الرحلة الفريدة للاعبة التنس التونسية أُنس جابر

الثلاثاء 02 تشرين الثاني 2021
لاعبة التنس التونسية أُنس جابر خلال مباراة نصف النهائي في دورة إنديان ويلز الأمريكية أمام الإسبانية باولا بادوسا. تصوير فريدريك جيه براون. أ ف ب.

كان يمكن للمباراة التي لعبتها أُنس جابر، قبل أربعة أشهر، في الدور الثالث من بطولة ويمبلدون، أن تسير وفق ما اعتاده مشجّعو لاعبة التنس التونسية، وتنتهي بخسارتها المؤلمة أمام إحدى أفضل اللاعبات في العالم، والتي توّجت بلقب هذه البطولة في العام 2017. كان يمكن أن نقرأ عن أداء أُنس الجميل وضرباتها التي حبست أنفاس جمهور الملعب المركزي، في خبر قصير يلخّص نتائج اليوم، وأن نعلّق بالرضا البائس الذي يفرضه سقف توقّعاتنا المنخفض: «قدمت مباراة جيدة ولكن الحظ لم يحالفها». كان يمكن لأُنس أن تعود إلى الفندق بحسرة من أتاحت للفرصة تلو الأخرى بالتسرّب من بين أصابعها، أو أن تعزّي نفسها بمستواها الرفيع. عزاء تزاحمه خشية أن تخيّم على مسيرتها ظلال الأسئلة الافتراضية: ماذا لو لم أتردد؟ لمَ لم أختر الضربة المناسبة؟ ماذا لو كانت الكرة أقرب بمليمتر واحد من الخط؟ ولكن أليست تلك المليمترات القليلة هي المسافة التي تفصل لاعبة جيّدة «لا بأس بها» عن لاعبات النخبة؟ إنها مسافة لطالما استعصى على أُنس اجتيازها. 

كان يمكن لهذا السيناريو أن يتحقق لو أن الإسبانية غاربينيي موغوروثا كسرت إرسال أُنس جابر بينما كانت التونسية ترسل للفوز بالمجموعة الثانية ومعادلة نتيجة المباراة. ارتجفت يد أُنس وهي ترسل للفوز بالمجموعة بعد أن كسرت بصعوبة شديد إرسال منافستها، كانت على بعد نقطة واحدة، خطأ بسيط، جزء من الثانية، من التفريط بإرسالها.

التنس رياضة النقاط المهمة ولن يكترث أحد بعدد النقاط التي أحرزتها اللاعبة أو بعدد فرص كسر الإرسال التي حازتها ما لم تتمكن من الفوز بالنقاط المهمة حقًّا. لم يكن أحدٌ ليتفاجأ لو أن أعصاب أُنس خذلتها مجددًا في النقاط المهمة حقًّا، فهذه ليست المرة الأولى التي ترتجف فيها يد أُنس وهي ترسل للفوز بمجموعة أو بمباراة ما. ولكن شيئًا مخالفًا لكل التوقعات حصل، إذ نجحت أُنس بإحراز 16 نقطة على التوالي لتفوز بالمجموعة الثانية وتتقدم بشوطين دون مقابل في الثالثة وتقلب موازين المباراة. احتضن ملعب ويمبلدون المركزي أو كاتدرائية التنس -كما يحلو لمحبي الكرة الصفراء وصفه-، أهم نجوم التنس وأساطيره، من الأميركي بيت سامبراس إلى السويسري روجر فدرير، من الألمانية شتيفي غراف إلى الأميركية سيرينا ويليامز، لكن أحدًا منهم لم يتمكن من الفوز ب 16 نقطة على التوالي في مباراة واحدة على الملعب المركزي. أنهت جابر المباراة ب 44 كرة ساحقة و29 فرصة لكسر إرسال منافستها، استغلّت خمس فرص منها. 

الأرقام تخدع وقد لا تعكس أحداث المباراة بالضرورة. قد يقول من لم يشاهد المباراة أن موغوروثا، كعادتها، فقدت تركيزها وسمحت لجابر بالعودة إلى المباراة بارتكابها الأخطاء المباشرة، غير أن جابر لم تفز بفضل أخطاء منافستها، بل لأنها حلّقت إلى قمّة لم يكن بوسع موغوروثا إدراكها. أن تحوّل اللاعبة الرياضة إلى فن والعشب الأخضر إلى لوحة، أن تسدّد كراتٍ تتحايل على قوانين الفيزياء، أن يكون لكل كرةٍ ترتطم بمضربها صوت أقرب إلى الموسيقى، أن تجمع بين اللمسات الأنيقة والقوة الهادئة والضربات التي تشبه خدع لاعب الخفّة، أن تجعل اللاعبة بذكائها وسرعتها المنافِسة مجرّدة متفرّجة: هذا ما فعلته أُنس في عرضٍ كرّرته أمام البولندية إيغا شفيونتيك في الدور التالي. وكما كانت الحال في مباراتها أمام موغوروثا فقد خسرت أُنس المجموعة الأولى أمام شفيونتيك بالنتيجة ذاتها: خمسة إلى سبعة، ولكنها جمعت مجددًا بين الأداء الفنّي المدهش والروح القتالية لتقلب نتيجة المباراة وتتأهل إلى الدور ربع النهائي، وتصبح بذلك أول لاعبة تنس عربية تبلغ هذا الدور، الذي توقفت رحلتها في البطولة عنده.

بلغت أُنس الدور ربع النهائي في بطولة أستراليا المفتوحة في بدايات العام الماضي، في «عصر ما قبل كورونا» ولكن أداءها في ويمبلدون كان مختلفًا، فالطريق التي شقّتها كي تبلغ هذه المرحلة كانت أصعب، واللاعبات اللواتي هزمتهن كنّ أفضل، وقدرتها على العودة بعد خسارة المجموعة الأولى بشق الأنفس، كشفت عن نضجٍ وتماسكٍ ذهني افتقدتهما جابر في الأعوام السابقة. لو كان لنا أن نشير إلى مباراة واحدة ساهمت أكثر من غيرها في ارتقاء أُنس جابر إلى مصاف اللاعبات العشر الأوائل في التصنيف العالمي، فعلينا ذكر تلك المباراة ضد موغوروثا في الدور الثالث من ويمبلدون. 

لعل أبرز ما يلفت الأنظار إلى أُنس جابر -إذا وضعنا جنسيتها وسيرتها جانبًا- هو أسلوبها المتفرد في لعب التنس: في عصرٍ تطغى فيه القوة واللياقة البدنية، لم يتبقَّ للاعبات قصيرات القامة إلا اللعب بأسلوب دفاعي مستميت، والجري خلف كل كرة، والاستعانة بسرعتهن ومهاراتهن البدنية والدفاعية للتصدّي للاعبات التي يفقنهن قوة. هذا، مثلًا، الأسلوب الذي تنتهجه لاعباتٌ مثل الرومانية سيمونا هالب والألمانية أنجيليك كربر والأوكرانية إلينا سفيتولينا. أما جابر، ورغم قصر قامتها وعدم امتلاكها قوةً هائلةً، فقد أصرّت على اللجوء إلى الأسلوب الهجومي والفنّي المبادر، المعتمد على الصعود إلى الشبكة واستغلال كل زوايا الملعب، وتغيير دوران الكرة ومفاجأة منافساتها بالضربات القصيرة (drop shots) التي تذكّرنا بالسويسرية مارتينا هينغز، وبضربات السلايس المنخفضة، وهذه الكرات أشبه بسكّين ناعم تغرسه أُنس في قلوب منافساتها. وهذا ليس أسلوبًا اعتياديًا في تنس النساء المعاصر، فإمتاع الناظرين والتمسك بأسلوب جمالي أمر، وترجمة هذا الأسلوب إلى انتصاراتٍ وتقدمٍ في التصنيف أمرٌ مختلف تمامًا، ويحدث أن يعجز لاعبون موهوبون وفنّيون عن الجمع ما بين الجمالية والنتائج، وما بين الموهبة الفطرية والقوة الذهنية، وهذه معضلة استعصى على أُنس جابر حلها لسنوات.

لم تكن موهبة أُنس جابر ومهاراتها مثار شكٍّ فهي التي بلغت نهائي بطولة فرنسا المفتوحة للناشئات في العام 2010 ولم تبلغ بعد 16 عامًا، ومن ثم أحرزت لقب البطولة ذاتها في العام التالي حين تغلبت على مونيكا بويغ من بورتو ريكو. الانتقال من منافسات الناشئات إلى التنس الاحترافي ليس بالمسار السلس أو السهل أو حتى البديهي، وكثرٌ هم اللاعبون الذين تألقوا في منافسات الناشئين في التنس وفشلوا في تحقيق نتائج تذكر في التنس الاحترافي، لأسباب متعددة منها الإصابة وعدم تحمل الضغط الذهني أو عدم التكيّف مع صعوبة المنافسة. قد ينهي هؤلاء اللاعبون مسيراتهم دون التأهل إلى إحدى البطولات الأربع الكبرى، وقد يأفل نجمهم وبالكاد أضاء. هذا الانتقال يكون أصعب على اللاعبين واللاعبات الذين يمتلكون موهبة أُنس الفطرية وأسلوبها المتفرد، فهم بحاجة للكثير من الوقت والجهد والإخفاقات للتحكم بأدواتهم المتعددة، فتنوّع الأدوات وتعددها قد يكون عبئًا وقد يؤخّر نمو اللاعبة وتطوّرها. 

والموهبة والمهارات الفنية، على أهميتها، لا تكفي في رياضة مكلفة ومستنزفة كالتنس، وفي كل مرة كانت فيها أُنس جابر تخسر في الدور الأول أو في الأدوار التمهيدية وفي كل مرة كانت تفشل في التأهل إلى البطولات الكبرى أو البطولات الهامة، وفي كل مرة كانت تصطدم بجدار من النتائج المخيبة، أطلق سؤال ثقيل واحد رأسه: هل فات أُنس جابر القطار؟ إن لم تفعلها وتبلغ تصنيف الخمسين الأوائل وهي في بداية العشرينيات فهل يعقل أن تفعلها لاحقًا؟ لم يكن أحد ليلومها لو قررت تعليق مضربها، ولكن أُنس واصلت العودة إلى التدريب بعد كل خسارة ثقيلة وكأنها كانت واثقة بأن الفرصة ستأتي  وبأن الرياضة التي منحتها حياتها وشغفها وجهدها لا بد أن ترد لها المقابل.

في عصرٍ تطغى فيه القوة واللياقة البدنية، لم يتبقَّ للاعبات قصيرات القامة إلا اللعب بأسلوب دفاعي مستميت، والجري خلف كل كرة، والاستعانة بسرعتهن ومهاراتهن البدنية والدفاعية للتصدّي للاعبات التي يفقنهن قوة.

حين وصلت أُنس جابر إلى ربع نهائي بطولة أستراليا المفتوحة في بداية العام الماضي، -ليالي الأُنس في ملبورن- ضمنت دخول قائمة اللاعبات الخمسين الأفضل في العالم، وكسرت حاجزًا خيّل للكثيرين أنها لن تكسره. ومنذ تلك النتيجة في أستراليا وأُنس تظهر أداء يتحسن باستمرار. قد يكون تقدمها بطيئًا لم يتخلله سوى الفوز بلقب واحد على ملاعب بيرمنغهام العشبية، وهو اللقب الأول في مسيرتها الاحترافية، ولكن صعودها واثقٌ ومستمر، وهذا التقدم المستقر هو ما مكنها من الوصول إلى العشر الأوائل في العالم، لتصبح بذلك أول لاعبة عربية تكسر هذا الحاجز في تنس النساء أو الرجال.

ما زال أمام أُنس جابر الكثير، كالوصول إلى الأدوار المتقدمة في البطولات الأربع الكبرى، واستجماع ما يكفي من القوة الذهنية وتماسك الأعصاب للفوز بالمباريات الأهم، وخاصة في الأدوار النهائية، وهذا سيكون التحدي الأبرز في العام القادم. إنجاز عظيم أن تضع أُنس اسمها على قائمة العشر الأوائل وعمرها 27 عامًا، ولكن المحافظة على هذه المرتبة وربما، الفوز بإحدى البطولات الكبرى، سيتطلب المزيد من التقدم والتحسن.  

ليس مفاجئًا أن تكون أُنس جابر إحدى أكثر اللاعبات شعبية سواء بين منافساتها أو بين متابعي الرياضة من متفرّجين ولاعبين سابقين. جميعهم يشيدون بأسلوبها الجميل وبروحها الرياضية وبدماثتها داخل الملعب وخارجه وبدورها الريادي كلاعبة تنس تونسية وإفريقية في رياضة تهيمن عليها اللاعبات الأوروبيات والأميركيات، ولطالما عبّرت عن أُنس عن فخرها بأن فريقها التدريبي من المدرّب إلى المعالج الفيزيائي ومدرب اللياقة البدنية هو فريق تونسي خالص، ورأت في تقدمها إنجازًا للرياضة النسائية في تونس وفي العالم العربي وفي إفريقيا.

بعد سنواتٍ طويلة في الشتات والبحث عن ذاتها والعمل الشاق لصقل موهبتها وتعزيز ثقتها بنفسها، وجدت أُنس جابر موطئ قدمٍ قريبًا من قمّة التنس العالمي. يضم نادي معجبيها الأسطورتين بيلي جينز كنغ، التي أهدتها كتابها، واللاعبة فينوس ويليامز، التي أثنت عليها بسخاء قبل وبعد المباراة التي جمعتهما في ويمبلدون هذا العام. أحدث المنضمين إلى «النادي» هو اللاعب الأميركي السابق آندي روديك، الذي وصف جابر بإحدى لاعباته المفضلات، ولفت إلى أن «الجميع يريد معانقتها»، وأُنس تحب معانقة جميع اللاعبات ولا تكتفي بالمصافحة. أما كاتبة هذه السطور، فتحلم كسائر مشجعي اللاعبة التونسية العربية الإفريقية، أن تراها معانقةً كأس إحدى البطولات الكبرى في العام 2022. فهل ستفعلها؟

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية