مع توقف كرة القدم حول العالم نتيجة أزمة كورونا، توقف عملُ الكثير من العاملين في هذا القطاع من صحفيين رياضيين، عمّال ملاعب، محللين ومذيعين ومتخصصين بالبثّ التلفيزيونيّ. وتوقفت معهم فئة المشجعين الذين يلاحقون الرياضة دوليًا ومحليًا. مؤخرًا عادت الدوريات الكبرى مثل الدوري الألماني لاستئناف اللعب من جديد. لكن قبل ذلك، كيف أمضى أكثر المشجعين ولعًا بهذه اللعبة وقتهم، وكيف يمضونه الآن؟
«بابا، ماما، يوفي»
يمرُّ مونديال كرة القدم العام 1986 المقام في المكسيك في ذاكرةِ المشجع الأردنيّ فراس إسعيد (39 سنة) كخيالات؛ إذ كان صغيرًا جدًا حينها، لكن المونديال الذي تلاه عام 1990، والذي عقد في إيطاليا، محفورٌ بذاكرتهِ جيدًا، فمن عنده بدأت مسيرته في متابعة كرة القدم العالميّة. أما فريقه المفضّل يوفنتوس الإيطالي، فقد بدأ ملاحقة أخباره ومتابعة مبارياته منذ لمع فيه اسم روبرتو بادجو، الذي لعب للفريق بين عامي 1990 و1995. هذه بدايات فراس في عالم متابعة كرة القدم، وعن سرّ بداية هذه الولع يقول: «لا أبوي إله بكرة القدم، ولا حدا من العائلة، هيك لحالها».
فراس واحدٌ من مجموعة مشجعين أردنيين لفريق يوفنتوس الإيطالي، يجتمعون بشكلٍ دوريٍّ في الأيّام التي يلعب فيها الفريق، في أحد المطاعم أو المقاهي في عمّان، على أن تؤخذ بعين الاعتبار أسعار المكان وسهولة وصول أفراد المجموعة إليه عند اختياره.
يسيطر نادي يوفنتوس على بطولات الدوري الإيطالي منذ العام 2011، ما جعل هذه اللقاءات تبدو وكأنها لقاءات للاحتفال المؤكد. لكن الوضع يختلف خلال مشاركة الفريق في بطولة دوري أبطال أوروبا، التي تتباين خلالها نتائجه.
دخلت هذه المجموعة حياة فراس منذ نهاية التسعينيات، حيث كان يدرس إدارة الأعمال في جامعة اليرموك بإربد، ويزور أهله في عمّان نهاية كلّ أسبوع. في تلك الأيّام لم يكن بعد معروفًا نظام الاشتراك في القنوات الرياضيّة المختصّة ببث المباريات، فكان فراس يتابع على الإنترنت مواعيد مباريات الفريق، وقبل المباراة بأيّام يجري الترتيبات. «الأحد في محل بالبلد، وسط عمّان [ببث مباريات] أطلع مساء ذلك اليوم من إربد بالمواصلات العامّة إلى عمان»، ليصل العبدلي، ومن هناك مشيًا إلى وسط البلد؛ يحضر المباراة، ومن ثم يعود مشيًا إلى العبدلي ليركب المواصلات العامّة مرّةً أخرى، ويعود إلى إربد حيث يسكن للدراسة. كانت هذه الرحلات تنتهي مع ساعات الفجر الأولى.
فراس إسعيد، مشجع نادي يوفنتوس الإيطالي
في الأسابيع التي لا يكفي فيها مصروفه الشخصيّ للذهاب في هذه الرحلة الطويلة كان يختار مقهى إنترنت في شارع جامعة اليرموك، وهناك يدخل في غرف دردشة مع مواطنين طليان؛ «أحضر المباراة كتابةً، ما بعرف شو المكتوب، بس أشوف [مكتوب] جوووول، أنط».
ومع أوّل راتبه تلقاه بعد تخرّجه من الجامعة وحصوله على عمل، يقول فراس «اشتركت بكل إشي رياضة، الجزيرة الرياضية، والشوتايم، وباقات كرة القدم. قبل (bein) سبورت». عمل فراس في عدة أعمال سابقًا مثل موظف في بنك قبل أن يستقر في العمل في نادٍ رياضي خاص باللياقة البدنية حاليًا.
تنتشر حول العالم روابط مشجعي النوادي الرياضيّة المكونة من مجموعة يجمعها الانتماء لفريق واحد، يعرف أعضاؤها بأنهم المشجعون الأكثر ولعًا بالفريق وبتاريخه وتفاصيل أخباره. في الأردن، بدأ فراس الانخراط في هذه التجمعات مع مشجعي الفريق أيّام المنتديات على الإنترنت، قبل أن يصبح مسؤولًا عن إحداها. بعدها صار التشجيع كل حياتهِ، ووفّرت له روابط مشجعي الفريق في الدول العربيّة والعالم علاقات عديدة امتدت حتّى أمريكا وأوروبا. «بكلّ مكان تتخيله فتح [التشجيع] المجال لعلاقات مخيفة»، ليتطوّر الأمر ويدخل في العلاقات الاجتماعيّة إذ كان شرطه في الفتاة التي سيرتبط بها «إنها تشجع يوفنتوس».
مع مرور الوقت، لم يعد الموضوع يتعلّق بمتابعة الفريق من خلف الشاشة، المباريات المهمّة كان يلزمها الحضور في الملعب، وهي عادة يقوم بها فراس بين الحين والآخر؛ إذ يسافر إلى إيطاليا لحضور بعض مباريات الفريق المهمّة.
في الأيّام القليلة التي تسبق مباراة الفريق يبدأ فراس التحضير؛ قراءة وضع الفريق الفنيّ، التغييرات على التشكيلة، اللاعبون المختارون من قبل المدرب لخوض اللقاء، حالة الإصابات في صفوف الفريق، ثم متابعة الفريق الخصم، من سيلعب منهم، أسلوبه في اللعب، حتّى أن الأمر قد يصل عنده لمتابعة آخر أخبار الرهانات على هذه المباريات. عند سؤاله كم يأخذ هذا من وقته قال: «كل الوقت».
بعد توقف كرة القدم في العالم بسبب انتشار وباء كورونا، يقول فراس «ارتحت شوي» إذ تُنهك هذه المتابعات أعصابه وتتسبب له تهيّج القولون العصبي، كل هذا «الشدّ العصبي الجميل» كما يصفه فراس توقف هذه الأيّام.
ألغيت بسبب توقف المباريات اجتماعات رابطة مشجعي الفريق في الأردن، وألغي معها المشوار المعتاد إلى قرية جنين الصفا في إربد، حيث كان يذهب بين فترة وأخرى للقاء «شباب بيشجعوا يوفنتوس». يتذكّر فراس المباراة الأخيرة لفريقه التي جمعته بفريق إنتر ميلان، قبل توقف الدوري، ويرفض أن يلفظ اسم الخصم فيها، كمشجعٍ مخلصٍ للفريق لا يرى مدعاةً للفظ اسم الغريم.
رابطة مشجعي اليوفي في عمّان
بعد كورونا، توصل فراس إلى بعض المتع الصغيرة التي لا تلبي متعة المباريات «أعشق القراءة عن اليوفي» يحفظ فراس تاريخ الفريق منذ تأسيسهِ، «بحضر يوتيوب بالليل قبل ما أنام، بفتح موبايل، [بحضر] مسلسل أو فيلم، بحضر شغلة، بس ما في إشي بعوض عن متعة مباريات اليوفي».
لا يتابع فراس هذه الأيّام أوضاع الدوري الإيطالي وموعد عودته المفترضة فحسب، إنما كذلك الوضع الوبائي والاقتصادي في إيطاليا، احتمالات إنهاء الدوري أو توقفه، تقارير صحفية عن عودة اللعبة ومن أصيب من اللاعبين في هذه الفترة بفيروس كورونا، كما يتابع تدريبات اليوفي التي تبث عبر موقعهم الإلكتروني. بات فراس يجلس مع ابنه أكثر من ذي قبل، وهو طفل يبلغ من العمر سنتين، يعرف من اللغة ثلاث كلمات: «بابا، ماما، يوفي».
في الملعب
«مع أنَّ المشجع يستطيع مشاهدة المعجزة براحةٍ أكبر على شاشة التلفزيون إلّا أنه يفضل أن يحجّ إلى هذا المكان حيث يمكنه أن يرى ملائكته بلحمهم وعظمهم». هكذا يصف الكاتب الأورغواني إدواردو غاليانو في كتابه الشهير «كرة القدم بين الشمس والظل» علاقة المشجع بملعب فريقه. وهو ما ينطبق على المشجع الأردني أحمد كريشان (31 سنة) إذ لا تقارن عنده متعة حضور مباريات كرة القدم في الملعب بتلك التي يشاهدها عبر الشاشات، لهذا السبب يُطارد فريقه الفيصلي في كل مكان. «منذ 2001 تقريبًا 90% [من المباريات] بحضرها في الملعب. ما بيمنعني غير السفر والمرض عن الحضور»، يقول أحمد.
تخرّج أحمد في جامعة الحسين بن طلال من قسم المحاسبة سنة 2011. بعد التخرّج، صار يُرتب برنامج حياته بناءً على برنامج المباريات؛ محليًا الفيصلي، ودوليًا فريق بايرن ميونخ الألماني. ليس وحدهُ، إنما ضمن مجموعة أصدقائه. «بنرتّب مع بعض، نطلع مع بعض، إذا كان في مباريات خارج المدينة في الرمثا أو العقبة بنرتب رحلة كاملة». لا يقتصر الأمر على الرحلات الداخلية، إنما كذلك خارجيًا، إذ يحضر أحمد مباريات الفيصلي الخارجيّة مثل المباراة الأخيرة التي واجه فيها فريق الأنصار اللبناني في بيروت، ضمن منافسات كأس الاتحاد الآسيويّ.
أحمد كريشان خلال حضوره إحدى المباريات
عند عودته من لبنان بعد مباراة الفيصلي مع الأنصار اللبناني، في شباط الماضي، كانت الأخبار تتوارد عن انتشار فيروس كورونا. «كنا متوقعين التوقف، بس [توقّعنا] أسبوع، أسبوعين، ثلاث» لكن التوقف طال «الفطبول كان مملي وقتك بشكل كامل سواء أكان بطولات محلية أو خارجي، إيش ما كانت طبيعة الدوري». سافر أحمد إلى أوروبا عدة مرات لحضور المباريات في الدوري الإيطالي أو الألماني.
عادت، السبت، 16 آذار، لكن بحذر وضمن شروط، مباريات كرة القدم في أوروبا إلى الملاعب، ولُعبت أولى هذه المباريات ضمن منافسة الدوري الألمانيّ، بين فريقيّ بروسيا دورتموند وشالكه، بلا جمهور تقريبًا، بعد فحوصات وحجر قبل المباراة بأسبوع داخل فنادق قريبة من الملعب. كما بدت احتفالات تسجيل الأهداف مضحكة على حدّ تعبير وسائل الإعلام الرياضيّة.
يقول أحمد إن هذه العودة لم تكن «بالشكل اللي تعودنا عليه، روح المباريات ما في». يبحث أحمد عن أشياء يشغل بها نفسه بعدما كان كل وقته ممتلئًا بالمباريات. «برجع لليوتيوب، بحضر مباريات قديمة، بحضر مسلسلات، لكن مش كثير، أنا فطبولجي بحت».
المتعة والوظيفة
أنهى توقف لعبة كرة القدم حول العالم وفي الأردن عدة وظائف للعاملين في هذا القطاع، من معلقين ومحللين وصحفيين، ومتخصصين بالبثّ التلفزيونيّ. «أنا صار لي 42 سنة بالإعلام الرياضي أول مرة بحياتي بشعر إني عاطل عن العمل»، يقول أمين عام الاتحاد الأردنيّ للإعلام الرياضي محمد قدري حسن، فقد تحولّت القناة الأردنية الثانية الرياضيّة التي يعمل فيها مع عشرات من المحررين والمحللين والمعلقين، إلى قناة تعليميّة تبث دروس طلّاب المدارس، وهي القناة التي تملك حقوق البثّ لمباريات الدوري الأردنيّ. ويعزي حسن نفسه بأنَّ ما جرى في القناة جرى في كثير من المؤسسات الإعلامية الرياضيّة في الوطن العربي والعالم.
وفقًا لأرقام اللجنة الأولمبيّة الأردنيّة يبلغ عدد العاملين في القطاع الرياضيّ لمختلف الرياضات 37 ألف عامل بين إداريين وحكّام ومدربين. يشكّل اللاعبون المحترفون 7% منهم والمدربون 16% والعاملون بالأندية الرياضيّة 27%.
المعلق الشاب محمد علي، الملقب بالشيكس (29 سنة) هو من بين العاملين في هذا القطاع، إذ يعمل معلقًا رياضيًا في إذاعة أردنية محليّة على المباريات في أوروبا، كما يعدّ برنامجًا رياضيًا فيها. بعد توقف الدوريات الكبرى في أوروبا التي كان يعلّق عليها الشيكس توقف عمله، وعاد لبيتهِ، لكنه لم يستطع ترك التعليق ومتابعة المباريات فلجأ إلى إنشاء دوريّاته الخاصة.
يجلس الشيكس في بيته، يفتح لعبة الفيفا، يضع تشكيلة من فريقين، ويبدأ اللعب، ليعيش ما فقده من متعة كانت تشكلها له مباريات الدوريات الأوروبيّة، إذ يحاكي في هذه اللعبة المباريات التي كان من المفترض أن تُلعب هذه الأيّام، لكنها توقفت، وكانت آخر مباراة علّق عليها ضمن مباريات دوري أبطال أوروبا بين أتلتيكو مدريد وليفربول.
بدأت كرة القدم في حياة الشيكس من مونديال 1998 المقام في فرنسا، بالتحديد من لقاء البرازيل والمغرب، ثم البرازيل وفرنسا «ورأسيات زيدان». هذه المباراة هي النقطة المفصلية في حياة الشيكس الرياضيّة كمشجع محترف.
الشيكس أثناء تعليقه على إحدى المباريات في إذاعة محلية
بدأ الشيكس متابعة وتشجيع الأندية الأوروبيّة بفريق مانشستر يونايتد الإنجليزي في البداية، ثم ريال مدريد موسم 2001/2002 وبعدها يوفنتوس؛ النادي الذي يقول إنه «يمثله». في تلك الفترة بدأ يحفظ تشكيلات ناديه المفضل والأندية المنافسة ويراقب بعض اللاعبين ويحفظ أسمائهم، وكان ينتظر يوم الجمعة لمتابعة الأخبار على القناة الأرضية المحليّة. أوروبيًا صار يشاهد ثلاث مباريات في اليوم، وبات يعمل بجد من أجل توفير النقود، «35 دينار تلو الـ35 دينار، حتى أصل الـ150 دينار من اشتراك الباقة الرياضية».
«دون كرة القدم أنا لا أساوي شيئًا» يقول الشيكس، الذي يرى أن لا متعة له سواها، وبسببها أصبح معلقًا وفتحت له آفاق المعرفة إلى ما خلف المحيطات، كما يقول. فبسبب الحاجة إلى رفد معلوماته أثناء التعليق، وفّرت كرة القدم للشيكس إمكانية قراءة العديد من الكتب الثقافية والسياسية. «عرّفتني على أمريكا الجنوبية، وموسيقى إفريقيا، وموسيقى الغجر، والأفلام في كوريا الجنوبية، والرسوم المتحركة في اليابان».
وفرت حياة الشيكس له، بالإضافة إلى العمل والمتعة، صداقات في المناطق النائية والمهمشة في المملكة، حيث كان يذهب في مشروعه التطوعي للتعليق على المباريات الشعبية. ويضيف أن كرة القدم بالنسبة له «ليست أسلوب حياة وحسب هي كاتالوج [من خلاله] أتعامل مع هذا العالم (..) هي المعلم الأول».
أثر توقف كرة القدم حول العالم بشكل مباشر على حياة وعمل الشيكس، إذ يقتضي عمله التعليق، وإعداد وتقديم برنامج حصاد الأسبوع الذي توقف بسبب عدم وجود فعاليات رياضية. كان ذلك يستهلك الكثير من وقته في متابعة الأخبار والتحضير للحلقات، والاستعداد للتعليق على المباريات «الآن لا يوجد شيء (..) لأول مرة أشعر أني فقدت جزء من كياني».
وفقًا لأرقام الاتحاد الأردني للإعلام الرياضيّ فإنَّ عدد الصحفيين والصحفيات المختصين بالشأن الرياضي في الأردنّ ما بين 120-130 صحفيًا وصحفيّة. غير العديد من الصحفيين في المواقع الإلكترونيّة.
منذ توقف المباريات، قرأ الشيكس العديد من الكتب حول الرياضة والتكتيك الرياضي «لأبقى في نفس الفورما» كما يقول، وشاهد واستمع إلى الكثير من الأفلام والموسيقى. لكنها لم تكن كافية، لذا صار يشاهد مباريات جرت قبل أن يولد، «وأعلق عليها سرًا».