عن الأسلوب المتأخر لرافاييل نادال

الأربعاء 16 شباط 2022
رافا نادال في نهائي بطولة أستراليا المفتوحة للتنس. المصدر: Getty Images.

تحتل كرة المضرب مكانةً ضبابيةً بين الرياضات الكروية، فهي ليست بشعبيّة وشعبوية كرة القدم أو كرة القدم الأميركية أو كرة السلّة، ولكن نخبويتها وكلاسيكيّتها بالمقابل تختلف عن نخبوية الغولف. تحضر كرة المضرب عادةً في الخبر الأخير أو ما قبل الأخير من النشرات الرياضيّة ولن تتصدّر الأخبار إلّا بعد نهائي بطولة كبرى أو بعد خطب جلل لا علاقة له بالملاعب (كترحيل لاعب التنس الصربي والمصنف أول عالميًّا نوفاك دجوكوفيتش من أستراليا لدخوله البلاد دون تلقّي لقاح كورونا، مثلًا).

يأتي لاعبون ولاعباتٌ في كل جيل ليذيبوا طبقات الجليد التي تفصل التنس عن الجمهور الرياضي العريض، وليخلعوا عنها شيئًا من كبريائها ورصانتها. بعضهم، كالشقيقتين سيرينا وفينوس وليامز أو آرثر آش وآلثيا غبسن قبلهما، يخلخلون هيمنة اللاعبين البيض على الرياضة، بل ويتحدون هويّتها البيضاء الإقصائية. وأخريات كبيلي جين كنغ ومارتينا نفراتيلوفا، يفرضن على الرياضة الاشتباك بنضالاتٍ اجتماعية وسياسيّة مثل المساواة الجندرية.

لا ترتبط قدرة التنس على اجتذاب شرائح أوسع من المتابعين بجودة المباريات وتشويقها وحسب، بل بحبكةٍ ينسجها اللاعبون أو تُنسَجُ حولهم، وبحكايةٍ تتخطّى خيوطُها خطوطَ ملاعب التنس الخلفية. صاغت المنافسة بين السويسري روجر فيدرر والإسباني رافا نادال منذ مباراتهما الأولى في ميامي في العام 2004 إطارًا سرديًّا تجاوز التّشجيع التقليدي، وقسم معظم المهتمّين بالرياضة إلى قُطبيْن، وجعل الجماهير الهادئة الرزينة في ملاعب ويمبلدن تهتف بين النقاط كما لو أنها تشاهد مباراة كرة قدم في ستاد ويمبلي.

قامت هذه المنافسة على تناقضٍ جليٍ بين اللاعبيْن مظهرًا وجوهرًا: «المايسترو» من بازل في مواجهة «المتادور» من مايوركا، والأناقة مقابل اللياقة والقوة البدنية، والمهارة والموهبة الفطرية غير المسبوقة ضد الروح القتالية الرافضة حدودَ الممكن، والأسلوب الهجومي الإبداعي في وجه جدار دفاعي صلبٍ يقف بالمرصاد لكل ضربة وكل كرة. لاعبٌ نخاله خرج للتو من أمسية موسيقية وهو ينساب على عشب ملاعب ويمبلدون الأخضر (أيُعقل أنه لا يعرق ولا يبذل مجهودًا؟)، وآخر نظنه محاربًا في معركة وهو يجري وينزلق على تراب رولان غاروس الأحمر، يتفصد عرقًا بعد النقطة الأولى. 

لكن «الحياة» التي يشكرها نادال دائمًا بعد كل انتصار، منحته «هديةً» كما قال، الهدية لم تكن ترحيل دجوكوفيتش، بل قدرة نادال على إعادة خلق نفسه كلاعب. 

على أن هذه الثنائية كسائر الثنائيات مصطنعة، فاللاعبان صديقان تجمعهما مودّة بعيدة عن المجاملة والرّياء، واحترامٌ متبادل استفز مشجّعيهما. أناقة فيدرر تخبّئ في ثناياها روحًا قتاليّة وإصرارًا مذهلًا، وتدريبًا شاقًّا وقوّةً بدنيةً استثنائيةً. لعل هذه السماتِ لم تحظَ بالقدر الكافي من التقدير لأنها تهدّد هالة القداسة التي وشّحت فيدرر، وثبّتها الروائي دافيد فوستر وَلس حين وصف مشاهدة فيدرر «بالتجربة الدينية». وإننا نجاوز الإنصاف لو اختزلنا موهبة نادال ومهاراتِهِ الفنيةَ بتشبيهه بالجدار الدفاعي، فقد تطوّر أسلوبه الهجومي خلال مسيرته، وتحول بسرعة من فتىً يكسب النقاط بفضل أخطاء الخصم إلى لاعب متكامل يصنع النقطة ببراعة، ويقلب تأخّره تقدّمًا، لا بفضل إرادته فقط، بل لذكائه ومرونته. صحيح أن جماليات أسلوب نادال لا تضاهي فيدرر كلاسيكيّةً وصفاءً، ولكنها لا تقل عنها فرادةً. 

ليست المغالاة بإظهار التناقض وحدها ما أفسد ثنائية فيدرر نادال، بل دخول لاعب ثالث إلى الميدان، تحدى كسر هيمنتهما، وأصبح في العقد الأخير (2011-2021) أفضل لاعبٍ في العالم بلا منازع، وربما أفضل لاعب في التاريخ. كسر نوفاك دجوكوفيتش قلب فيدرر ونادال مرّة تلو الأخرى على الملعب، وكسر قالب المنافسة الودية الذي ألِفَتْه رياضة التنس، فبرع في لعب دور «المخرّب»، مفسد النص الذي استأثر فيدرر ونادال ببطولته بين الأعوام 2005 و2009. لم يأبه -أو هكذا بدا- بإثارة سخط الجمهور وعداوته، بل كان يرفع مستواه كلّما اشتدت حرارة التصفيق المحتفي بالمنافس. كيف يتجاهل الهتافات والنداءات الصادحة دعمًا لفيدرر خلال مبارياتهما؟ «أتخيل أنهم يهتفون نوفاك بدلًا من روجر»، يقول دجوكوفيتش.

اقتحم دجوكوفيتش الحكاية فألّف بين قلوب مشجعي فيدرر ونادال، والأهم من ذلك أنه حوّل تنس الرجال في حقبته الذهبية إلى ما يشبه مسرحية إغريقية يتبادل ثلاثةُ أشخاصٍ الحوارَ فيها، ثلاثةٌ تقاسموا -ربما الأصح أن نقول احتكروا- 61 من آخر 74 بطولة كبرى/ غراند سلام. ثلاثةٌ فرضوا على سائر اللاعبين المميّزين البقاء في الكورس. منحنا هذا الكورس مشاهدَ لا تُنسى، كما فعل الأرجنتيني خوان مرتين دل بوترو حين هزم فيدرر في نهائي بطولة أميركا المفتوحة في 2009، أو كما فعل ستانيسلاس فافرينكا حين هزم دجوكوفيتش في نهائي بطولة فرنسا المفتوحة في 2015، ولكن صوتًا لم يعلُ على صوت الثلاثة وكل منهم يسعى لكسر أرقام الآخر وبلوغ قمة البانثيون أولًا. قمّةٌ تربعوا عليها معًا حتى بداية هذا العام، فقد فاز كلٌّ منهم بعشرين بطولة كبرى، وكان من المتوقع أن يكون دجوكوفيتش هو من يكسر هذا التعادل.

إن كان رافا نادال ناطور مفاتيح ملاعب رولان غاروس التي أحرز على ترابها 13 لقبًا، فإن ملاعب ملبورن بارك (التي تعود ملكية أرضها التاريخية إلى شعوب Wurundjeri وBunurong الأصلية) تقع تحت سيطرة دجوكوفيتش، الذي تُوّج باللقب فيها تسع مرّات. اقترب دجوكوفيتش قاب قوسين أو أدنى من كسر هذا التعادل، والفوز بلقبه الـ21، ولكن فردًا آخر من الكورس، الروسي دانييل مدفيديف، حال دون ذلك، حين انتصر عليه في نهائي بطولة أميركا المفتوحة في أيلول من العام الماضي. ولكن أستراليا مختلفة، وروجر فيدرر غائب، ومن يدري إن كان سيعود للملاعب مجددًا وقد تجاوز الأربعين، ويبدو أن إصابات الركبة تنذر بإنهاء مسيرته. أمّا نادال فقد اضطره داء كولر المزمن إلى إجراء عملية في قدمه، ولم يكن يدري قبل شهرين إن كان بوسعه اللعب مجددًا. «إنها هدية من الحياة» وصف نادال قدرته على العودة للملاعب بعد العملية، هدية علّمته أن يكون أكثر تسامحًا مع نفسه حين يعجز عن بلوغ الكمالية التي امتلكه هوس المحافظة عليها.

اللاعب الذي كان يسير مستعينًا بعكّاز قبل شهرين، اللاعب الذي لم يكن متأكدًّا من عودته لإمساك المضرب مرةً أخرى، أصبح أول رجلٍ يفوز بـ21 بطولة كبرى.

إذن، هي بطولة دجوكوفيتش. على أن دجوكوفيتش لم يسدّد ضربةٍ واحدة فيها بعد قرار المحكمة الفيدرالية في ملبورن، قبل يومٍ واحد فقط من بداية البطولة، ترحيله لعدم التزامه بتلقي لقاح كورونا. ومع ذلك لم يمنح معظم المحلّلين والمعلّقين نادال فرصة تذكر للفوز في البطولة، هو عائد من إصابة أبعدته عن الملاعب حوالي نصف عام، وبطولة أستراليا كانت حاجزًا عصيًّا أمامه، فهو لم يفز بلقبها إلا مرة واحدة في العام 2009 حين كان في الـ22 من عمره، وهنا هُزم في النهائي ثلاث مرّات، وهنا أجبرته إصاباتٌ سابقة على الانسحاب من مباريات البطولة. ما من بطولة كسرت قلب نادال وجسده كبطولة أستراليا.

لكن «الحياة» التي يشكرها نادال دائمًا بعد كل انتصار مستشهدًا -أو هكذا يحلو لي الاعتقاد- بكلمات الفنانة التشيلية فيولِتا بارّا، منحته «هديةً» كما قال. الهدية لم تكن ترحيل دجوكوفيتش، بل قدرة نادال على إعادة خلق نفسه كلاعب، بتوجيه مدرّبيْه كارلوس مويا ومارك لوبث، تمامًا كما فعل روجر فيدرر في أستراليا في العام 2017. 

أن تعود للقمّة الرياضيّة وإلى قمة التنس تحديدًا في منتصف الثلاثينيّات، بعد إصابات متعددة وآلام مزمنة، يتطلب شغفًا وإصرارًا ويقين بطلٍ، وإناء نادال، كما إناء فيدرر من قبله، ينضح بالشغف والرغبة والإيمان. ولكن مشيئة النفس لا تكفي، وهنا يكون على اللاعب التنقيب عن أسلوب آخر، وإن كان الاعتزالُ أشبهَ بالموت الرياضي للاعب، فإن هذا الأسلوب الذي يحاول اللاعب خلقه في نهاية مسيرته يشبه «الأسلوب المتأخر» (Spätsstil) عند الفنانين قبل موتهم. 

يضيف أدورنو أن النضج الذي تعبّر عنه أعمال الفنان المتأخّرة، مغايرٌ لذاك الذي نجده في الفاكهة الناضجة، فمعظم الأعمال المتأخّرة «ليست مستديرةً» وتفتقر إلى العذوبة، وغايتها ليست إثارة بهجة النّاظرين والمتذوّقين السهلة. في إعادة صياغته مفهومَ «الأسلوب المتأخر» عند أدورنو، يكتب إدوارد سعيد في توطئة كتابه الأخير «عن الأسلوب المتأخّر: موسيقا وأدب عكس التيّار»: «الأسلوب المتأخّر هو ما يحدث حين لا يتنازل الفن عن حقوقه للواقع». 

 

View this post on Instagram

 

A post shared by Rafa Nadal (@rafaelnadal)

اعتدنا ربط أسلوب فيدرر -بكافة تنوعاته- بالفن الأكثر كمالًا لسلاسته ورقيّه، ويمكن القول إن المرحلة الأخيرة من مسيرته -في حال حرمته إصابة ركبته من العودة للمنافسات- امتدّت من العام 2017 إلى العام 2019، وهي تقابل المرحلة الثالثة من مسيرة بيتهوفن. في هذه المرحلة فاز فيدرر بثلاث بطولات كبرى (أستراليا وويمبلدون في العام 2017، وأستراليا في العام 2018) كما وبلغ نهائي ويمبلدون في 2019، ولكن ضربةً يتيمة حرمته اللقب أمام دجوكوفيتش. لقد لامس خلالها أفقًا جماليًّا لم يبلغه قط، ولكنها لم تخلُ من الانكسارات والتناقضات والشّكوك الصّاخبة. في هذه المرحلة سخّر فيدرر جسده لخدمة مهارته وكانت كل مباراة بداية جديدة لا موعدًا مع اعتزالٍ موشك، ولكن كل فرصةٍ ضائعة، كل خطأ غير اعتيادي، كل اختيارٍ متردد، كشف عن هشاشة لم نعهدها لدى فيدرر في أوجه. العُمر ليس مجرد رقم، وهو لا يُهزم ولكنه يراوَغُ فيُنزع فتكه مؤقّتًا على الأقل.

يبدو أن نادال استمد هذه القدرة على مراوغة العمر والوقت من فيدرر في مسيرته نحو لقب بطولة أستراليا المفتوحة هذا العام. أول ما يتبادر إلى الذهن حين نقول «نادال» قوته الجسدية ولياقته، ولكنه اعترف بعد فوزه في ربع النهائي على الكندي شابوفالوف أنه «مدمّر». كما ظهر نادال منهكًا مستنزفًا من الأشواط الأولى أمام الروسي مدفديف في النهائي، وهو لاعب يتفوق عليه في التصنيف وفي المستوى الراهن ويصغره بعشرة أعوام ويعتبر أكثر لاعبي العالم لياقة، وخيّل للمشاهدين أنه يواجه نسخةً أكثر شبابًا وضارةً وصلابةً من نادال. ولكن الهزيمة المزمعة بعثت في نادال روحًا جديدة، روحًا دفعته لتطويع أسلوبه وأخذ زمام المبادرة. لو عدنا إلى استعارة «الفاكهة» التي وظّفها أدورونو للتعبير عن الأسلوب المتأخّر، فإن المباراة التي لعبها نادال في النهائي كانت بعيدةً كل البعد عن العذوبة، مليئةً بالنتوءات والتشقّقات، غير أنها كشفت لنا عن نادال جديد ليس لديه ما يخسره. «قد يهزمني، معلش، ولكنني لن أهديه الفوز» قال نادال بعد المباراة. معتمدًا على «الأسلوب الجديد»، الذي رفض التنحّي لواقع الجسد المنهك والقوى الخائرة، عاد نادال بعد خسارة أول مجموعتين للفوز بالنهائي في خمس مجموعات، استمرت مدة خمس ساعات ونصف ولكن حتى النقطة الأخيرة لم يكن انتصاره بديهيًّا. 

والجمهور، كما هو الحال في الأحداث العظيمة التي تتجاوز فيها الرياضة حدودها المعهودة، كان لاعبًا ثالثًا، يهلل ويصفق ويدفع نادال، يحمله، مجازًا، على الأكتاف، واثقًا أن الفنان سينحّي الواقع. وهذا ما حصل في 30 كانون الثاني 2022: اللاعب الذي كان يسير مستعينًا بعكّاز قبل شهرين، اللاعب الذي لم يكن متأكدًّا من عودته لإمساك المضرب مرةً أخرى، اللاعب الذي أثخنت الإصابات والملاعب الصلبة ظهره وركبتيه وقدميه، اللاعب الذي وُصف في بداية مسيرته بالمحدود والبدائي والعاجز عن الفوز خارج الملاعب الترابية، اللاعب الذي قيل إنه سيعتزل في منتصف العشرينيات لأن أسلوب لعبه مضنٍ، اللاعب الذي كان يعود بعد كل مرة تُنعى فيه مسيرته ويُكتب أن نهايته أزفت، هذا اللاعب، ابن جزيرة مايوركا، أصبح أول رجلٍ يفوز بـ21 بطولة كبرى. خُلقت الأرقام القياسية لتُكسر، يقول فيدرر محقًّا، ولكن ما لا يُكسر هو قدرة هذين البطلين على إعادة تعريف الرياضة، وإعادة كتابة الحكاية في كل مرة نحسب أنّنا قرأنا فصلها الأخير.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية