من الزرقاء إلى باريس: طريق عبد الكريم خطاب نحو الذهب

الثلاثاء 08 تشرين الأول 2024
عبد الكريم خطاب أثناء التدريب. تصوير مؤمن ملكاوي.

إنها المحاولة الثالثة، وضع المدرب وزن 270 كيلو أمام الحُكّام لينافس عليه لاعبه عبد الكريم خطاب (33 عامًا). وما إن ظهر الوزن الذي سيحاول رفعه على الشاشة؛ حتى تصاعدت هتافات الجمهور الحماسية. لم يكن خطّاب مضطرًّا إلى المحاولة الثالثة حتى، فقد ضمن مبكرًا ومنذ محاولته الأولى ميداليته الذهبية التي رفع فيها 240 كيلو.[1] 

كان خطاب واللاعبون الثمانية الآخرون يتنافسون في رياضة رفع الأثقال، ضمن فئة وزن تحت 97 كيلو، في بارالمبياد باريس 2024، وهي واحدة من أهم البطولات المخصصة لذوي الإعاقة عالميًا.

كلّ لاعب يضع وزنًا ينافس به زملاءه في المحاولة الأولى، ولدى كلٍ منهم ثلاث محاولات لرفع هذا الوزن أو زيادته. ترك خطاب مساحة هائلة بينه وبين أعلى وزن منافس له بزيادة 15 كيلو، حيث وضع أقرب منافس له 225 كيلو لبدء المنافسة، وكان يبدو لمن لا يعرف خطاب أنه يجازف بمحاولته الأولى. في غرفة الإحماء قبل بدء اللعبة، لامه البعض على اختياره وزنًا عاليًا للمنافسة في المحاولة الأولى. ولكن مدربه عيسى هلال كان يخطط لمنح لاعبه انطلاقة مريحة؛ وبهذا يترك المنافسين على مسافة بعيدة من الوصول إليه. كما أنه يعرف إمكانيات لاعبه الذي سبق وكسر أرقامًا عالمية لعدّة مرات، كانت آخرها قبل البطولة بثلاثة أشهر حين رفع 260 كيلو. لذلك لم يبدُ هذا القرار مغامرًا بالنسبة إليه ولمدربه.

في محاولته الثانية نجح خطّاب في حمل وزن 260 كيلو. يفعلها بسلاسة كما فعل في محاولته السابقة. ولا يزال محافظًا على تفوقه. تحدد صاحب الميدالية البرونزية؛ اللاعب الكولومبي فابيو توريس برفع وزن 228 كيلو عندما لم ينجح في محاولته الثالثة، وتلقائيًا ضمن اللاعب الصيني يي جيشونغ فضيته بفارق كيلو واحد عن منافسة الكولومبي. وكانت لديه محاولة أخيرة لرفع أوزانٍ أعلى وربما اللحاق بخطّاب ولكنه لم يُقبل على آخر محاولة له واكتفى بالفضية للفرق الكبير بينه وبين خطّاب صاحب الأفضلية.

أما خطّاب فتقدّم لرفع الأثقال في المحاولة الثالثة؛ كانت غايته كسر الرقم العالمي والبارالمبي المسجل باسمه برفع وزن يزيد عن ثلاثة أضعاف وزن جسمه. وبالفعل حقق رغبته وحصل على انتصاره.

احتفل خطّاب بحَمل مدرّبه على كتفه واشتدت تصفيقات الجمهور. في الوقت ذاته كان منزله في الزرقاء يعج بأقاربه الذين يتابعون المنافسة مباشرةً، وانهارت ابنته الصغيرة بكاءً فيما كان الجميع يحتفلون بصخب مع والده ووالدته.

صورة عبد الكريم خطاب تتوسط مجموعة من أبطال الرياضات البارالمبية على مدخل اللجنة البارالمبية

ليست هذه الميدالية الأولى لخطّاب، فقد خاض منافسة أشد صعوبةً في بارالمبياد طوكيو 2020، والتي أُقيمت في 2021 بسبب جائحة كورونا. وقتها تسببت الظروف التي عايشها اللاعبون في فترات الإغلاق الصحي وانقطاعهم عن التدرّب لفترات طويلة بتراجعهم بدنيًا إلى حدّ ما. حينها جلب خطاب أدوات التدريب من مقرّ التدريبات في الاتحاد الأولمبي وجعل من غرفة الاستقبال في منزله ناديًا رياضيًا، يتمرن فيه يوميًا بإشراف مدربه عبر مكالمات الفيديو.

ورغم عدم كفاية التمرينات، إلا أن عبد الكريم لم يتوقف يومًا واحدًا عن تفقد بريده الإلكتروني بانتظار تحديد موعد البطولة، التي استمرّ في التحضير لها أربع سنوات. إنها لحظة حاسمة في حياته، وفي حال نجح فيها فإنه سيحقق إنجازه البارلمبي الأول وسيحسّن كثيرًا من أوضاعه المالية، في وقت لم يكن لديه أي داعمين محليين بعد، ولم تكن المبالغ التي يتقاضاها هو وزملاؤه كبدلات للمواصلات من الاتحاد كافيةً حتى لوقود سيارته.

عند إعلان موعد منافسة طوكيو، نُشرت قائمة اللاعبين، وكان خطّاب ضمنها، متأهلًا للبطولة عبر حصوله على الترتيب العالمي الأول للمصنفين من وزنه آنذاك، وكانت تلك دفعة كبيرة ليتمسك بالمرتبة الأولى. وبالفعل رغم حدة المنافسة بين اللاعبين إلا أنه استطاع انتزاع الميدالية الذهبية آنذاك، لينطلق من تلك اللحظة نحو الاحتراف.

من تدريبات عبد الكريم خطاب في اللجنة البارلمبية

البدايات

لم تكن لدى خطّاب أحلام بأن يصير لاعبًا في رفع الأثقال، ولم يكن أي من أقاربه يحترف الرياضة. كان ملتزمًا بمدرسته وحسب. وعندما كان في الثالثة عشر من عمره، افتُتح نادٍ لرفع الأثقال بالقرب من منزله، فارتاده عدّة أيام قبل أن يتركه. تحدّث مسؤولو النادي مع والديه عن معسكر تدريبي لذوي الإعاقة في الولايات المتحدة، سافر معهم خطّاب عشرين يومًا، وبعد رجوعه لم يعد إلى النادي مرّة أخرى، إذ لم يكن مهتمًا بهذه الرياضة مطلقًا.

عندما بلغ خطاب من العمر 15 عامًا، لم يعد راغبًا بإكمال تعليمه، وتوجه نحو تعلّم حرفة صياغة الذهب، وبالفعل توظّف في شركة تعمل في هذا القطاع. لكن بعد عامين ترك العمل وعاد إلى نادي رفع الأثقال. كان مبتدئًا، وغير معني باللعبة تمامًا، إذ كان يرى أن اللعب في النادي وحده دون تميّز لن يؤدي إلى مستقبل ما، ولأنه كان فضوليًا، ظلّ يسأل عن طريق الاحتراف، وما الذي سيمكّنه من الانضمام إلى منتخب رفع الأثقال في الاتحاد الأردني البارالمبي. تقدّم خطّاب لاختبارات الاتحاد فلم يتعدّ الوزن الذي رفعه 70 كيلو، وهو وزن لم يكن يغري بقبوله في الاتحاد، لكن الأخير وافق على شرط انضمامه على حسابه الخاص، أي دون أي بدل مالي.

«بده يمشّي الكل عكيفه»، هكذا يصف والد عبد الكريم شخصية ابنه المشاكسة والعنيدة والذي كان منذ الصغر يتخذ قراراته الخاصة. «وهو صغير، لو بدي أشتريله تياب، ما يحب، نوخذه معنا عالسوق. وهو ينقي أواعيه» تقول والدته.

قبل التاسعة من عمره لم يكن بمقدور خطّاب المشي، فقد وُلد مع إعاقة حركية وكان يستخدم إثرها كرسيًا متحركًا، أو يستخدم يديه للمشي، لكن هذا لم يقلل يومًا من نشاطه وحركته، «وهو صغير ما نلاقيه إلا يتشعبط بإيديه للطابق الثاني، الجيران ينادونا الولد ليقع» ورغم قلقهما من مغامراته الدائمة إلا أنهما لم يرغبا يومًا بتقييد حريته.

حتى ذلك العمر لم يتوقف والداه عن زيارة الأطباء لمعالجة ابنهما، الذين أوصى معظمهم ببتر قدميه. لكن والدة خطاب كانت ترفض هذا الخيار. حتى تحدث لهما طبيب عن حلّ سيمكّن ابنهما من المشي، وهو الطبيب الذي تابع حالته منذ ولادته. وكان الحل يقوم على فكرة إجراء مجموعة عمليات لخطّاب ستمكّنه من المشي ولكنها لن تمكنه من ثني رجليه، وهو أمرٌ مثّل للعائلة حلًا أفضل من البتر بكل تأكيد.

لوح يسجل عليه عبد الكريم الأرقام القياسية التي حققها أثناء التدريب

في عام 2011 حصل خطّاب على وظيفة في المجلس الأعلى لذوي الإعاقة، إضافةً إلى انتسابه للاتحاد. ليقرر حينها الزواج، ورغم أن أوضاعه المادية لم تكن لتؤهله لهذه الخطوة بعد، إلا أنه تزوج بدعم أهله وعمره 21 عامًا.

عندما انضم إلى الاتحاد كان مجرّد مبتدئ لا يقوى على رفع أكثر من 70 كيلو، لكنه نظر إلى زملائه في الاتحاد، الحاصلين على ميداليات بارالمبية وعالمية، مثل معتز جنيدي وعمر قرادة فاتخذهم قدوة. 

 يقول عبد الكريم إن كثيرين أخبروه بأن يديه الطويلتين تمثلان عائقًا أمام تفوقه باللعبه، ما كان يحبطه أحيانًا. «إحنا فعلًا بنختار اللاعب اللي إيديه أقصر» يقول هلال، ولكنه يوضح أن خطّاب يعدّ حالة استثنائية في هذه الرياضة، حيث يشير إلى أنه لم يجد تفسيرًا للقدرة التي يمتلكها لاعبه في الوصول إلى أقصى قوة ممكنة، خلال فترات زمنية قصيرة، ليستمر في تحطيم أرقامه القياسية في منافسات متتالية، في الوقت الذي يصعد ويهبط أداء الرياضيين الآخرين في المنافسات المتقاربة.

ولأن تطوره كان سريعًا، بدأ يظهر جليًا أمام الفريق أن خطّاب سيكون منافسًا شرسًا، وذلك بعد فوزه بذهبية دورة الألعاب البارالمبية الاسيوية عام 2014. تقول زوجته روان إن هذه المنافسة كانت نقطة تحول في نظرة زوجها للعبة، فقد أصبح بعدها أكثر التزامًا بحضور التدريبات، ومؤمنًا بأنه سيتمكن من الحصول على ميداليته البارالمبية الأولى في بارالمبياد ريو دي جانيرو في 2016، واضعًا هذا الهدف نصب عينيه، والذي كان سيغيّر من حياته رياضيًا وماديًا.

حتى أولمبياد ريو 2016 كان راتبه من المجلس الأعلى لذوي الإعاقة إضافة إلى بدلات المواصلات من الاتحاد لا يكفيه وعائلته. «كنت أغلب الأيام آخد دين من أمي من أخوي.. عشان أروح التمرين»، وكانت عائلته داعمة له من هذه الناحية. يشير هلال إلى أن المشاكل المادية تمثّل عائقًا حقيقيًا، إذ يحرم الكثير من اللاعبين البارعين الآخرين من الالتزام بالرياضة.

تأهل خطاب للبرازيل عبر تصنيفه العالمي المتقدم وكان حينها ضامنًا للفوز بالذهبية، لكن عند وصوله للحلبة فشل في تحقيق أية رفعة ناجحة، وكان هذا الفشل بمثابة الصفعة التي تلقاها بعد سيل من الطموحات. «ما بعرف شو صارلي» يقول خطّاب، الذي شعر كأنما سُحبت منه قوته: «كنت برفع 200 أو 230 [كيلو] عادي. على 215 [كيلو] ما طلعت معي.. فجأة هيك».

اليوم يفهم عبد الكريم أن هذه هي حال الرياضة، لكنه يومها لم يتقبّل الخسارة، ولأول مرة منذ نحو أربعة أعوام  «عطلت عن التمرين شهرين أو ثلاثة وصار عندي شوية زعل». لم يكن ينوي التوقف عن اللعب تمامًا، لكنه احتاج إلى دفعة ما. ووقتها أقنعهُ زملاؤه بالعودة، فرجع مرّة أخرى أكثر إصرارًا على الميدالية القادمة.

مدخل منزل عبد الكريم خطاب في الزرقاء، وميداليته الذهبية التي حققها في باريس

يعاني اللاعبون الأردنيون من نقص الموارد المالية، وهو ما يشكّل هاجسًا يعيش الكثيرون منهم معه. بعد فوزه بميدالية طوكيو 2020، حصل خطّاب على مكافأة مالية من اللجنة البارالمبية الدولية، وعلى بعض الداعمين. ولكن البدلات المالية من الاتحاد بقيت غير كافية.

سبق لعبد الكريم وزوجته أن ناقشا فكرة الانتقال للعيش في الولايات المتحدة، حيث يمكن له الحصول على فرص عمل أفضل في الرياضة هناك، خاصة وهو رب عائلة وأب لخمسة أطفال، يشجّعهم على تعلّم الرياضات القتالية، ولكنه يخشى عليهم من رفع الأثقال في سنّ مبكرة.  

يشير هلال إلى أن اللاعبين بحاجة إلى دعم أكبر من الدولة في حال عدم حصولهم على داعمين، ويرى أنه من غير المناسب أن يحضر الداعمون من الشركات وغيرها فقط عند تميّز اللاعبين، أمّا في حال تراجع أدائهم او تعرّضهم لإصابة ما، وهو أمر يحصل كثيرًا في رياضة رفع الأثقال، فإنهم يختفون.

يحمل عبد الكريم رقمين عالميين حاليًا في وزنين مختلفين، الأول حصل عليه العام الفائت، في وزن تحت 88 كيلو، حيث رفع 251 كيلو، ولم يكسر هذا الرقم بعد. إضافة إلى الرقم الذي حققه في باريس. وحاليًا يفكر في بارالمبياد لوس أنجلوس 2028، حيث يأمل مع مدربه أن يتمكن من كسر عتبة 280 كيلو. ووقتها ربما يفكر في الانتقال لتحقيق رقم قياسي آخر ولكن في وزن مختلف.

في منافسته الأخيرة في باريس، وبعد انتصاره الكبير ووسط هتاف الجمهور، خلع خطّاب قفازاته ورماها لأحد الجماهير. عادة ما تشير هذه الحركة إلى فكرة الاعتزال، إلا أن عبد الكريم يشير إلى أنه لم يقرر إن كان سيفعلها قريبًا. «ممكن أعتزل وأنا بالقمة، وارد. ممكن أو أكمل للوس أنجلوس وبعدين أعتزل».

يفكر خطّاب بخياراته في حال قرر الاعتزال منذ الآن، ويقول إنه لن يترك المجال الرياضي، متوقعًا أن ينتقل إلى التدريب محليًا لو لم يسافر بمجرد توقفه عن اللعب. لكن ما يرفضه تمامًا هو خيار واحد: «إني أصل لمرحلة أصير أروح عالبطولات أجيب أخير (..) لأ معنديش. أول بطولة رح يصير هيك رح أبطل».

لوحة أعدها بعض معجبي عبد الكريم احتفاءً بإنجازاته.

  • الهوامش

    [1] الوزن الذي رفعه خطاب، جعل من إمكانية منافسة باقي اللاعبين له مسألة غير ممكنة، إذ جرت العادة أن يكون الفارق بين اللاعب ومن ينافسه فارقًا محدودًا، لكن خطاب هنا رفع وزنًا يزيد بـ15 كيلو عن أقرب منافسيه، ولذا كان قد ضمن، إلى حد بعيد، الميدالية الذهبية بعد المحاولة الأولى.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية