كيف نستمتع بالركض؟

الخميس 13 تشرين الأول 2022
الركض في عمان
أشخاص يركضون في ممشى الباص السريع. تصوير مؤمن ملكاوي.

هذه ترجمة بتصرف عن المقال الأصلي الذي نشر للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة Psyche بتاريخ 5 تشرين الأول 2022.

إذا كان جسمك يسمح بذلك، فثمة القليل من الأنشطة الأكثر تحريرًا من الركض. يمكن لتجربة الركض أن تكون تأمّليّة، بل وحتّى منوّمة مغناطيسيًا، إذا تركتم أنفسكم حبيسي الإيقاع. تمرّ المشاهد من حولكم في مقاطع أسرع وأكثر إثارة من المشي، لكن ليس سريعًا بحيثُ لا تستطيعون استيعابها كاملة. إضافة إلى أنّ الركض هبة يمكنكم أخذها معكم في أيّ مكان تذهبون إليه. من وسط لندن إلى جبال الألب النمساوية، سواء أكنت في رحلة عمل أو عطلة عائلية، كنت أرتدي حذائي، مستمتعًا بالرياح في شعري وبهذه الضجة المرضية، المتعرقة، المليئة بالإندورفين في النهاية.

تقول ماريسكا فان سبريندل، وهي مدرّبة ركض ومؤلّفة كتاب «الركض بذكاء» (Running Smart): «لم أندم أبدًا على مرّة ركضت فيها، في بعض الأحيان تشعر بعدم الرغبة في الركض، ربّما لسوء الطقس أو لأنّك متعب من العمل وحسب، لكن لم يسبق لي أبدًا أن عدت إلى المنزل وفكّرت: «يا رجل! كم أتمنّى لو لم أركض اليوم»، ذلك أنّ الركض دائمًا ما يكون منعشًا، ودائمًا ما يساعدني على وضع مخاوفي في إطارها الصحيح». 

ربّما كنتم تعرفون بالفعل أنّ للركض العديد من الفوائد؛ فهو جيّد للصحّة الجسمانيّة، إذ يعيش العدّاؤون أكثر بثلاث سنوات بالمقارنة مع مَنْ لا يركضون، وهو جيّد للصحّة النفسيّة أيضًا؛ إذ يعزّز الركض الأداء الإدراكيّ، ويحسّن من القدرة على ضبط العواطف والتعامل مع التوتّر.  

ومع ذلك، سيكون شاقًّا ومرهقًا في البداية على مَنْ لم يُجرِّبْ الركض من قبل أن يبدأ لأوّل مرّة. في هذه الأيّام، تركضُ فان سبريندل خمس مرّات أسبوعيًّا، لكن، بالنظر إلى الوراء، لم يكن الأمر سهلًا عندما بدأت الركض برفقة صديقة من الجامعة: «بعد عشر دقائق من الركض، عانينا من وخزةٍ في الخاصرة ولم نستطع أن نتنفس». لم تكن المرّة الأولى صعبة فحسب، بل كذلك الثانية والثالثة: «لكنّك سريعًا ما تحرز تقدّمًا عندما نتحدّث عن القدرة على التحمّل، أعتقد أنّنا وخلال أقلّ من عام كنّا قادرتين على الركض 10 كيلومترات في الساعة، وكان ذلك محفّزًا جدًّا». 

للركض العديد من الفوائد؛ فهو جيّد للصحّة الجسمانيّة والنفسيّة، إذ يعزّز الأداء الإدراكيّ، ويحسّن من القدرة على ضبط العواطف والتعامل مع التوتّر.

ربّما تكونون اعتدتم الركض، لكنّكم لم تفعلوا ذلك منذ زمن طويل، والآن تصارعون من أجل العودة مرّة أخرى، أعرفُ ذلك الشعور، فقد كنت منذ كبرت عدّاءً متقطّعًا؛ فبمجرّد أن يتوقف المرء عن ممارسة الركض، خاصّة مع التقدّم في السنّ، تصبح إمكانيّة العودة إليه غير جذّابة ومحبطة. لكن، من واقع خبرتي، سريعًا ما نحصد الثمار بمجرّد عودتنا إلى ممارسة الركض مرّة أخرى.

سواء أكنتم مبتدئين أم تحاولون إعادة بعث عادة قديمة، سيساعدكم في ذلك معرفة أنّ الانزعاج النفسيّ المرافق لمحاولتكم هو أمر طبيعيّ تمامًا. تشرح نويل بريك، وهي مختصّة نفسيّة رياضيّة ومحاضرة في «جامعة ألستر»، أنّ لكلّ منّا عتبة تنفّسيّة، وهذه العتبة هي النقطة الّتي فيها يزيد معدّل تنفّسنا بشكل كبير لمجاراة درجة المجهود المبذول. وكقاعدة عامّة، عند تجاوزنا لهذه النقطة سنجد أنّ الجهد المبذول، في أفضل أحواله، مزعج بطريقة أو بأخرى. لكن، بالطبع، ترتفعُ هذه العتبة مع اكتسابنا اللياقة، إلا أنها ستكونُ أقلّ بكثير عند بداية ممارسة الركض، وسريعًا ما سيشعر المبتدئ بالانزعاج.  

الأخبار الجيّدة هي أنّ المختصّين النفسيّين قد طوّروا العديد من التقنيات والتوجّهات الّتي يمكنها مساعدتكم في تخفيف مشقّة الركض وجعله تدريجيًّا أكثر إمتاعًا وتسلية. إلى جانب حديثي مع فان سبريندل وبريك، توجّهت للحديث مع عدد من الخبراء الّذين سأشارك نصائحهم هنا لمساعدتكم.

تحدّوا معتقداتكم عن مُحدِّداتكم الذاتيّة

يقول مختصّون نفسيّون إنّ الإيمان بالمحدِّدات الذاتيّة هو أوّل وأكبر العوائق في طريقك ممارسة الركض والاستماع به. ربّما تخطر في بالكم أفكار مثل «لن أكون عدّاءً أبدًا»، «لقد كبرت على الركض»، أو أشياء مشابهة. إن كنتم تعتقدون أنّ الركض لا يخصّكم، أو أنّكم غير قادرين على أن تكونوا عدّائين، أو أنّ الركض لا يستحقّ العناء إلّا في حال كان يخدم الوصول لهدف اعتباطيّ؛ فإنّكم ستجدون صعوبة كبيرة في بناء الحافز اللازم للبدء في الركض. بالطبع، بعض الناس لديهم بالفعل محدِّدات بدنيّة حقيقيّة تمنعهم عن الركض، لكنّ معظم الناس لا مشكلة لديهم، لهذا، ضعوا معتقداتكم قيد الاختبار. 

حدَّد الباحث في تغيير السلوك الصحّيّ في «جامعة برانديس» في ماساشوسيتس، نوعين من المعتقدات غير المفيدة بشكل خاصّ عندما يتعلّق الأمر بالتمرّن: الأوّل، المقارنة بين ما تستطيع فعله الآن وما اعتدت فعله في الماضي، والثاني، الاعتقاد أنّ النشاط لا يستحقّ العناء إلّا إذا كنت قادرًا على تحقيق هدف أدائيّ غير واقعيّ. 

يوصي كومبف بالتفكير في مفهوم الـ«القابليّة» (Workability) كأداة تساعد في تحدِّي هكذا معتقدات؛ وهنا لا تكون قابليّة فكرة ما للتطبيق تتعلّق فيما إذا كانت الفكرة صحيحة أم خاطئة بشكل واقعيّ، لكن فيما إذا كانت تساعدكم على عيش الحياة الّتي تريدونها. إذا لم تكن تساعدكم، يشرح كومبف، يمكنكم إذن تحدّيها، أو غضّ النظر عنها بلطفٍ وإيجاد أفكار بديلة. 

على سبيل المثال، يقول كومبف، تخيّلوا أنّكم تعتقدون أنكم لو لم تكونوا قادرين على ركض خمسة كيلومترات، فلا فائدة من الركض إذن. لكن، باستخدام «القابليّة»، ستسألون أنفسكم إن كان هذا الاعتقاد يساعدكم أو يعيقكم عن تحقيق أهدافكم؛ إذا قرّرتم أنّه لا يساعد، حاولوا تحدّيه. مثلًا، يمكنكم أن تسألوا أنفسكم: «لماذا عليّ استخدام خمسة كيلومترات كمعيار؟»، أو «لماذا أعتقد أنّ ذلك صحيح؟». 

سيساعد أيضًا القراءة عن أشخاص مثل كاثرين سويتزر، أوّل امرأة تركضُ «ماراثون بوسطن» في عام 1967، والّتي استمرّت في المشاركة في مارثونات عديدة منذ ذلك الوقت، أو الأخذ بالاعتبار كيفيّة تأقلم الجسد مع التمارين: «كلّما فعلت أكثر، ستكون قادرًا على فعل المزيد في النهاية»، يقول كومبف. 

ضعوا أهدافًا واقعيّة 

يمكن للأهداف أن تكون محفّزة بشكل كبير، إذ تعطي المرء شيئًا يطمح إليه، لكن إن وَضَعْتم أهدافًا مفرطة الطموح، قد تعود بالسلب عليكم وتترككم محبطين. لذا، من المهم وضع أهداف تلائم حالتكم، وقدراتكم والأسباب الّتي من أجلها تريدون الركض. 

توصي فان سبريندل العدّائين المبتدئين بوضع أهداف بعيدة المدى لأنفسهم، مثل القدرة على ركض خمسة كيلومترات، لكن أيضًا أن يمنحوا أنفسهم بعض الأهداف السهلة نسبيًّا وقصيرة المدى، مثل الركض حول الحيّ أو الركض لكيلومتر واحد للمرّة الأولى دون توقّف. «اختاروا شيئًا قابلًا للتحقيق، وعندما تنجحون سيكون ذلك جيّدًا لشعوركم بالكفاءة الذاتيّة، وسيتبع ذلك زيادة في احترامكم لأنفسكم، وفي المرّة المقبلة، ربّما تطمحون إلى ركض كيلومترين، أنتم بحاجة إلى هذه الانتصارات الصغيرة للوصول إلى أهداف بعيدة المدى». 

يعيّن كومبف تمييزًا آخر مفيدًا ما بين «الأهداف النهائيّة»، و«الأهداف السلوكيّة»؛ فالأهداف النهائيّة قد تكون شيئًا مثل الوصول إلى قطع خمسة كيلومترات في غضون ستّة أشهر، في حين أنّ الأهداف السلوكيّة تتعلّق بالاستمراريّة، وقد تكون شيئًا مثل الركض لمرّة واحدة أسبوعيًّا بشكل دائم. «دائمًا جهّزوا أنفسكم للنجاح، وتخلّصوا من الأداء بوصفه عائقًا أمام البدء، ربّما تركضون نصف ميل في المرّة الأولى، ذلك رائع، افعلوا شيئًا تشعرون معه بالراحة والثقة»، يقول كومبف. 

يشدّد كومبف مرّة أخرى على أهمّيّة إيجاد ما يساعدكم على التمسك بأهدافكم، مثل أن تخبروا أصدقاءكم وعائلتكم بأهدافكم، أو أن تضعوا ملاحظة بما تحتاجونه للبقاء في المسار الصحيح، مثل شخص تركضون رفقته، أو زوج أحذية جيّد، أو مكافأة بعد كلّ عَدْو. أو سؤال أنفسكم عن الأسباب عندما تعانون من العثرات، وتضَعون إجراءاتٍ وقائيّة لمنع هذه العثرات مستقبلًا (مثلًا، ربّما كنتم تشعرون دائمًا بالتعب بعد العمل، وإن كان الأمر كذلك، جدوا وقتًا أكثر ملاءمة خلال الأسبوع للركض). أو التفكير في وضع «التزام»، ففي حين أنّ الهدف شيء يطمح الإنسان إليه، فإنّ الالتزام شيء يفعله بغضّ النظر عن أيّ شيء آخر، مثل الهرولة لخمس دقائق مرّة أسبوعيًّا. من شأن ذلك «أن يحدث فارقًا هائلًا في الإبقاء على الروتين مستمرًّا»، يقول كومبف، «في حين أنّ إهمال تمرين مخطّط مسبقًا سيؤدّي إلى الخروج عن المسار بسهولة أكبر».

لقد فكّرت بهذه النصيحة بنفسي، ووضعتُ التزامًا بالركض مرّة واحدة على الأقلّ كلّ أسبوعين (لأيّ مسافة لا يهمّ). دائمًا ما كان هدفي قصير المدى هو نفسه، إن كنتُ في مزاج جيّد، سأحاول مستخدمًا تطبيق التمارين الشهير (Strava) تحقيق أداءٍ شخصيّ أفضل، أمّا هدفي طويل المدى، فهو الركض 10 كيلومترات والاستمتاع بالركض في مناطق جديدة.

شتّتوا أنفسكم

بعد الانتهاء من الأهداف والمعتقدات، تكون الخطوة التالية هي جعل تجربة الركض الفعليّة أكثر إمتاعًا (أو على الأقلّ أقلّ فظاعة)، لتتمكّنوا أخيرًا من البدء بالاستمتاع باللحظات الممتعة والمحرّرة الّتي يمكن أن يمنحكم إياها الركض.

يقول بريك إنّ تشتيت الانتباه المتعمّد «يمكن له تغييب مشاعر عدم الراحة البدنيّة مثل الشعور بانقطاع النفس أو الأوجاع في العضلات». كذلك يمكن للإلهاء إبطاء الوتيرة، وهو غالبًا بالضبط ما يحتاج المتبدئون إلى فعله لمنع أنفسهم من التوقف في مرحلة مبكّرة من الركض.  

تكمن أهمّيّة الإلهاء بشكل خاصّ لمساعدتكم على إدارة الشعور بعدم الراحة الناتج عن دفع أنفسكم لما وراء عتبتكم التنفّسيّة، وصولًا إلى النقطة الّتي عندها كلّما ارتفعتم بعتبتكم التنفّسيّة، صرتم أكثر قدرة على البدء في تدريب لياقة القلب والأوعية الدمويّة، الأمر الّذي سيؤتي ثماره على المدى الطويل، لكنّه أيضًا سيترافق مع ازدياد شعوركم بعدم الراحة خلال الركض في الوقت الحاليّ، وهنا تزداد أهمّيّة تقنيّات إلهاء النفس. «هناك وسيلة جيّدة لتحديد هذه النقطة، أي العتبة التنفّسيّة، وهي اختبار الكلام»، تقول بريك. «إن كان الشخص قادرًا على قول جُمَلٍ كاملة، فما يزال تحت العتبة، وإن كان غير قادر إلّا على قول كلمات منفصلة، فهو فوق العتبة تمامًا، وإن كان قادرًا على نطق بضع كلمات قبل أخذ نفس لإكمال الجملة، فهو قريب من الوصول إلى العتبة التنفّسيّة». 

يمكن لتقنيّات الإلهاء أن تكون سهلة، مثل الدردشة مع رفيق الركض، أو الاستماع لبودكاست أو للموسيقى، أو تأمّل المناظر المحيطة، أو إغراق النفس عميقًا بالأفكار، أو العمل على أحجيات ذهنيّة. 

شخصيًّا، أجد من المستحيل الركض دون الاستماع للموسيقى، لذلك عادة ما أبقي سمعي متنبّهًا للتسجيلات الّتي تجعلني أرغب بالحركة أو تفجّر طاقة في داخلي وأضعها في قائمة موسيقيّة، عادة ما تكون هذه التسجيلات من موسيقى التكنو العنيفة سريعة الإيقاع، مثل موسيقى الهيب هوب أو الراب الّتي لن أستمتع بها في سياقات أخرى، لكنّها تمدّني بالطاقة خلال الركض. بعض التقنيّات الأخرى، عديمة الجدوى والمحرجة، الّتي أستخدمها، هي تخيّل نفسي مثل مصارعٍ يقطع المسافات قبل نزالٍ ما، أو مثل شخصيّة في واحدة من تلك المونتاجات التدريبيّة في فيلمٍ ما. في أوقاتٍ أخرى أذكّر نفسي بالسبب الّذي يدفعني لاكتساب اللياقة (مثلًا، حتّى أتمكّن من اللعب برفقة أطفالي الصغار، أو من أجل احترامي لنفسي). أحيانًا أفكّر بالدراسة الّتي تقول إنّ البشر تطوّروا ليكونوا عدّائي مسافات طويلة، ويمكن لهم حتّى هزيمة الأحصنة في الماراثونات؛ فكلّما طال التزامكم، سيكون من المشجّع التفكير، على مستوى عميق، بأنّ ذلك ما وُلِدتم لفعله.

تحكّموا في وتيرتكم 

من المؤكّد أنكم ستشعرون بانقطاع النفس في المرّات القليلة الأولى الّتي تركضون فيها، لكن وبمجرّد أن تتمكّنوا من بناء القليل من اللياقة، فإنّ من المهمّ، وفقًا لبريك، ضبط إيقاع الجسد، حتّى لا تحرقوا طاقتكم سريعًا. «إحدى الأخطاء الّتي غالبًا ما يرتكبها العدّائون المبتدئون، هي الركض السريع في بداية النشاط، الأمر الّذي يعني في النهاية أنّهم سيختبرون مستوىً عاليًّا من الإجهاد ومشاعر انزعاجٍ بدنيّة وأفكارًا سلبيّة (مثل «أنا أكره الركض»)، ما يؤدّي إلى نزوع إلى الإبطاء أو التوقّف قبل الوصول إلى النقطة النهائيّة، تذكّروا أنّكم لستم مضطرين للركض لـ15 دقيقة متواصلة دون مشيٍ إن كنت مبتدئين، أنتم تعرفون أجسادكم، إن كان عليكم التقاط أنفاسكم، فقط امشوا لدقيقة ومن ثمّ عُودوا إلى وتيرتكم في الركض مرّة أخرى». 

«وفي حين أنّ من المهمّ ألا تصبحوا معتمدين بشدّة على التكنولوجيا بدلًا من الإصغاء إلى جسدكم»، تقول بريك إنّ استخدام الساعة الذكيّة لتتبّع الركض يمكن أن يكون طريقة رائعة للمبتدئين لتعلّم التحكّم بالوتيرة، كما يمكن أن يضيف عنصرًا مسلّيًّا إضافيًّا لهواية الركض. 

وعندما تصبحون أكثر خبرة، ستصبحون قادرين على معرفة إن كنتم سريعين أو بطيئين، بالاستناد إلى معاييركم المعتادة. أنا أستخدم تطبيق Strava لهذا الأمر أيضًا، فإن ركضت المسافة الأخيرة ببطء نسبيًّا وفقًا لمعاييري، فغالبًا ما يعطيني ذلك الزخم اللازم لضخّ المزيد من الجهد في الركض. 

تكلّموا مع أنفسكم

غالبًا ما ستكونون وحيدين في كثير من الأوقات الّتي تخرجون فيها إلى الركض، إلّا إذا كان لديكم رفيق ركض مخلص، ويمكنكم استغلال هذه الأوقات كفرصة للسيطرة المتعمّدة على صوتكم الداخليّ لصالح تعزيز دافعكم وتحسين تجربتكم في الركض. 

يقول أليستر مكورميك، وهو أخصّائيّ نفسيّ رياضيّ في «جامعة بلايموث مارجون» في المملكة المتّحدة، حيث يدرّس رياضات التحمّل، عندما يتعلّق الأمر بجعل تجربة الركض أكثر إمتاعًا فإنّ ثمّة دليلًا على أنّ الحديث الذاتيّ التحفيزيّ بشكل خاصّ (مثل «أنت قادر على هذا!»، «ادفع بقوّة أكبر»، «استمرّ»)، يمكن له جعل التجربة تبدو أقلّ إجهادًا أو إرهاقًا. «أوصي باستخدام الكثير من أحاديث التحفيز الذاتيّة، لكن أيضًا أحاديثًا تعليميّة تتعلّق بالوتيرة، والتنفّس، وأسلوب الركض (مثلًا «لنبدأ ببطء، يمكن إسراع الوتيرة لاحقًا»)». 

وعندما يتعلّق الأمر بمعرفة ما الّذي يجب قوله، ينصح مكورمك بالتفكير في الغاية من القول: «هل تحاولون التحفيز، أم تحاولون أن تكونوا مدرّبي أنفسكم، أم التحكّم في أعصابكم، أم إدخال أنفسكم في وتيرة ما؟ اختاروا عبارات بسيطة وقصيرة (مثلًا، «هيّا، احفر أعمق!»، «انتبه لأنفاسك»، «يمكنك فعلها»)، أي العبارات الّتي تؤدّي الغرض المطلوب تحقيقه. يجب أن تكون عبارات الحديث الذاتيّ «صحيحة» بالنسبة لكم شخصيًّا، جرّبوها في التدريب، وفكّروا فيما يساعد أو لا يساعد منها، وانتقوا الصحيح منها». 

بالنسبة لي، أجد الحديث الذاتيّ مفيدًا بشكل خاصّ عند بداية الركض، عندما أشعر بجسدي غالبًا في حالة من الركود المقلق (خاصّة إن كنت أجلس وراء مكتبٍ لفترة طويلة). ربّما أفكر أنّ «العمر له حقّ عليّ» أو «من الواضح أنّني لم أنم جيّدًا ليلة أمس وربّما عليّ العودة وتفويت الركض لهذا اليوم». في هذه الحالات أستخدم الحديث الذاتيّ لمكافحة هذه الأفكار، وأذكّر نفسي أنّ مشاعر الركود هذه ليست غريبة عليّ؛ أقول لنفسي إنّني سأستمتع بمجرّد أن أبدأ، وأجبِرُ نفسي على التركيز في تكنيكي. وفي بعض الأحيان أيضًا، أصفُ لنفسي مشاعري البدنيّة بتجرّد، كما لو كنت عالمًا يدرسُ شخصًا كعيّنة (هذا النوع من تقنيّات إعادة التقييم الّتي «تُخرجكم خارج جسدكم»، وتخلق مسافة بينكم وبين إحساسكم بالانزعاج البدنيّ). 

جرّبوا تقنيّة التركيز هذه حتّى نهاية ركضكم 

بدأ علماء الرياضة يدركون بشكل متزايد أنّ تجربتنا للجهد البدنيّ هي تجربة ذهنيّة لا جسمانيّة إلى حدّ كبير؛ فإن اعتقدنا أنّ لدينا الطاقة اللازمة للاستمرار، سنكون قادرين على ذلك، في حين لو اعتقدنا أننا لا نقوى على ذلك أو أن ما تبقّى من مسافة أكبر من طاقتنا لركضها، عندها سنعاني ونشعر بالإجهاد. وهنا تأتي «نظريّة التدرّج نحو الهدف»، والّتي من شأنها مساعدتنا في الاستمتاع والتحكّم في وتيرة نهاية ركضنا بشكل أفضل. 

«لقد اختُبِرَتْ في البداية على الفئران والجرذان؛ الفكرة هي أنّنا كلّما اقتربنا من نهاية ما، مثل اقتراب الفأر من الحلوى في نهاية المتاهة، نعمل على دفع أنفسنا بقوّة على تخطّي خطّ النهاية»، تشرح إميلي بالكيتيس، وهي أخصّائيّة نفسيّة في «جامعة نيويورك» ومؤلّفة كتاب «أكثر وضوحًا، أقرب، أفضل (Clearer, Closer, Better). «بحسب التجربة المخبريّة؛ إذا كان الاقتراب الفعليّ من الهدف يزيد من الجهود المبذولة لتحقيق ذلك الهدف، فإذن، ربّما يكون لوهم الاقتراب من الهدف الأثر ذاته». 

في عمل لاحق، استطلعت بالكيتيس رفقة زملائها توجّهات مجموعة من الناس حول ميلهم الطبيعيّ لتركيز انتباههم عندما يكونون في الخارج، واستخدم نظام تحديد المواقع (GPS) لمعرفة ما إن كان لهذا التركيز الضيّق أيّ عواقب ظاهرة. وجدت الدراسة أنّ المشاركين الّذين قالوا إنّهم مالوا إلى «تحديد إشارات التوقّف، أو المباني، أو التقاطعات كأهدافٍ»، و/ أو الّذين «ركّزوا انتباههم البصريّ على أشياء مثل ضوء يسطع في بقعة معيّنة، إلى أن وصلوا إليها»، كانوا أكثر ميلًا للمشي والركض في أوقاتٍ أكثر وبفعاليّة أكبر بالمقارنة مع المشاركين الّذين لم يكن لديهم هذه العادة الانتباهيّة. علاوة على ذلك، وجد فريقها أنّ من الممكن تدريب تركيز الانتباه وفقًا لهذه الطريقة. وفي دراسة أخرى، تبيّن أنّ الناس الّذين درّبوا أنفسهم على تضييق تركيزهم الانتباهيّ يركضون بشكل أسرع وأقلّ شعورًا بالألم من المجموعة المرجعيّة. «كانوا كما لو أنّهم يرتدون طمّاسات، لقد ركَّزوا على أهدافٍ معيّنة حتّى تجاوزوها، وبعد ذلك حدّدوا أهدافًا جديدة»، تشرح بالكيتيس، «هذا الأمر شديد الفعاليّة خاصّة عندما تقترب من نهاية ركض أو مشي، عندما تكون الطاقة شحيحة وأقلّ فعاليّة إن استُخْدِمَتْ مبكّرًا جدًّا».

استمتعوا

عندما تخرجون إلى الركض هنّئوا أنفسكم، فقد تخطّيتم الجزء الأصعب في الغالب، وهو الاستسلام للمماطلة والكسل. أنتم تفعلون ذلك، أنتم تركضون، أنتم عدّاؤون تبنون لياقتكم، وقد بدأتم بالفعل في تكييف عضلاتكم ومفاصلكم. تملّوا المناظر الّتي تمرّون بها، بتنوّع الأصوات والمشاهد؛ فحتّى وإن كنتم تركضون بطيئًا، سيظلّ العالم من حولكم يتحرّك بشكل أسرع ممّا لو كنتم تمشون، وربّما ستُدهشون من مساحة الأرض الّتي يمكنكم قطعها. كلّ شيء دائم التغيّر من حولكم، اشعُروا بالهواء يلفح وجوهكم، في شعركم، وعلى بشرتكم، لقد أصبحت أحرارًا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية