالمي ضمن فئتها، ما يجعلها مرشّحةً للتأهل مباشرةً إلى الأولمبياد القادم (باريس 2024) دون خوض التصفيات، وهو ما ينطبق على أعلى ستة لاعبين تصنيفًا في العالم عند نهاية العام 2023؛ أي أن عليها أن تحافظ على ترتيبها ضمن الستة الأوائل حتى نهاية العام الحالي، علمًا بأن الترتيب معرّض للتغيّر في أي وقت بحسب مشاركة اللاعبين في البطولات والفوز بها.
من ناحية أخرى، تحاول جوليانا الموازنة بين التايكوندو وحياتها الاجتماعية، قائلةً إنها تلمس الدعم الدائم من أصدقائها وإن كانت تغيب عن لقاءاتهم أحيانًا. فيما يساعدها أن التايكوندو اهتمامٌ مشترك لدى أفراد عائلتها، خصوصًا أن إخوتها الأصغر، أنس وجوانا، أعضاء في المنتخب أيضًا، وهم يترافقون يوميًا إلى التدريب، كما يسافرون سويًا في بعض الأحيان للمشاركة في البطولات الخارجية، قائلة إنها تحاول أن تساندهم وتخفف من توتّرهم قبل خوض المباريات.
تنوي جوليانا بعد أن تعتزل اللعب يومًا ما أن تكمل دراستها العليا في التربية الرياضية، وأن تؤسس مركزًا للتدريب على التايكوندو، وتعمل على نشر اللعبة خصوصًا بين الفتيات. لكنها ترى أنه من المبكر التفكير بهذا الأمر الآن، إذ إن كل تركيزها منصبٌّ اليوم على نيل ذهبية بطولة العالم القادمة، حتى تقترب أكثر من حلمها وتكون أول أردنية تتأهل مباشرةً إلى الأولمبياد دون تصفيات.