دييغو مارادونا

نابولي تتنفس دييغو مارادونا

من ملصق فيلم «دييغو مارادونا»، من إخراج آسيف كاباديا.

نابولي تتنفس دييغو مارادونا

الأحد 30 تشرين الأول 2022

(نشر هذا المقال بالإنجليزية في العدد العاشر من مجلة مونديال، عام 2017، في الذكرى الثلاثين لأول دوري إيطالي يحرزه نادي نابولي. النص التالي هو نسخة مختصرة منه).

نابولي ليست مكانًا عاديًا. جمالها يتجاوز المنطق، هيبتها مباغتة، كرمها بالغ. يستقبلك النابوليّون بأذرع مفتوحة، وأفواه مفتوحة، وقلوب مفتوحة. إنها مكان يبقى بالكاد تحت السيطرة بخروجه عن السيطرة. مدينة حارّة في الظلال الحارّة لبركان حارّ. كتلةٌ من المحار، والعصابات، والكاثوليكية؛ من التطيّر، وأولاد الشوارع، والدراجات النارية. ومارادونا.

نابولي حبلى بدييغو مارادونا.

في مدينة يهيمن التمرد والحظ وكرة القدم على أزقتها وتلالها الملفوحة بالشمس، رُفع دييغو إلى مصافّ الآلهة. بعد ثلاثين عامًا على أول سكوديتو لنابولي، ما تزال هالة هذا الثوري، اجتماعيًا ونفسيًا وبدنيًا، تُدحرِج كرة من الأمل عبر الشوارع الخلفية الضيقة، وأمام الحانات الدبقة، وحول ورش النجارين. هنا، كان مارادونا أكثر بكثير من أفضل لاعب كرة قدم في العالم. كان إلهًا؛ ثائرًا؛ ملكًا؛ حيوانًا؛ قديسًا؛ آثمًا؛ أخًا؛ رابحًا. والأهم، كان واحدًا منهم. لقد اقترن دييغو مارادونا بالشوارع بأسمى معانيها، وتشرّب نابولي كما تشرّبته.

لذا، بمسجّل صوت، وبضعة أرقام هواتف، ومفردات إيطالية شحيحة، ذهبت إليها لأتحدث إلى علماء النفس، ولاعبي الورق، والصحفيين، والباعة المتجولين، الذين ما يزال دييغو أرماندو مارادونا جزءًا كبيرًا من الهواء الذي يتنفسونه. كان الرجل في كل مكان.

النجارون

كنا عائدين بعد تناول الغداء، نكابد الحديث بمِعَد ملأى بالباستا والخبز واللحم والجبن والقهوة. في منتصف الطريق نحو البلدة القديمة، ألمح علم نادي نابولي معلقًا على جدار منجرة مغبرّة. في الداخل، يهوي ثلاثة رجال بمطارقهم ويصيحون في بعضهم رافعين أصواتهم فوق هديد الخشب. ما إن تمكنت بإيطاليّتي الركيكة من أن أنقل أنني صحفي إنجليزي يكتب مقالة عن دييغو مارادونا، حتى ظهرت ثلاث زجاجات بيروني، وأربع شطائر لحم مقدد، على مقعد خشبي وسط عش من النشارة.

يفتح جوسيبي زجاجة البيرة بإزميله، ويصبها في أكواب بلاستيكية، ثم يخرج من خزانة ملصقًا لمارادونا وهو يوازن كرة على رأسه، ويشير إلى صورة أخرى خلف رف الأدوات يلفّ فيها مارادونا ذراعيه حول حشد من النابوليين. تحت الشمس، وفي الظل، يظهر مارادونا على الجدران ومن الأدراج في اللحظة التي يُذكر فيها اسمه، هكذا، كجنّ مُستحضر.

عاملان من نابولي يحملان ملصق مارادونا. تصوير جيمس بيرد.

يعاود جوسيبي ملء أكوابنا ويحدثني عن وقت آخر ظهر فيه مارادونا من العدم: «حين فزنا بالسكوديتو أول مرة [عام 1987]، كان عمري سبع سنوات، لذا لا أذكر الكثير. أتذكر أكثر ما جرى حين فزنا بكأس الاتحاد الأوروبي [عام 1989]. لم نكن قد فزنا بأي شيء من قبل، إلى أن أتى مارادونا وغيّر كل شيء. حين كنت صغيرًا، كنت أتدرب في الملاعب الصغيرة القريبة من الاستاد مع بعض أبناء لاعبي نابولي. كنت أترك عائلتي صباحًا وألعب طوال اليوم. مرةً، سمعت رجلًا خلفي يقول: «باسا، باسا»، فاستدرت، وإذ به مارادونا يطلب أن أمرر له الكرة».

أسأله: مررت الكرة لمارادونا؟
– أجل، مرة.
– تبًا.

يشير جوسيبي إلى ذراعه ويسأل ماذا نسمي هذا بالإنجليزية، فأقول «قشعريرة». يتناول إزميله ويمرره فوق شعر ذراعه المنتصب ويكرر: «أجل، قشعريرة». يفتح زجاجة بيروني أخرى، يسألني عن البريكست، ويريني لفافة ورق مرحاض طُبع عليها وجه غونزالو هيغواين.[1]

بائع البسطة

يجلس تشيرو كاردوني على دراجته المليئة بالملصقات، المركونة في زاوية بين الحي الإسباني، وشارع توليدو. تمتد بسطته التي يبيع عليها بضاعة نادي نابولي قرابة خمسة أمتار، كلها بيضاء وزرقاء، أعلام وقمصان وأوشحة. يعرض على القهوة، يقبلني على الخدين، ويخبرني أن دييغو مارادونا كان حبيبته الأولى.

«أذكر أنه حين جاءنا خبر الانتقال، كنت وحدي في البيت أستمع إلى المذياع في غرفتي. رفعت الصوت إلى أقصاه وفقدت عقلي. كان قدوم مارادونا إلى نابولي هو ما أشعل حبي لكرة القدم. كنت مجرد شاب، لكنني سافرت إلى كل أنحاء إيطاليا وراء مارادونا ونابولي. لقد وقعت في الحب، في حب مارادونا. كنت أذهب للمباريات لا لشيء سوى أن أراه يلعب. كان عمري 12 سنة حين فزنا بأول سكوديتو. لقد منحني سعادة تفوق كل ما عرفته من قبل، جعلنا نهزم ميلان وإنتر ويوفي».

بائع بسطة يبيع عليها مقتنيات نادي نابولي، تصوير جيمس بيرد.

يتحدث تشيرو عن ذهابه إلى فيرونا بلا تذاكر مع 20 ألفًا من مشجعي نابولي في حالة من الهذيان، عن الشرب والتدخين والدردشة والغناء على الحافلة التي أقلتهم إلى هناك، والتي اختفت فجأة بعد المباراة، عن رحلة الآلاف منهم في القطارات نزولًا على طول إيطاليا، فيما كانت الشرطة تتبعهم بالمروحيات. يتحدث عن المتعة الخالصة، عن النشوة، عن النعيم الأزرق، عن الفوز التاريخي ضد اليوفي في تورينو بثلاثة أهداف لواحد عام 1986، الذي دشن بداية «انهيار إمبراطورية البيانكونيري». 

هذه المباراة موجودة بأكملها على يوتيوب، وهدير النابوليين المسموع حين يقلب نابولي تأخره بهدف مايكل لاودروب في الدقيقة الخمسين إلى تقدم بهدفين لهدف بعد 25 دقيقة ليس مجرد هدير احتفال بهدف: إنه هدير دراجات الحي الإسباني، هدير الجنوب الصاخب حين هزم الشمال المتحفظ. كانت هذه هي المباراة التي جعلت نابولي يؤمن بأنه يمكن أن يصنع المعجزة، بأن السكوديتو لم يكن مجرد آنية فضية محجوزة كامتياز طبقي للميلانيين العقلانيين والتورينيين الجادّين، بل كنزًا يستطيع الجنوب أن يظفر به.

«حين كان مارادونا يلعب، كان الأمر دومًا أشبه باحتفال»، يقول تشيرو. «لقد جعلني أشعر بالخوف، بالغضب، وأعطاني الكثير من الأدرينالين. كان مارادونا يعبر بانفعال عن سخطه؛ عن سخطنا. كان حبيبتي الأولى».

أنظر إلى البسطة وأفكر بكم كان صعبًا أن أتخلى عن حبيبتي الأولى، وبأنني كان يمكن أن أنشئ بسطة أبيع فيها قمصانًا تحمل صورتها لو كان هناك من يشتريها. لكن طبعًا لم يكن أحد غيري ليفهمها، بينما آباء نابولي وأمهاتها وأطفالها وقططها كلهم يفهمون دييغو؛ لقد كان الحبيبة الأولى لكثيرين. لم يكن السبب فخذاه السميكان، ولا شعره المموج الكثيف، ولا ردفاه الطريّان، بل أسلوبه في الحياة. لقد جسّد تعقيدات المدينة وتناقضاتها وجمالها وملاحمها.

أميل على دراجة تشيرو وأشكره، فيقبلني على الخدين ثم يقول بالإيطالية: «حين كان عمر أخي سنة، أهديته قميص مارادونا وشارة الكابتن، وما يزالان لديه. جامايكا لديها بوب مارلي، وكوبا لديها تشي غيفارا، ونحن لدينا مارادونا».

أهمّ بالمغادرة، فيشير تشيرو إلى رجل جالس على مقعد بجانبه ويقول: «هذا أنتونيو، سيريك العجب».

الرجل ذو العجب

كنت قد تناولت الغداء مع أنتونيو دي بونيتو، الكاتب المشارك في «مارادونابولي»، الفيلم الطويل الذي عُرض حصريًا في نابولي لأحد عشر يومًا في وقت سابق تلك السنة، وكان قد ذكر رجلًا آخر يدعى أنتونيو نصحني بالحديث إليه وأعطاني رقمه.

كنت قد اتصلت به ولم يجب، لكن يتضح الآن أنه هو: الرجل الجالس أمامي، الرجل الذي سيرينا العجب. يقودنا أنتونيو ببطء في الحي الإسباني فننزل معه خمسة شوارع ونصعد أربعة. يفتح باب فنائه الداخلي المظلل، فنصعد إلى الطابق الثاني، ثم نعبر الشرفة إلى بابه الأمامي الذي كُتب عليه «M10».

أنتونيو، الرجل ذو العجب، في الحي الإسباني في نابولي. تصوير جيمس بيرد.

ندخل، فتعرض علينا زوجة أنتونيو القهوة على الفور، وحين نرفض تضع أمامنا أكوابًا بلاستيكية وتصبّ فيها المياه الغازية. الحرّ في الخارج جهنمي. نتجرع أكوابنا، ويغادر أنتونيو الغرفة. تعرض زوجته علينا القهوة مجددًا، فنرفض. يُطرد طفلاهما من المنزل سريعًا، ويأخذنا أنتونيو إلى الرواق خارج الصالة، ثم يطفئ الأنوار. لم يكن لدي أي فكرة عمّا كان يفعل.

يضع أنتونيو إصبعه على شفتيه، ثم يمشي في الرواق، ويفتح بابًا على اليمين. ندخل، فيغلق الباب ويشغّل تلفازًا بجهاز التحكم الذي يحمله بيده، ليظهر وجه مارادونا أمامنا كجني مصباح أشعث، ترافقه في الخلفية أغنية تينا تيرنر «الأفضل». بينما يمضي الفيديو المركب من مقاطع مسجلة (دييغو يراوغ، دييغو يوازن كرة أديداس أزتيكا[2] على جبينه، اسم دييغو يقطع الشاشة بخط مزخرف)، يضيء أنتونيو مصابيح في خزائن مختلفة، واحدًا تلو الآخر، بالتزامن مع الموسيقى. المشهد جنوني ورائع. عندها، أبدأ بالانتباه لما تحتويه الخزائن.

«حين فزنا بالسكوديتو أول مرة [عام 1987]، كان عمري سبع سنوات، لذا لا أذكر الكثير. أتذكر أكثر ما جرى حين فزنا بكأس الاتحاد الأوروبي [عام 1989]. لم نكن قد فزنا بأي شيء من قبل، إلى أن أتى مارادونا وغيّر كل شيء».

في إحداها، زوج أحذية بوما ارتداه دييغو في إياب نصف نهائي كأس الاتحاد الأوروبي ضد بايرن ميونخ. ما يزال اسمه محفورًا عليه بلون ذهبي، ما يزال الطين عالقًا به، وما تزال أربطته محلولة. في خزانة أخرى، شارة الكابتن التي ارتداها دييغو في مباراة الدوري الإيطالي ضد لاتسيو في موسم 1989-1990. هناك قمصان تدريب من عام 1985، وكرات من عام 1987. هناك مانيكانات تحمل قمصان بويتوني زرق من عام 1990، وقمصان بويتوني بيض، وكنزات مارس خضر بياقات مثلثة، وقمصان مارس زرق وبيض وحمر، وكلها معها بطاقاتها التعريفية. لدى أنتونيو الكثير. وفي آخر الغرفة، على مانيكان يدور مع عقارب الساعة، هناك قميص يحمل رقم 9 هو واحد من اثنين فقط ارتداهما مارادونا. يواصل القميص الدوران، ويخبرني أنتونيو أن دييغو ارتداه في مباراة كأس إيطاليا مع بيزا في موسم 1990-1991. أنتونيو هو الرجل ذو العجب.

أقول: «أنتونيو، شكرًا، شكرًا جزيلًا». «العفو»، يرد بابتسامة لبقة جميلة.

يقودنا أنتونيو إلى الصالة مجددًا، تسألنا زوجته إن كنا نود شرب القهوة، وننزل الدرج نحو الحرّ والدراجات والعالم الحقيقي.

أتعلم حين تقول أمك: «دخلت قبل أيام إلى غرفة خالتك القديمة وشعرت بحضورها. لقد كان هناك شيء في الغرفة بالتأكيد. صدقني يا بني: كانت هناك»، فتسايرها قائلًا: «أجل، أمي. بالتأكيد»؟ إنه الأمر نفسه. مارادونا ليس في الإمارات، يدرب نادي الفجيرة.[3] مارادونا في الهواء، في نابولي، في تلك الغرفة، في أنتونيو.

في وقت لاحق من تلك الليلة، أبحث على الإنترنت عن معلومات حول القميص رقم 9، وأجد مقابلة مع جيانفرانكو زولا، الذي بنى علاقة قوية مع مارادونا حين زامله في نابولي. كان لمارادونا تأثير هائل على زولا («تعلمت كل شيء من دييغو»، يقول زولا) لكنه كان مناصرًا قويًا له كذلك («نابولي ليس بحاجة للبحث عن أحد ليحلّ محلي؛ لديهم زولا»، يقول مارادونا). في المقابلة، يُسأل زولا: «ما هي ذكراك المفضلة عن مارادونا؟» فيجيب: «كان مارادونا دومًا يبقي القميص رقم 10 لنفسه. لكن ذات مرة، كانت لدينا مباراة في كأس إيطاليا مع بيزا، فجئت لآخذ القميص رقم 9، لكن مارادونا جاء بالقميص رقم 10 وأعطاني إياه. قال لي إنه يريد ارتداء القميص رقم 9 تكريمًا لصديقه كاريكا، لكنني اكتشفت لاحقًا أنه أعطاني إياه لأعيش التجربة. شعرت بإطراء شديد. كانت لفتة عظيمة، منحتني ثقة كبيرة بنفسي». هذه «اللفتة العظيمة» تدور حاليًا على جذع مانيكان في تلك الغرفة الصغيرة المخفية في الحي الإسباني.

الكاتب الذي ولد قبالة استاد سان باولو

في قلب فوضى الحي الإسباني، يقع دير جميل يعود للقرن السادس عشر، حوّلته مؤسسة «إلى جانب الأطفال» الاجتماعية إلى مشروع تطوير حضري يقدم خدمات مهمة لأهل المدينة. في المبنى حضانة، ومكتبة، ومدرسة للبالغين المحرومين، ومقهى لطيف ألتقي فيه بماكس غالو، من صحيفة إل نابوليستا. تركز هذه الصحيفة الإلكترونية التي أسسها ماكس وفابريتسيو ديسبوزيتو عام 2010 على ثقافة كرة القدم والمجتمع النابوليّ. ولد ماكس في فوريغريتا، تمامًا مقابل استاد سان باولو،[4] وعاش هناك حتى عام 1991. يخبرني هو أيضًا أن مارادونا كان حبيبته الأولى.

«أتذكّر أول علم رأيته لمارادونا. كانت ذراعاه مفتوحتان، وشعره..» يقف ماكس ليقلد شعره المموج. «كان يتحرك مع الريح وكأنه حيّ. ذهبت إلى الملعب كل أحد، في ذلك الوقت كنا نلعب أيام الآحاد فقط. لم نكن في نابولي نتحدث عن أي شيء غير مارادونا؛ كان قوة جمعيّة. بالنسبة لي في ذلك الوقت، كان الإحساس بالحياة يعني نابولي ومارادونا».

«عام 1985، هزمنا يوفنتوس لأول مرة منذ 12 عامًا. سجّل مارادونا هدف الفوز. أتعلم عن أي هدف أتحدث؟ الركلة الحرة داخل المنطقة. كنت في الاستاد، في المنطقة ب. كانت تمطر بشدة، وأتذكر أنني نظرت حولي حين دخل الهدف لأرى رجالًا بالغين ممدين على الأرضية المبللة في حالة من النشوة الخالصة. كان الأمر جنونيًا تمامًا». كنت أعلم عن أي هدف يتحدث. على يوتيوب، هناك فيديو بعنوان «قصاص مارادونا في منطقة الجزاء». يستلم مارادونا الكرة في دائرة المنتصف ويمضي ليراوغ ويناور ويراقص ويتخطى خمسة من لاعبي يوفنتوس، قبل أن يعرقله لاعبان في النهاية في منطقة الجزاء. يصرخ مارادونا ويقهقه، فيما يكاد لاعبو اليوفي يضحكون لدهشتهم من المدى الذي قطعه. بشكل عصي على التفسير، يمنح الحكم نابولي ركلة حرة غير مباشرة داخل منطقة الجزاء نتيجة اللعب الخطر، ومن على بعد حوالي 14 ياردة عن المرمى، وما لا يزيد عن سبع ياردات عن حائط الصد، يسدد مارادونا الكرة المتحركة بحركة تطلبت أن يبسط قدمه للأمام وينقر كعبه للخلف في الوقت نفسه، خالقًا بشكل عجيب ما يكفي من الدوران العكسي والانحناء والهبوط ليضع الكرة في الزاوية العلوية. كان أمرًا ربانيًا بحق.

كان قدوم مارادونا إلى نابولي هو ما أشعل حبي لكرة القدم. كنت مجرد شاب، لكنني سافرت إلى كل أنحاء إيطاليا وراء مارادونا ونابولي. لقد وقعت في الحب، في حب مارادونا. كنت أذهب للمباريات لا لشيء سوى أن أراه يلعب.

«مارادونا يشبه محمد علي؛ لاعب عظيم، مقاتل عظيم، لكنه أيضًا قائد سياسي، وفي نابولي وجد مكانه المفضل. كان يتحدث عن التضاد مع الشمال، مع تورينو وميلان. إنه قائد كاريزماتي، مثل بريف هارت، أو نابوليون». أي أنه كان نابوليًا، أقول. فيجيب ماكس: «أجل، أجل، كان كذلك».

«كان ساحرًا ببساطة. كان دائمًا محاطًا بثلاثة لاعبين حين يتلقى رمية تماس». يضع ماكس كأس البيرة على الطاولة، ويقف وسط المقهى ليقلد استلام مارادونا لرمية التماس محاطًا بثلاثة لاعبين. يضرب صدره بيده ليصوّر كيف يوسّد مارادونا الكرة، ويتظاهر بالتوجه في اتجاه، ثم يميل في الاتجاه الآخر، آخذًا الكرة معه. إنها رقصة مارادونا. «دائمًا»، يقول ماكس ويعود إلى مقعده. «دائمًا».

«أتذكّر مباراةً أخرى: الرابونا، الرابونا. نابولي يهاجم، ومارادونا يستلم الكرة بطريقة الرابونا من عرضية من لويجي كافاريلي: هدف!»، يضع ماكس كأس البيرة ويقف مجددًا، مقلدًا استلام الكرة بساق خلف الساق الأخرى، ثم يلتف ليسددها في الشباك. إنها رقصة مارادونا أخرى. «كنا دومًا واقفين في المنطقة ب، لكن لم يكن الجميع يقفز ويحتفل حين رأوا الرابونا. كانوا متجمدين، مدهوشين، مصعوقين». أقترح تعبير «متحجرين، وكأنهم تحولوا إلى حجارة»، فيقول: «بالضبط هكذا، لم نرَ شيئًا كهذا من قبل».

«لكن، لدي إشكالات. مارادونا هو الماضي، الماضي الرائع الغني. لكن هناك حاضر ومستقبل. في نابولي، مارادونا حاضرٌ أكثر مما يجب. في إل نابوليستا، موقفي هذا ليس شعبيًا. أنا أتذكر مارادونا كله، كل شيء عنه. لكننا نتحدث عن أمر مرّ عليه 20-30 سنة. أن تعلق في الماضي مشكلة. من الصعب علي أن أقول هذا لأنني لن أضع نفسي في موقع المعارضة. لكن يجب أن يكون لدينا مستقبل».

من بين كل من تحدثت إليهم، ماكس هو الوحيد الذي صوّر خلود مارادونا على أنه مشكلة محتملة. إنه مغرم بشدة بمارادونا وبالأثر الذي تركه في المدينة، لكنه يقر بالحاجة للمضي قدمًا ويدرك خطر النوستالجيا. فالنوستالجيا تبث الجمود، ورغم أن تأثير مارادونا على نابولي يتحرك ويتطور باستمرار، إلا أنني أفهم ما يقوله ماكس.

الفتية أمام الكنيسة

الحرّ حارق، وأمام كنيسة ضخمة، تلعب مجموعة من الأطفال كرة القدم بشيء يشبه كرة الشاطئ لكن أثقل، مستخدمين أعمدة السقالة كمرمى، والرسوم على الجدران كجمهور.

كلما سجل أحدهم هدفًا يصيحون «مارادونا! مارادونا!»، وأحيانًا يصيحون «سكوديتو! سكوديتو!». إنهم في قرابة العاشرة من العمر، وما يتحدثون عنه حوالي حدث قبل ولادتهم بعشرين سنة. لكن مارادونا جزء من أذهانهم، من ألعابهم، من حياتهم.

فتية يلعبون الكرة أمام كنيسة في نابولي، وكانوا يهتفون باسم مارادونا. تصوير جيمس بيرد.

عالم الاجتماع

لوكا بيفولكو عالم اجتماع يدرّس في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة نابولي فيديركو الثاني. لقد كتب كتبًا ومقالات تحمل عناوين مثل «جوهر البطل وتحوّله إلى روتين: مارادونا بين جيلين من المشجعين النابوليين»، و«مارادونا، ونابولي، وإيطاليا، والأرجنتين، والقضايا الاجتماعية والهوياتية»، و«كرة القدم كأداة اندماج: أفرو-نابولي يونايتد نموذجًا». لوكا عالمي بحق، ويفهم في مجاله فعلًا، وأنا ممتن جدًا للوقت الذي منحني إياه. يأخذني لتناول البيتزا، ثم نعود إلى مكتبه، ويحدثني عن دييغو.

«هناك حانة وسط المدينة اخترعت عملة عليها وجه مارادونا. يمكنك أن تدفع ثمن هذه القسيمة، ثم تستخدمها لشراء القهوة في الحانة متى شئت. شيئًا فشيئًا، أصبحت هذه القسيمة مالًا عاديًا. بدأ الناس باستخدامها كعملة لشراء البضائع، وأصبحوا يقبلون البيع بها. جنون. كان على صاحب الحانة أن يتوقف عن بيعها في النهاية لأن تزوير العملة غير قانوني بطبيعة الحال. لا يمكن أن يحدث هذا إلا في نابولي ومع مارادونا».

سواء كان ثوريًا سياسيًا، أو قديسًا مخلصًا، أو مجرد لاعب كرة قدم مذهل، فقد احتضنت أذرع النابوليين المفتوحة قلب مارادونا المفتوح ونالت في المقابل مجدًا يندر أن نراه خارج عالم الخيال.

«النابوليون شديدو الاعتزاز بأنفسهم. نحن نؤمن بأن نابولي مختلفة. إنها ملأى بالمشاكل، لكننا نراها أفضل مكان في العالم. لدينا البحر، لدينا البركان، لدينا البيتزا، لدينا الموسيقى، لدينا المسرح. وبالاعتزاز ذاته، لدينا مارادونا. إنه رمز لهذا الاعتزاز؛ لقد بثّ فينا الحياة».

«إننا المدينة الكبيرة الوحيدة في إيطاليا التي ليس فيها سوى نادٍ واحد. لذا، فالعلاقة بين المدينة والنادي طبيعية وتلقائية. كان مارادونا يتمتع بكل الصفات التي يقدّم النابوليون أنفسهم من خلالها. لم يكن لديه الانضباط الذي يتمتعون به في تورينو، في يوفنتوس. لم يكن ثابتًا، كان متقلبًا لا يمكن التنبؤ به، كان متمردًا وعبقريًا. يحب النابوليون خرق القواعد، ومارادونا أثبت للعالم أنه يمكنك الفوز ضمن هذه السمات النابولية. لقد منحنا خلاصًا اجتماعيًا ضد الشمال المتعجرف، ضد الشمال الغني؛ منحنا الانتقام. لقد أعطى الناس طريقة للاعتزاز بأسلوبهم في الحياة».

يأخذني لوكا للقاء برونو، الرجل ذي الشعرة، وماركو، صانع التماثيل المصغرة.

الشعرة وصانع التماثيل المصغرة

يملك برونو مقهى في البلدة القديمة فيه مذبح لتكريم مارادونا. يقدم لي القهوة ويخبرني أنه سرق شعرة دييغو مارادونا، المحفوظة في المذبح، من مسند مقعده على الطائرة بعد خسارة نابولي أمام يوفنتوس. كان مارادونا غاضبًا، وحين ترك مقعده، أخذ برونو الشعرة وأراها لصديقه ثم وضعها في محفظته. بعدها، أنشأ هذا المذبح، وأضاف إليه صورًا مذهلة، أحاطها بأيقونات مزخرفة. أصبح هذا مذبح مارادونا، وسط بار نيلو الجميل في شارع تربيونالي. عام 1991، حين رحل مارادونا عن المدينة، أضاف برونو قارورة صغيرة فيها سائل أزرق: إنها «دموع نابولي».

يقول برونو إن هذا التذكار جلب لمقهاه الحظ والرزق منذ ذلك الحين. يقول إن مارادونا جزء من المدينة ومصدر للفرح، سيظل يبثّه في الأجيال الآتية. إنه جادٌ جدًا، وطريفٌ جدًا، ويقدم قهوة قاتلة.

نمشي للقاء ماركو فِرينيو، الذي يدير متجرًا لبيع التماثيل الصلصالية المصغرة في المنطقة السياحية القريبة من شارع تريبونالي. تعد أعماله من الأفضل في نابولي، وتصنع بالمواد والآليات نفسها التي كانت مستخدمة منذ 150 عامًا. تصوّر منتجاته في الغالب أيقونات المهد التقليدية؛ الرعاة والقساوسة. لكنه يصنع تماثيل لدييغو مارادونا أيضًا.

يحدثني ماركو عن نشوة الاحتفال بالسكوديتو، وبثنائية كأس الاتحاد الأوروبي والسكوديتو، وعن أهمية أيقونات مارادونا. يقول إنه لطالما أراد أن يلتقي بثلاثة أشخاص: «صوفيا لورين، والبابا، ومارادونا». يشير إلى صورة تجمعه برجل مبتسم ذي شعر أشعث يعانقه عبر شباك سيارة. «لقد التقيت بهم جميعًا»، يقول ماركو بابتسامة عريضة.

أعلام فريق نابولي تنتشر في المدينة، حيث إنه النادي الكبير الوحيد فيها. تصوير جيمس بيرد.

فنانو الشوارع

تزين جداريات مارادونا، التي رسمها سان سبيغا، الحي الإسباني بطريقة تكشف عن روحه. إنها تمظهر مادي للجوهر الروحاني للحي.

كان سان، الآتي من بوينس آيرس، في الخامسة من عمره حين فازت الأرجنتين بكأس العالم عام 1986، لذا فهو لا يذكر الكثير عن البطولة، باستثناء رسم رسمه لمارادونا: «كان رسمًا بسيطًا جدًا بطبيعة الحال، لكنه مع ذلك كان مارادونا، وكانت تلك تحيتي الأولى له. كان الوقت الذي قضاه في نابولي كالحلم بالنسبة لي».

كبُر سان وتحولت هذه الرؤيا الحالمة إلى صورة أشد واقعية وتوازنًا عن مارادونا: «حين كنت مراهقًا، في سن الثالثة عشر أو الرابعة عشر، أحببت مارادونا بالطريقة نفسها التي أحببت بها تشي غيفارا. أعتقد أنني تعلمت الكثير من جوانب حياتي عبر الاطلاع على حياة مارادونا. ربما فعل أشياء سيئة، لكنني أفضّل أن أرى الجزء الأفضل، الجزء الثوري. بالنسبة لي، كان مارادونا ثوريًا، ومهما فعل، فإن أهل نابولي سيحبونه دومًا».

لم يكن سان الوحيد الذي عقد مقارنات بين مارادونا وتشي. كانت فكرة أن تتعلم كيف تعيش حياة ثورية من أفعال لاعب كرة قدم ترفع مارادونا من الملعب إلى السماء. كان يداعب الكرة بين الغيوم ووسط الشوارع في الوقت نفسه.

«أعتقد أن فن الشوارع والجداريات أفضل طريقة لتكريم لمارادونا. الجداريات تتسخ؛ إنها عفوية وفانية. لذا، فهي تتماشى مع أسلوب مارادونا في الحياة. رسمت جداريات في الأرجنتين أيضًا في حي فيلا فيوريتو، حيث نشأ. من المنطقي أن توجد جداريات مارادونا في أحياء حقيقية، كالحي الإسباني وفيلا فيوريتو. إنه من هناك، من الشوارع».

ملصق لمارادونا على جدار في الحي الإسباني. تصوير جيمس بيرد.

رأى سان جدارية مارادونا الشهيرة على الإنترنت، وقرأ عن الفنان الذي جدّدها، سالفاتوري إيوديتشي، ثم قرر السفر إلى نابولي. «لم أدرِ إلى أين أذهب، لكنني كنت أحمل رسمي في حقيبتي وأمشي في الحي الإسباني، حين رأيت رجلًا على باب محل. سألته: «أتعرف أين توجد جدارية مارادونا؟»، فقال لي: «أجل. أنا الذي رسمتها». كان سالفاتوري. كانت مصادفة جنونية. لم أكن أتحدث الإيطالية، لكن في تلك اللحظة، فهمنا بعضنا».

أمشي إلى ورشة على طريق تلة في الحي الإسباني في السابعة مساءً. هناك رجل وسيم جدًا، مغطى بالدهان، يقف فوق مقعد ويلون لوحًا خشبيًا كبيرًا. إنه سالفاتوري بلا شك.  

أعرّف بنفسي، ونتحلق حول طاولة، ونتحدث. أسأل سالفاتوري إن كانت نابولي وحدها، لا برشلونة، ولا إشبيلية، التي كان يمكن أن تتأثر بمارادونا بهذا الشكل، فيقول إن «مشجعي نابولي مختلفون عن مشجعي الفرق الكبرى حول العالم. هناك علاقة عميقة جدًا بين المشجعين والمدينة، بين اللاعب والمدينة: إنها الحَميّة التي تُميز مجتمع نابولي».

أسأله عن سان جينّارو، عمّا إذا كان مارادونا في المرتبة نفسها. سان جينّارو هو قديس نابولي وراعيها الذي يحميها من المصائب. ثلاث مرات كل سنة، يجتمع أهل المدينة ليشهدوا «معجزة سان جينّارو»، حين «يُسيل» أسقفٌ عينة مما يُزعم أنه دم سان جينارو المتخثر في أمبولة زجاجية مغلقة، ليُعلَن عن التسييل بإحدى وعشرين طلقة نارية، وسط حشد من الأهالي الذين يتنفسون الصعداء. حين أبى الدم أن يسيل عام 1939، وقعت الحرب العالمية الثانية. وحين حدث ذلك مجددًا عام 1980، وقع زلزال إربينيا الذي قتل 3000 شخص. إنها مسألة جدية جدًا.

«سان جينارو يحمي المدينة، من بركان جبل فيزوف، والكوارث الطبيعية، والكوارث الاقتصادية. مارادونا قديس من نوع آخر؛ قديس للخلاص، للنجاح. كان يقاتل دومًا من أجل الجماهير، من أجل المحرومين. يمكن اعتبار مارادونا نقطة التقاء بين هذه الثقافة الدينية الرفيعة والأطفال الذين يلعبون كرة القدم في الشارع».

كان سالفاتوري في الثانية عشرة من عمره حين فازوا بأول سكوديتو، ويتذكر كيف اجتمع الناس وأعدّوا الزينة للاحتفال قبل أن يفوز نابولي بوقت طويل: «أهل نابولي متشككون ببعضهم أحيانًا، لكنها كانت فرصة حقيقية للوحدة والتعبير عن حس الجماعة والانتماء. وحين فاز نابولي بالفعل، عبّروا عن هذه الروح الجماعية عبر الزينة». تحققت الجدارية بفضل التبرعات التي جمعها أهل الحي لاستئجار السقالة المرتفعة وشراء الدهان.

جدارية مارادونا في الحي الإسباني في نابولي. تصوير جيمس بيرد.

نابولي ليست مكانًا عاديًا، وحين جاء دييغو أرماندو مارادونا إليها عام 1984، وجدت فيه مثيلها غير العادي. سواء كان ثوريًا سياسيًا، أو قديسًا مخلصًا، أو مجرد لاعب كرة قدم مذهل، فقد احتضنت أذرع النابوليين المفتوحة قلب مارادونا المفتوح ونالت في المقابل مجدًا يندر أن نراه خارج عالم الخيال. لم يرَ عالم الرياضة قط مدينة تقدّس شخصًا كما قدّست نابولي مارادونا. ووسط المتاحف الخفية، والمطاعم المزدحمة، ومباريات الشوارع، ما يزال النابوليون يقدسونه اليوم. إنهم لا يتعلقون بإرثه، بل يبنونه.

مارادونا ما يزال هنا، في نابولي، الآن.

  • الهوامش

    [1] بعد ثلاثة مواسم مع نابولي، انتقل هيغواين عام 2013 إلى يوفنتوس، الخصم اللدود لنابولي، في صفقة تاريخية بلغت 90 مليون يورو.

    [2] الكرة الرسمية لبطولة كأس العالم 1986 التي أقيمت في المكسيك، وفازت بها الأرجنتين.

    [3] وقت العمل على المقال، كان مارادونا في الإمارات العربية المتحدة، مدرّبًا لنادي الفجيّرة.

    [4] بعد وفاة مارادونا عام 2020، غيّر اسم الاستاد ليصبح استاد دييغو أرماندو مارادونا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية