المعجزة والموهبة: عن زيف المقارنة بين ميسي ورونالدو

ميسي بين لاعبي ريـال مدريد، خلال كلاسيكو كانون الأول العام 2016

المعجزة والموهبة: عن زيف المقارنة بين ميسي ورونالدو

الثلاثاء 17 كانون الأول 2019

في رائعة المخرج التشيكي «ميلوش فورمان» الشهيرة «أماديوس»، يتناول الفيلم مأساة الإنسان الموهوب في مجال ما حين يولد في زمن إنسان آخر معجزة في المجال ذاته. يقدم الفيلم الموسيقار الإيطالي أنطونيو ساليري، الذي كان أبرز الموسيقيين في فيينا بموهبته وحضوره الكبيرين، إلى أن ظهر إلى جانبه الأسطورة موزارت، فخطف منه الأضواء وأوصله إلى حالة أقرب إلى الجحيم. يوازي الفيلم بين هذين النموذجين من البشر: ساليري موهوب بلا شك، مجتهد، مواظب، يحرص على تطوير تجربته والاستفادة من الآخرين، لكنه، في نهاية المطاف، محدود بقدراته التي تبقى في نطاق المعتاد والمألوف. وعلى الجهة الأخرى موزارت، عبقري معجزة متفرد يتنفس الموسيقى تنفسًا، لا يخطط كثيرًا ولا يشتغل على مسودات ولا يواظب ولا يحضّر ولا يفعل شيئًا. يجلس أمام الآلة الموسيقية فتنساب ألحان «لم يسمع بها بشر من قبل»، كما يشير ساليري متحسرًا في أحد مشاهد الفيلم. 

ثنائية الموهوب والمعجزة هذه مألوفة على نطاق واسع في الفنون والثقافة: نجيب محفوظ ومجايلوه من الروائيين المصريين، محمود درويش وزملاؤه في الشعر الفلسطيني، أم كلثوم وكل من سواها في جيلها. تطرح هذه الثنائية أسئلة واسعة حول القدرات البشرية، وفكرة الموهبة، ومعنى العدالة في هذه الدنيا، لكنها، في عصر وسائل التواصل والثورة الإعلامية الذي نعيشه، تقودنا إلى فحص مسألة صناعة النجم وتسويقه ودورها في خلق هذه الثنائية. وخارج حدود الثقافة بمعناها الضيق فإن هذه الثنائية هي النموذج الأنسب لدراسة ما قد يكون أشهر منافسة كروية في التاريخ: ليونيل ميسي وكريستيانو رونالدو. 

تمتلك ثنائية ميسي/رونالدو جميع المقومات اللازمة لخلق حالة الهيجان التنافسي الذي سيطر على عالم كرة القدم كما لم يحدث من قبل، ولمدة تقارب العقد من الزمان. هنا شاب قصير خجول انطوائي قليل الكلام، وهناك آخر طويل وسيم متحدث انبساطي. هنا أمريكا الجنوبية وهناك أوروبا. هذا برشلونة وذاك ريـال مدريد. أرقام كليهما تتحدث. إنجازاتهما تصرخ. جماهيرهما تتشاجر في حالة هستيرية قل نظيرها. ووسط هذا كله يتغافل المعظم عن أن هذه المقارنة في حقيقتها مصطنعة مزيفة لا معنى لها. هي مقارنة بين معجزة اسمها ميسي وموهبة كبيرة اسمها رونالدو، وبين المعجزة والموهبة بحار لا تكفي كل وسائل التواصل الاجتماعي لردمها. ميسي ورونالدو هي المقابل الرياضي لموزارت وساليري، مع فروق ستحاول الفقرات التالية إيضاحها. 

هي مقارنة بين معجزة اسمها ميسي وموهبة كبيرة اسمها رونالدو، وبين المعجزة والموهبة بحار لا تكفي كل وسائل التواصل الاجتماعي لردمها.

ميسي حالة نادرة من الإبداع، تظهر مرة أو مرتين في قرن كامل من الزمان. توقع الكثيرون أن يكون مارادونا آخر المعجزات الكروية، سيما أن كرة القدم تعقدت وتحولت إلى ما يشبه العلم بدرجة لا تسمح بظهور حالات فردية خارقة كمارادونا. والفترة ما بين 1990-2007 أكدت هذه التوقعات، فقد شهدت الملاعب مواهب كبيرة كزيدان وباجيو وكاكا ورونالدينهو ورونالدو البرازيلي، لكنها جميعها بقيت في حدود المعقول. ثم ظهر ميسي، وشغل الدنيا وشغل الناس. سجل هدفه الشهير في خيتافي عام 2007، وفتح الناس أفواههم غير مصدقين، وابتسم الحظ للجيل الذي لم يرَ مارادونا، وابتدأ تاريخ كروي جديد. أصبح ميسي مجازًا للّامعقول. عادت الكرة لتكون متعة بصرية كما كانت. خشي بيليه ومارادونا وكرويف على مكانتهم في تاريخ الكرة. لم يعد السؤال: ماذا سيفعل ميسي في الملعب؟ وإنما: كيف سيفعله؟ كم لاعبًا سيراوغ قبل التسجيل؟ كم مرة سيسجل الهدف الذي سجله مارادونا مرة في مسيرته في مرمى إنجلترا وبنى عليه مجده؟ لم يفز ميسي بكأس العالم، وأظن رغم مرارة هذه الحقيقة وسخافتها أنها تضيف لسحره. إخفاقه في كأس العالم يجعله، رغم قدراته الخارقة، بشرًا مثلنا، ويحوّله إلى كائن تراجيدي لا يزال نُقّاد الرياضة جميعهم مختلفين في تأويل لغز إعجازه مع برشلونة مقارنة بلا إعجازه مع الأرجنتين. إخفاق ميسي، بحد ذاته، معجزة. 

هذه المعجزة الكروية أريد لها أن تكون موضع مقارنة مع موهبة ممتازة اسمها رونالدو. لا يجادل أحد في براعة رونالدو وعلو كعبه في تسجيل الأهداف، لكن قدراته تقف عند هذا الحد. رونالدو هدّاف عظيم، مثل غيره من العظماء. ليس ثمة جديد لديه. هو شيء مألوف نراه مرارًا في كل جيل كروي، وحتى في جيل رونالدو نفسه فإن هناك لاعبين لو أتيح لهم ما أتيح له من فرص لتجاوزوه، كإبراهيموفيتش تحديدًا. مقارنة رونالدو بميسي مثيرة للضحك، ليس فقط لاختلاف مركز اللاعبين ودورهم في فريقهم، وإنما لأن رونالدو في أحسن حالاته مجرد هداف عظيم، وميسي في أسوأ حالاته نص متفرد خارق للعقول. 

المقارنة بين ميسي ورونالدو صناعة إعلامية ساهمت فيها الفيفا وشركات الرياضة ومواقع التواصل الاجتماعي بهدف خلق حالة استقطاب تزيد من إقبال الجماهير وأرباح شركات المراهنات. وحين ظهر ميسي في برشلونة، أدرك ريـال مدريد أن الكلاسيكو سيصبح من طرف واحد على المستوى الجماهيري ما لم يخلق الريال حالة كروية يروج بها النادي لنفسه ويقتنع الجمهور عبرها أن في مدريد لاعبًا ندًا لميسي. تحوّل رونالدو، بقدرة قادر، من لاعب موهوب إلى أسطورة، وتحول ميسي، فجأة، من معجزة لا نظير لها إلى ندّ. ارتفعت الموهبة درجة، وقلّت المعجزة درجات. 

من يستطيع معرفة زيف هذه المقارنة؟ في فيلم «أماديوس» سالف الذكر حالة طريفة تفيدنا في هذا السياق. حين ظهر موزارت بجديده الموسيقي الخارق لم يجد قبولًا لدى الكثيرين الذين لم يعتادوا أسلوبه وعدّوه خروجًا عن المألوف في فيينا ذاك الزمن. المفارقة التراجيدية في الفيلم أن أكثر الناس قدرة على إدراك عبقرية موزارت وفرادته هو بالضبط ساليري. معرفة ساليري الممتازة بالموسيقى وموهبته مكنتاه من الاعتراف بأن موزارت ليس شخصًا عاديًا، وأن كل الموسيقى التي أنتجها ساليري لا تساوي لحنًا واحدًا لموزارت. كان ساليري في الفيلم يذهب متخفيًا لحضور حفلات موزارت الموسيقية كي لا يراه أحد، وكان يدرك في قرارة نفسه بمرارة شديدة أن مكانته الموسيقية سيطويها التاريخ بسبب موزارت. الموهوب قد يكره محدودية قدراته إذا ظهر في زمن المعجزة، وهذا ما حدث لساليري الذي انتهى به الحال نصف عاقل ونصف مجنون في إحدى المصحات العقلية وهو يبحث عن إجابة لسؤال: لماذا خلقني الله محدود الموهبة وخلق موزارت عبقريًا؟ 

بقدرة قادر، تحوّل رونالدو من لاعب موهوب إلى أسطورة، وتحول ميسي، فجأة، من معجزة لا نظير لها إلى ندّ. ارتفعت الموهبة درجة، وقلّت المعجزة درجات.

رونالدو حالة شبيهة بساليري ومختلفة عنه في آن. برأيي فإن أكثر إنسان على وجه الأرض إدراكًا لفرادة ميسي هو رونالدو. رونالدو يعرف في قرارة نفسه أن ذلك البرغوث الأرجنتيني الصغير معجون من طينة أخرى، وأنه خارج المنافسة، وأن مجرد التفكير في الوقوف ندًا له يثير الرعب والارتعاش. كان أمام رونالدو طريقان: أن يصبح ساليري آخر تنهشه الغيرة إلى حد التدمير، أو أن يكافح ويجتهد لعل وعسى. روعة رونالدو التي لا شك فيها أنه اختار الطريق الثاني، وقد صرّح اللاعب السويدي زلاتان إبراهيموفيتش مؤخرًا أن إنجازات رونالدو تعود إلى مواظبته المدهشة في التمرين وقدرته على تطوير الذات، لا إلى موهبته. معجزة رونالدو الكبرى لا تكمن في موهبته، فهي مألوفة معتادة، لكنها تكمن تحديدًا في قدرته على إيهام الجمهور بأنه ميسي آخر. ساهم الإعلام وريـال مدريد تحديدًا في هذا الإيهام، لكن رونالدو لعب دورًا حاسمًا في استدامة هذه المقارنة وإطالتها. 

المقارنة بين ميسي ورونالدو لم تقدم شيئًا للأول، لكنها فجرت طاقات الثاني. لا يحتاج ميسي شيئًا كي يكون ميسي. هو ميسي صباحًا ومساءً، بتدريب ودون تدريب، بكأس عالم أو بدونه. هو ميسي لأنه، ببساطة، ميسي. رونالدو قصة أخرى. أن تنام عاديًا ثم تصحو فجأة وأنت مطالبٌ بأن تنافس من لا ينافَس. نجح ميسي في مسيرته، ونجح رونالدو في أكذوبة المقارنة هذه، واستمتع الجمهور حتمًا. والكرة الذهبية السادسة التي نالها ميسي قبل أسابيع قد تكون الوسيلة الأكثر عدالة لإنهاء هذا الفصل الكروي العجيب بين اللاعبين. فضّ ميسي الشراكة بينه وبين رونالدو على الورق أخيرًا، لكنه، بالنسبة لي، كان قد فضها أصلًا منذ أن لمست قدماه الكرة. وبعد أن يعتزل اللاعبان ويبدأ الناس في استرجاع ما مضى، أتوقع أن يعترف رونالدو بأن أعظم إنجاز كروي في حياته أن الناس صدقوا أنه ندّ لميسي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية