فرنسا والجزائر: مباراة لا تنتهي

الأربعاء 30 تشرين الثاني 2022
الجزائر فرنسا
مشجعون جزائريون يحتفلون أمام قوس النصر في شارع الشانزليزيه في باريس بعد فوز الجزائر في كأس أمم إفريقيا 2019. تصوير برتراند غواي. أ ف ب.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة Middle East Report، في عدد خريف 2022.

اشتُهِرَ الكاتب الجزائريّ كاتب ياسين، بإشارته إلى اللغة الفرنسيّة على أنّها «غنيمة حرب» للجزائر؛ فبعد استقلال الجزائر عام 1962، كان يمكن للجزائريّين استخدام اللغة الفرنسيّة بحرّيّة لا بوصفها موروثًا استعماريًّا، بل بوصفها لغة تخصّهم.

يمكن قول الشيء نفسه عن كرة القدم الّتي مارسها الجزائريّون في البدء في فرنسا. في عام 1962، نالت الجزائر استقلالها عن فرنسا، لكنّ إرث الاستعمار وتفكيكه ما يزال مؤثّرًا فيما تعنيه كرة القدم لعدد كبير من المواطنين ثنائيّي الجنسيّة بين هذين البلدين، إذ من بين كلّ عشرة أشخاص في فرنسا، هناك واحد تربطه صلات عائليّة مباشرة بالجزائر، وهو ما يعقّد أيّ تمييز في الانتماء القوميّ، ويلقي بالضبابيّة على الولاءات في كرة القدم. بالنسبة للمشجّعين، فهم يقرّرون أيّ بلد يشجّعون، وبعضهم يفضّل تشجيع كلا البلدين في البطولات الدوليّة، أمّا في حالة اللاعبين المحترفين، فلا بدّ لهم من اختيار البلد الّذي يريدون تمثيله.

وُلِدَ قائد المنتخب الجزائريّ الحاليّ، رياض محرز، والّذي يلعب أيضًا في مركز الجناح في «نادي مانشستر سيتي» البريطانيّ، لأبوين جزائريّين ينتميان إلى الطبقة العاملة، في بلدة سارسيل المختلطة الواقعة على أطراف باريس، والّتي هي الآن موطن لاستاد سُمِّي باسمه، يستضيف إحدى بطولات «كأس أمم إفريقيا» للمحلّيّين، وهي بطولة مشتقّة عن «كأس أمم إفريقيا»، يعلب فيها لاعبون غير محترفين يقيمون في فرنسا، ويمثّلون فيها بلدانهم الإفريقيّة الأصليّة.

كان قرار محرز باللعب للجزائر معاكسًا لقرار نجم «ريـال مدريد»، كريم بنزيما. بنزيما الّذي نشأ في أطراف مدينة ليون الفرنسيّة لأبوين جزائريّين، وفاز مؤخّرًا بجائزة الكرة الذهبية «البالون دور»، أكثر جائزة مرغوبة لأعظم لاعبي العالم، وهي الجائزة الّتي أهداها بنزيما للشعب، مستعيدًا بذلك ما قد يكون أقوى الرموز في السياسة الجزائريّة؛ أي الشعب. تعكس مسيرتا هذين اللاعبين تاريخًا طويلًا وواسعًا من التشابكات ما بين الجزائر وفرنسا عندما يتعلّق الأمر بكرة القدم، إضافة إلى ما تحمله من إشارات لدور رأس المال العالميّ المتزايد، خاصّة الخليجيّ، في تشكيل مشهديْ الرياضة الجزائريّ والفرنسيّ.

صعود «الاتّحاد» في الجزائر المستعمَرة

في مطلع القرن العشرين، كان المحامي الفرنسيّ والناشط الرياضيّ والديمقراطيّ المسيحيّ، جول ريميه، في خضمّ بعثة لـ«تحضير» العالم من خلال الرياضة. في عام 1904، أسّس ريميه «الاتّحاد الدوليّ لكرة القدم» (FIFA)، في باريس، ولاحقًا، شرع في التحضير لكأس العالم الأوّل. جرت عمليّة تأسيس الفيفا بالتوازي مع العَلْمَنَة الّتي كانت تجري في فرنسا، ولا شكّ بتأثيرٍ منها أيضًا؛ إذ أقرّ قانون العلمانيّة (The laïcité law)، وهو القانون الّذي أخضع الكنيسة للدولة، بعد عامٍ واحد فقط على تأسيس الفيفا. وكان قانون العلمانيّة قد بَنى على «قانون الاتّحادات» لعام 1901، الّذي عَمِلَ على قمع الأنظمة الدينيّة وأرسى البنية القانونيّة للتنظيمات المدنيّة المسمّاة بـ«الاتّحادات». ويمكن القول إنّ الاتّحادات قد شكّلت العمود الفقريّ للحياة المدنيّة الفرنسيّة، وفي ذلك الوقت، للحياة المدنيّة الإمبرياليّة كذلك. وهي ما تزال حتّى اليوم تشكّل البنية المؤسّسيّة الرئيسيّة لتنظيم الأنشطة الرياضيّة والترفيهيّة في فرنسا؛ فثمّة حاليًا ما يزيد عن مليون ونصف مليون اتّحاد تشكّل عائداتها ما يمثّل نسبة صاعقة من الناتج القوميّ الإجماليّ الفرنسيّ تبلغ 3%.

عَمِلَتْ كرة القدم في كلّ من المركز الاستعماريّ وأطرافه على الربط ما بين الأيديولوجيا العلمانيّة الفرنسيّة من جهة، وما بين التوقّعات الإمبرياليّة حول التماسك الاجتماعيّ والحركة من خلال الاندماج الثقافيّ. وقد أكّدت وجهات نظر ريميه عن الرياضة والتماسك الاجتماعيّ في مطلع القرن العشرين على ما كان سائدًا من معتقدات آنذاك، تمثّلت فيما يفترض أن يكون انتقالًا سلسلًا من الاستعمار إلى الهجرة ومن ثمّ الاندماج. وُدُعِمَتْ وجهات النظر هذه من خلال الحركة المتزايدة بين الطبقات في فرنسا الاستعماريّة؛ فريميه نفسه كان ابنًا لمزارعٍ، وقبل تأسيسه للفيفا، كان قد أسّس نادي «النجم الأحمر» عام 1897، وهو نادي كرة القدم العمّاليّ الأوّل للرجال. ومن خلال «النجم الأحمر»، سعى ريميه لنقل أفكاره المثاليّة إلى الواقع، والمتمثّلة بتحرير الطبقات العاملة وتحسين التماسك الاجتماعيّ الفرنسيّ من خلال الرياضة. ومنذ عشرينيّات القرن الماضي، شرع ريميه في تدعيم مشروعه من خلال التفكير بكرة القدم على أنّها «وسيلة للصداقة والتفاهم بين الشعوب».[1] لكنّ ما وراء هذه الفلسفة كان تفوّقًا عرقيًّا واضحًا، وستشهد الأعوام اللاحقة فرض خطاب حول القيمة الحضاريّة للرياضة على رعايا الإمبراطوريّة الفرنسيّة من الأصليّين الراغبين بلعب كرة القدم.

عندما لعبت فرنسا بشكل سيّء، وُجِّه اللوم للاعبين على وضعهم هويّاتهم السياسيّة والشخصيّة فوق المصلحة الوطنية الأكبر، إذ وُجِّه النقد لهم على صومهم خلال رمضان، أو في حالة باتريس إيفرا، على اتّهامهم العلنيّ لـ«الاتّحاد الفرنسيّ» بممارسة العنصريّة المؤسّساتيّة

مع تزايد انتشار كرة القدم في فرنسا خلال عشرينيات القرن الماضي، تمكّنت الأعراف العالميّة الّتي تضمّنتها الاتّحادات الفرنسيّة من التأثير في الحياة الرياضيّة والثقافيّة في الجزائر الفرنسيّة، خاصّة في المدينتين الحضريّتين الأكثر اكتظاظًا وهما العاصمة الجزائر ومدينة وهران. لكنّ التوتّر كان حاضرًا في لقاء المبادئ العلمانيّة العالميّة لكرة القدم، ولغيرها من المنظّمات المدينيّة، مع النهضة الشمال إفريقيّة الناشئة وسياساتها المعادية للاستعمار، والتي كانت قد بُنِيَتْ على المشاريع القوميّة العربيّة والعثمانيّة المتأخّرة وبالاتّصال معها. كما بدأ اليهود الجزائريّون أيضًا يشعرون بتأثير الاتّحادات اليهوديّة العابرة للحدود في عشرينيات القرن الماضي، وبشكل خاصّ تأثير شبكة «نادي مكابي إسطنبول» الرياضيّ، والّتي كانت جزءًا من منظّمة يهوديّة رياضيّة عالميّة أوسع، أسّسها رياضيّون يهود رُفِضَتْ عضويّتهم في نوادٍ رياضيّة واجتماعيّة أخرى.

ورغم هذه الروابط المحلّيّة والعابرة للحدود، وجد لاعبو كرة القدم الجزائريّون أنفسهم في الخطوط الأماميّة لممارسات التلقين النفسيّ الفرنسيّ؛ إذ شكّلت الاتّحادات مواقع لتلقين اللغة، في حين عَمِلَتْ الفرنسيّة على أن تكون الوسيلة الّتي من خلالها تُنْقَلُ قيم العلمانيّة والعالميّة ويجري استيعابها. وبعيًدا عن كرة القدم، جرى كذلك الترويج للغة الفرنسيّة من خلال السينما، النشاط الترفيهيّ الوطنيّ الجديد. في حين شكّلت «حركة الكشّافة المسلمة» نفسها على صورة الكشّافة الفرنسيّة، وأبقت على عناصر التربية المدنيّة الفرنسيّة الإمبرياليّة.

وبخلاف اليهود الجزائريّين المحلّيّين، استُثْنِي المسلمون من المواطنة السياسيّة، وحُرِموا من حقوق حرّيّة التعبير والتجمّع، بما يشمل الحقّ في إنشاء الاتّحادات. وبالرغم من ذلك، رَفضَت العديد من الشخصيّات الجزائريّة المسلمة المحلّيّة، من محبّي الرياضة، حرمان الجزائريّين الأصليّين من حرّيّات الجمهوريّة الفرنسيّة، وعَمِلوا على تشكيل نواديهم الرياضيّة الخاصّة، الّتي أطْلَقوا عليهم صفة «النادي الإسلاميّ»، أو «الاتّحاد الرياضيّ الإسلاميّ».[2] وكان «نادي مولوديّة الجزائر» الأوّل من بين هذه الأندية، حيث أُسِّسَ عام 1921. كان «مولوديّة الجزائر» ناديًا متعدّد الرياضات، وقد مَوْقَعَ نفسه لا في علمانيّة عالميّة ترتبط بالإدماج اللغويّ والثقافيّ الفرنسيّ، بل في سياق الأخلاق الإسلاميّة العالميّة المرتبطة بحركة علماء المسلمين الّتي كانت في طور النموّ آنذاك.

لاعبو كرة القدم الجزائريّون بين فرنسا و«جبهة التحرير الوطني»

مع تطوّر مشهد كرة القدم الجزائريّة، نَمَتْ ظاهرة الهجرة الاقتصاديّة للاعبي كرة القدم الجزائريّين إلى فرنسا. كانت الجزائر قبل استقلالها جزءًا قانونيًا من فرنسا، وكان للجزائريّين الحقّ في التنقّل ما بين فرنسا والجزائر، لكن ابتداءً من أربعينيات القرن الماضي وصاعدًا، اتّجه لاعبو كرة القدم الجزائريّون إلى فرنسا، إلى جانب لاعبين مغربيّين وتونسيّين وسنغال، ولكن بأعدادٍ أكبر بكثير.

كان لاعبو العاصمة الجزائر يتطلّعون إلى لاعبين مثل مصطفى زيتوني، الّذي انتقل إلى «نادي موناكو» عام 1954، ورشيد مخلوفي الّذي انتقل في العام نفسه إلى «نادي سانت إيتيان». لقد عبر هؤلاء اللاعبون المتوسّط، أوّلًا من خلال انتقالهم من أندية «مسلمة» إلى أخرى أوروبّيّة أكثر غنى وشهرة في الجزائر، ثمّ في انتقالهم لأندية فرنسيّة، وبذلك تمكّنوا من تحقيق الانتقال الاجتماعيّ، وغالبًا ما تمكّنوا من تذويت قيم الجدارة الرياضيّة. وكان تأثيرهم في الشباب الجزائريّ طريقة تمكنت من خلالها القوّة الناعمة للأيديولوجيا الإمبرياليّة الفرنسيّة أن تتغلغل داخل العلاقة بين كرة القدم الأوروبّيّة والأصلانيّة في الجزائر.

وقد ضَمِنَ العائد المادّيّ المتمثّل بالتحسّن الاقتصاديّ أن ينتهي المطاف بالعديد من اللاعبين المسلمين إمّا في فرنسا، أو بالالتحاق بالأندية الأوروبّيّة الغنيّة في الجزائر. وكانت الغالبيّة من هؤلاء اللاعبين غير مسيّسين قبل رحيلهم إلى فرنسا، لكن، وبعد نيلهم الاعتراف بمواهبهم الرياضيّة هناك، أصبحوا أكثر إدراكًا للتمييز العنصريّ الجاري في الجزائر المستعمَرة.[3]

على المستوى القوميّ، تمكّنت «جبهة التحرير الوطني الجزائرية» (FLN)، من إعادة العديد من اللاعبين الجزائريّين من فرنسا إلى الجزائر؛ ففي عام 1958، وفي إطار خطّة سرّيّة لـ«جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، أعدّها لاعبون جزائريّون محترفون في فرنسا، غادر عشرة لاعبين جزائريّين فرنسا خفيةً، وكان من بينهم المخلوفي وزيتوني، للاجتماع في تونس. أسّس هؤلاء اللاعبون المنتخب الّذي أعلنت «جبهة التحرير» في بيان رسميّ صدر يوم 15 نيسان أنّه سيعزّز من بزوغ «الهويّة القوميّة الجزائريّة».[4] وبين الأعوام 1958 و1962، لعب منتخب «جبهة التحرير الوطني لكرة القدم» أكثر من مئة مباراة ودّيّة أمام دول مؤيّدة لحقّ الجزائر في تقرير المصير، مثل فييتنام والصين والاتّحاد السوفييتيّ وكوبا، والعديد من الدول الإفريقيّة المتحرّرة من الاستعمار. وقد وافق كل منتخب مستضيف على رفع العلم الجزائريّ وعزف النشيد الوطنيّ الجزائريّ.

حاربت فرنسا مثل هذه المباريات الرمزيّة، واعترضت على اعتراف الفيفا بمنتخب «جبهة التحرير»، إلى درجة تهديدها بالعقوبات الاقتصاديّة ضدّ الدول الّتي تستضيف مباريات بينها وبين فريق «جبهة التحرير».[5] لم تلق مثل هذه المحاولات نجاحًا كبيرًا، فقد كان واضحًا وبشكل كبير أنّ الجزائر ستحصل على استقلالها، وأنّ فرنسا سيتحتّم عليها في النهاية أن تلعب ضدّ الدولة القوميّة الجزائريّة المتشكّلة حديثًا. وقد عَمِلَت الحركة الجزائريّة المعادية للاستعمار على إعادة توظيف الأفكار الفرنسيّة العالميّة الرياضيّة لتدعيم السيادة القوميّة؛ فقد كان تشكيلها لاتّحادات أصليّة جزائريّة مدنيّة رياضيّة، خطوة نحو الحقّ في تقرير المصير، سواء منتخب «جبهة التحرير الوطني» عام 1958، أو «نادي مولوديّة الجزائر» عام 1921. ومع وضع هذا السياق التاريخيّ في الاعتبار، ليس مستغربًا أن يثقل التاريخ على أكتاف لاعبين مثل محرز أو بنزيما، اللّذين تربطهمت جذورهما العائليّة بماضٍ حافل بالصراع والتخريب.

كرة القدم والضاحية

لم تنقطع الروابط الاجتماعيّة والعاطفيّة بين فرنسا والجزائر بسبب «حرب الاستقلال»، بل إنّ العقود الأولى الّتي تلت الاستقلال شَهِدَتْ تقاربًا في المصائر بين الجزائر وفرنسا؛ فبين عام 1963 وحتّى نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما أوقف الرئيس الفرنسيّ السابق فاليري جيسكارد ديستان سياسات لمّ شمل الأسرة، كانت فرنسا الوجهة الأكثر الشعبيّة للمهاجرين الجزائريين.

غالبًا ما تركّز الوجود الجزائريّ في الضواحي الحضريّة الفرنسيّة، وفيما يعرف بمدن الصفيح (Shantytowns)، حيث بُنِيَتْ مشاريع إسكان الضواحي «بونليو» (Banlieue) على تخوم المصانع الّتي عَمِلَ فيها المهاجرون المغاربة. وستُنْتِجُ الضواحي العديد من أعظم نجوم كرة القدم الفرنسيّين، منهم بنزيما ومحرز الّذي انتقل والداه إلى سارسيل في أواخر السبعينيات.

عَمِلَتْ الشخصيّات البارزة في كرة القدم داخل الديناميكيّات الاجتماعيّة المعاصرة في فرنسا على تثقيف شباب ما بعد الاستعمار من خلال نظام الشباب وتركيزه على النهوض بهم من الضواحي، وتشريبهم قيم الجمهوريّة الفرنسيّة.

كان للوجود المغاربيّ، وبشكل خاصّ الجزائريّ، تأثير حاسم في فرنسا ما بعد الاستعمار، وفي تطوّر مشروعها القوميّ وسياساتها. إذ تميل المخاوف الفرنسيّة المتعلّقة بالهجرة وقضايا الأمن والهويّة القوميّة والتماسك الاجتماعيّ إلى التركيز على الضواحي بوصفها مركزًا لهذه المخاوف؛ وقد ترافقت أحداث مثل حراك شباب كليشي سو بوا عام 2005، ضدّ وحشيّة الشرطة، بعد وفاة مراهقين فرنسيّين من أصول مهاجرة كانا يهربان من الشرطة في طريق عودتهما إلى المنزل من مباراة كرة قدم كانت تجري في حيّهما، مع تحوّل في المشهد السياسيّ نحو اليمين. وقد تصاعد الاهتمام الدائم بـ«الأمن» المدنيّ والقوميّ في هيئة مراقبة شرطيّة للضواحي الهامشيّة في أعقاب هجمات شارلي إيبدو ومسرح باتاكلان عام 2015.

أنشأ الخطاب الأمنيّ، إضافة إلى المراقبة التمييزيّة (Differential policing)، ثنائيّة عرقيّة ما بين الضاحية «العنيفة»، ومركز المدينة «المتحضّر»، مع مسحات استعماريّة بارزة، مستعيدة الفكرة الكامنة في اتّحادات كرة القدم القديمة، القائلة إنّها ستعيد تشكيل الرعايا المسلمين الجزائريّين الأصليّين من خلال المواطنة الصالحة والروح الرياضيّة. عَمِلَتْ الشخصيّات البارزة في كرة القدم داخل الديناميكيّات الاجتماعيّة المعاصرة في فرنسا على تثقيف شباب ما بعد الاستعمار من خلال نظام الشباب وتركيزه على النهوض بهم من الضواحي، وتشريبهم قيم الجمهوريّة الفرنسيّة. ففي الفترة الّتي سبقت فوز «الزُرُق» بكأس العالم لعام 1998، كان «الاتّحاد الفرنسيّ لكرة القدم» قد عَمِلَ على إنشاء ما قد يكون نظام أكاديميات الشباب الأكثر كفاءةً في العالم آنذاك. يمتدّ هذا النظام إلى القلب من الديناميكيّات الاتّحاديّة في حياة المجتمع المدنيّ الفرنسيّ، حيثُ ينظّم كرة القدم لشباب الضواحي الفرنسيّة، الّذين، بحسب وصف بول سيلفرستين، يعتبرون «مشكلة يجب إدارتها».[6] 

في القلب من آلة الترويج للتميّز في كرة القدم، يقع «المركز الوطنيّ لكرة القدم»، في كليرفونتين، والّذي كان نظام أكاديميّته مسؤولًا عن تنشئة كلّ من محرز وبنزيما. فمن ناحية، يخدِمُ المركز بوصفه شهادة على العلاقة العميقة ما بين العلم والرياضة، من خلال تبنّيه للمنهجيّات النفسيّة والتقنيّات الإحصائيّة، ومن ناحية أخرى، عَمِلَ نظام الأكاديميّة على استبدال المنظّمة الاستعماريّة الفرنسيّة لكرة القدم، بالإدارة ما بعد الاستعماريّة لأجيال من لاعبي كرة القدم لآباء أو أجدادٍ أتوا من المستعمَرات. اعتمد كلّ من «الاتّحاد الفرنسيّ» و«أكاديميّة كليرفونتين»، اللّذبن ركَّزا بقوّة على استقطاب لاعبي الضواحي، على لغة «التماسك الاجتماعيّ» لضبط اللاعبين. على سبيل المثال، قاد، باتريس إيفرا، السنغالي المولد، وقائد المنتخب الفرنسيّ خلال بطولة كأس العالم 2010، لاعبي المنتخب لمقاطعة ما اعتبره ممارسات عنصريّة مؤسّساتيّة على الفريق بعد طرد أحد زملائه، وكان ردّ «الاتّحاد الفرنسيّ» بأن أجلسه على الدكّة خلال البطولة، ولامه على محاولة زعزعة وحدة المنتخب الفرنسيّ خلال البطولة.[7]

رأس المال العابر للحدود يدخل إلى اللعبة

سيطرت ثلاثة أندية كرة قدم فرنسيّة خلال العقود القليلة الماضية على المشهد الكرويّ المحلّيّ، وحوّلت «المهمّة الحضاريّة» لكرة القدم إلى أداة استثمار لرأس المال العالميّ. ظهر النفوذ الماليّ الكبير لأوّل مرّة في اللعبة الفرنسيّة في نادي «أولمبيك مارسيليا» (OM)، خاصّة تحت إدارة رجل الأعمال برنارد تابي بين الأعوام 1986-1993. وفي موسم 1991-1992، فاز النادي بأوّل نهائيّ له في «دوري أبطال أوروبا»، قبل أن يجد نفسه لاحقًا في القلب من عدّة فضائح فساد تتعلّق بالتلاعب بالمباريات ورشوة الحكام.

هذه الفضاح مكّنت «أولمبيك ليون» من الصعود إلى قمّة كرة القدم الفرنسيّة تحت الإدارة الحذرة للمدير جان ميشيل أولاس بين الأعوام 1987 و2009. وفي حين همَّشَ «أولمبيك مارسيليا» أكايميّة الشباب التابعة له خلال فترة تراجع النادي، استثمر «أولمبيك ليون» بذكاء محلّيًّا، وبشكل خاصّ في لاعبي الضواحي الفقيرة اجتماعيًّا واقتصاديًّا مثل ضاحية برون تيراليون الّتي نشأ فيها بنزيما.

تمكّنت الاستثمارات العابرة للحدود في الإعلام والترويج الرياضيّ من الصعود بكرة القدم الفرنسيّة في المشهد الرياضيّ العالميّ.

أمّا ثالث هذه الأندية، فكان «باريس سان جيرمان»، الّذي أُسِّسَ عام 1970، ومنذ عام 2011، أصبح مركز قوّة عالميّ ومحلّيّ باستثمارات ضخمة في رواتب اللاعبين ورسوم الانتقالات. تعود ملكيّة النادي إلى ناصر الخليفي والمجموعة القطريّة للاستثمار الرياضيّ (QSI)، وهي عبارة عن صندوق استثمارات قوميّ سياديّ يقف وراء تنظيم «كأس العالم قطر 2022» أيضًا. كما يشغل الخليفي منصب رئيس إدارة «مجموعة BeIN» الإعلاميّة، وهي واحدة من أكبر شبكات البثّ الرياضيّة في العالم، بانتشار عالميّ وبلغات متعدّدة، يصل انتشارها إلى فرنسا، وإسبانيا، وتركيّا، وشمال إفريقيا، والشرق الأوسط، إضافة إلى الشراكات الّتي تجمعها باستوديوهات بريطانيّة وأمريكيّة وشبكات إعلاميّة أخرى.

تمكّنت الاستثمارات العابرة للحدود في الإعلام والترويج الرياضيّ من الصعود بكرة القدم الفرنسيّة في المشهد الرياضيّ العالميّ، فقد ترأّس تابي، رئيس «أولمبيك مارسيليا»، شركة «أديداس» بين الأعوام 1990 و1993. وإلى جانب النجاح الرياضيّ الفرديّ لبعض الأندية المحلّيّة، أصبحت فرنسا رائدة في استقدام عدد لا نهائيّ من المواهب الرياضيّة، ما مكّن أفرادًا معيّنين من بعض أفقر البلدات الفرنسيّة، مثل بلدة سارسيل حيثُ نشأ محرز أو برون تيراليون بلدة بنزيما، من تحقيق النجوميّة الساطعة في أعظم الأندية الأوروبّيّة.

تعكس مسارات هذين اللاعبين كيف يجري استبدال إرث الأيديولوجيا والاستثمار الاستعماريّ الفرنسيّ، اللّذين سعيا في الماضي إلى ربط لاعبي كرة القدم الجزائريّين الأصليّين بفرنسا، برأس مال عابر للحدود يزدادُ ضبابيّة؛ فمثلًا، «نادي مانشستر سيتي»، وهو النادي الّذي يلعب فيه رياض محرز، تعود ملكيّته إلى «صندوق استثمار أبو ظبي السياديّ»، وقد أصبح الفريق علامة تجاريّة عالميّة، ويشكّل محرز جزءًا أساسيًّا من استراتيجيّتهم الاستثماريّة.

الحاضر المتشابك

تمتدّ العلامة التجاريّة إلى ما وراء النادي والمنتخب وصولًا إلى الساحة الدوليّة؛ فرغم لعبهما لصالح منتخبين مختلفين، أي الجزائر وفرنسا، إلّا أنّهما يتقاطعان في ارتباطهما ببطولة كأس العالم المقدّرة بمليارات الدولارات، وهي البطولة الّتي تضيء على الحيّز المعقّد الّذي يشغلهُ لاعبو كرة القدم الجزائريّون-الفرنسيّون.

يجري التفكير في الفترة بين خسارة فرنسا في نهائيّ كأس العالم 2006 في ألمانيا، والّتي اشتُهِرَت بلقطة نطحة زين الدين زيدان، وما بين فوزها بكأس العالم 2018 في روسيا، على أنّها أزمة نسبيّة في كرة القدم الوطنيّة الفرنسيّة. فعندما أدّى «الزُرُق» بشكل سيّء في بطولتيّ كأس العام في جنوب إفريقيا والبرازيل، وُجِّه اللوم للاعبين على وضعهم هويّاتهم السياسيّة والشخصيّة فوق المصلحة الوطنية الأكبر، إذ وُجِّه النقد لهم على صومهم خلال شهر رمضان، أو في حالة باتريس إيفرا، على اتّهامهم العلنيّ لـ«الاتّحاد الفرنسيّ لكرة القدم» بممارسة العنصريّة المؤسّساتيّة، وهي نفسها الفترة الّتي أصبح فيها كريم بنزيما موضع احتقارٍ من اليمين المتطرّف.

تزامنت تلك الحقبة مع انضمام الجزائر إلى أفضل عشرين منتخب في تصنيف الفيفا؛ إذ كان المنتخب الجزائريّ قد خَسِرَ بفارقٍ ضئيلٍ أمام ألمانيا في دور الـ16 من كأس العالم 2014، وتلك كانت المرّة الأولى الّتي ينجح فيها المنتخب الجزائريّ في تجاوز مرحلة المجموعات. يشدّد المنتخب الجزائريّ على هويّته المسلمة، ويعرض هذه الهويّة على أرض الملعب من خلال المشاركة في السجود الجماعيّ بعد تسجيل الأهداف. ورغم أنّ نصف المنتخب قد وُلِدَ في فرنسا، والعديد من لاعبيه نشأوا في نظام الشباب الفرنسيّ، إلّا أنّ «ثعالب الصحراء»، كما يطلق عليهم، يُظهِرون مشاعر فخر كبيرة بالرموز القوميّة.

شَهِدَ عام 2018، أي قبل عامٍ من فوز الجزائر بـ«كأس الأمم الإفريقيّة» (2019) بقيادة رياض محرز، غياب المهاجم الأبرز، كريم بنزيما، عن تشكيلة منتخب كأس العام 2018. وقد كان استبعاد «الاتّحاد الفرنسيّ» لبنزيما عائدًا لاتّهامات بالرشوة والابتزاز وجّهها زميله في ذلك الوقت ماثيو فالبوينا. دافع مدرّب المنتخب، ديدييه ديشان، عن قرار الاستبعاد، مؤكّدًا في عدّة مناسبات على وجهة النظر القائلة بأنّ التماسك هو المفتاح للنجاح. بالإضافة إلى لازمة الانسجام، استخدم مدرّب المنتخب الفرنسيّ السابق ريمون دومينيك، كلمة «أمثولة»، للدفاع عن قرار استبعاد بنزيما.[8] وقد تساءل لاعب المنتخب الفرنسيّ السابق، الفائز بكأس العام 1998، فيكاش دوراسو، ما إن كانت مثل هكذا ضجّة وطنيّة ستدفع إلى قرار استبعاد بنزيما، وما إن كان «الاتّحاد الفرنسيّ» سيجعل من لاعب معيّن عبرةً لو لم يكن مسلمًا ملتزمًا ومن أصول جزائريّة.

لم تتأهّل الجزائر لكأس العالم قطر 2022، وكلّ من بنزيما ومحرز الآن في نهاية مسيرتهما الكرويّة. لكنّ حكايتاهما المتناقضتين بوصفهما لاعبين جزائريّين فرنسيّين يلعبان لأندية أوروبّيّة مختلفة ولمنتخبين وطنيّين مختلفين، تتوازيان مع تطوّر كرة القدم في الجزائر وفرنسا خلال منتصف القرن الماضي. إذ يمكن تتبّع جذور مسيرتيهما الكرويّة إلى الهجرة الجزائريّة إلى فرنسا في ظلّ الاستقلال الجزائريّ، فيما الآن ترتبطان بديناميكيّات رأسماليّة أكبر، في أماكن مثل مدريد ومانشستر، وكذلك دول الخليج العربيّ.

لكن رغم لعبهما لمنتخبين وطنيّين، ولأندية عالميّة مختلفة، يظلّ اللاعبان في اتّصال مع أحيائهما (quartiers)، وهو المصطلح الّذي يستخدمانه ليشيرا إلى حيّيهما، بدلًا من مصطلح بونليو (banlieue) الموصوم بشدّة. يمكن رؤية شعور بنزيما بانتمائه إلى حيّه في مشاريع متعدّدة، مثل استثماره الكبير في المسجد المحلّيّ. في حين أنّ استاد سارسيل الّذي يحمل اسم محرز -ويستضيف البطولات الخاصّة بالمهاجرين في فرنسا- هو شهادة على ارتباط محرز الدائم بالضاحية الفرنسيّة وصلتها بالعالم الفرنسيّ الإمبرياليّ الزائل.

  • الهوامش

    [1] La Fabrique de l«Histoire, «Épisode 4/4: Jules Rimet, du Red Star FC à la Coupe du monde,» radiofrance, April 25, 2019.

    [2] Mahfoud Amara and Ian Henry, «Between Globalization and Local »Modernity«: The Diffusion and Modernization of Football in Algeria,» Soccer & Society 5/1 (2004).

    [3] Stanislas Frenkiel, «Les footballeurs du FLN: des patriotes entre deux rives,» Migrations Société 110/2 (2007).

    [4] Mohamed Amine Azzouz, «La glorieuse équipe de football du FLN: fierté de tout un people,» El Moudjahid 14655 (November 2012), p. 18.

    [5] Josh Sippie, «Algeria«s Équipe FLN: The Movement That Used Football to Fight for Freedom,» These Football Times, November 21, 2017.

    [6] Paul Silverstein «World Cup Summer in Postcolonial France,» Pluto Press–blog, July 3, 2018.

    [7] Paul Silverstein, Postcolonial France: Race, Islam, and the Future of the Republic (Pluto Press, 2018), p. 112.

    [8] Julien Ricotta «Domenech sur Benzema: »La cohésion du groupe est plus importante,» Europe 1, April 13, 2016

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية