رأي

ماذا كان على إسلام الشهابي أن يفعل؟

الأحد 14 آب 2016
إسلام الشهابي رفض مصافحة نظيره الإسرائيلي أور ساساون عقب فوز الأخير. الصورة من موقع يو أس نيوز.

بقلم زيد الشعيبي*

بجسده سدّ رئيس البعثة الأولمبية اللبنانية سليم الحاج نقولا باب الحافلة التي كانت من المقرر أن تقلّ الوفدين الأولمبيين الإسرائيلي واللبناني معًا إلى حفل افتتاح الدورة الحادية والثلاثين للألعاب الأولمبية في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، مانعًا الوفد الإسرائيلي من الصعود إلى الحافلة، مما أجبر المنظمين على نقل الوفد الإسرائيلي في حافلة أخرى. بعدها بأيام، رفضت لاعبة الجودو السعودية جودي فهمي مبارزة اللاعبة الإسرائيلية جيلي كاهن وانسحبت من البطولة. فيما دار حديث عن نية لاعب الجودو المصري إسلام الشهابي عدم خوض مباراته مع لاعب الجودو الإسرائيلي أور ساساون، إلّا أنه لم يقاطع، واختار ألا يصافح اللاعب الإسرائيلي كما هو متعارف عليه بعد خسارته اللقاء.

أثارت هذه المواقف عاصفة من النقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض، تمحورت حول إمكانية أو ضرورة فصل الرياضي عن السياسي، وكذلك حول جدوى المقاطعة الرياضية.

هذا المقال ليس بصدد نقاش أحقية استخدام المقاطعة كوسيلة من وسائل النضال السياسي أو الرياضي أو الثقافي، فأحقية المقاطعة تنبع من أحقية النضال ضد المحتل، ومن لا يؤمن بأحقية هذا النضال لن يرى في المقاطعة إلا وسيلة غير «واقعية» كغيرها من وسائل النضال، وقد لا يرى «إسرائيل» إلا دولةً طبيعية تمارس أنشطتها الرياضية والثقافية والأكاديمية بمعزل عن السياسة. ومن هنا تنبع شعارات فضفاضة مثل«فصل السياسة عن الرياضة» أو «الرياضة للرياضيين والسياسة للسياسيين»، قد يكون من الجميل ترديدها، لكن العودة إلى تاريخ البطولات الأولمبية تثبت أن السياسة وُجدت في صميم هذه البطولات، وترجمت ذلك أحداث عديدة.

قبيل انطلاق أولمبياد برلين عام ١٩٣٦، خاض نشطاء ومؤسسات يهودية حملة مقاطعة واسعة لإقناع اللجنة الأولمبية الدولية بحرمان ألمانيا النازية من شرف تنظيم البطولة على أراضيها، احتجاجًا على ممارسات ألمانيا ضد اليهود، لا سيما الرياضيين منهم. وعلى الرغم من إقامة الأولمبياد في برلين والمشاركة الدولية غير المسبوقة فيه، إلا أن الحملة اليهودية نجحت في إثارة بلبلة دولية ونقاشات سياسية واسعة في الغرب حول ضرورة مقاطعة ألمانيا دوليًا، كما قاطع عدد من الرياضيين اليهود الأوروبيين الدورة رافضين تمثيل بلدانهم ضمن بعثاتهم الرياضية. تقول الكاتبة سوزان باشرش في كتابها «الأولمبياد النازي: برلين ١٩٣٦» إنه «كان من المهم للنظام النازي بناء قاعدة شعبية واسعة له بالأخص ضمن الجيل الشاب (…) بالطبع كانت الرياضة والأولمبياد طريقة جيدة لتحقيق ذلك».

كما شهد عام ١٩٦٤ أبرز حدث سياسي رياضي حين اتخذت اللجنة الأولمبية الدولية قرارها بحرمان جنوب إفريقيا من المشاركة في الأولمبياد بالإضافة إلى حظر التعامل الرياضي معها بسبب السياسة العنصرية التي كانت تنتهجها الدولة ولجنتها الأولمبية تجاه مواطنيها ورياضيها أصحاب البشرة السوداء. ولم يرفع الحظر إلا عام ١٩٩١ حين ألغي قانون تسجيل السكان الذي كان الأساس القانوني لنظام الفصل العنصري، وعلى إثر ذلك شاركت جنوب إفريقيا في أولمبياد ١٩٩٢ في برشلونة. وفي سياق مشابه، انسحبت عشرات الدول الإفريقية عام ١٩٧٦ من أولمبياد مونتريال احتجاجًا على قرار اللجنة الدولية الأولمبية بعدم حرمان نيوزلندا من المشاركة في البطولة ذاتها، بعد أن خرقت قرار المقاطعة الرياضي بإرسال فريقها للرغبي في جولة رياضية إلى جنوب افريقيا في وقت سابق من العام نفسه.

تثبت الأحداث السياسية الأولمبية، أن الساحة الرياضية الدولية هي ساحة للنضال السياسي والحقوقي

وخلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، شهد الأولمبياد تجاذبات سياسية بنكهة رياضية، أثبتت أن الواقع السياسي بتجلياته يلقى بظلاله على الساحات الرياضية الدولية وعلى الرياضيين المشاركين أنفسهم. ففي أولمبياد المكسيك عام ١٩٦٨ احتجت بطلة الجمباز التشيكية ڤيرا كاسلڤاسكا بصمت خلال حفل تسلمها لميدالية ذهبية مشتركة مع لاعبة من الاتحاد السوفيتي بإشاحة وجهها والنظر لأسفل عند عزف النشيد الوطني للاتحاد السوفيتي، استنكارًا لاجتياح الاتحاد السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا في وقت سابق من نفس العام. لاقت حركة ڤيرا الاحتجاجية تأييدًا واسعًا في صفوف أبناء شعبها معتبرينها بطلة وطنية وأيقونة سياسية. نتيجة لذلك، أعلنت حكومة بلادها التابعة للاتحاد السوفيتي آنذاك عزلها ومنعها من السفر أو المشاركة في البطولات الرياضية، لتنهي على إثر ذلك مسيرتها الرياضية وتعلن اعتزالها بعد فترة وجيزة. إن الفعل الفردي التي مارسته البطلة الأولمبية ڤيرا هو فعل سياسي احتجاجي يعبر عن موقفها وموقف الكثيرين من أبناء شعبها آنذاك، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل اللاعب الرياضي عن فكره ومعتقداته بمجرد دخوله المنافسة الرياضية.

تثبت الأحداث السياسية الأولمبية، السابقة كما الحالية، سواء كانت أعمالًا فردية من قبل رياضيين مشاركين أو رسمية من قبل حكومات ولجان أولمبية، أن الساحة الرياضية الدولية كما غيرها من الساحات الأخرى الثقافية والفنية والأكاديمية والاقتصادية هي ساحة للنضال السياسي والحقوقي، إذ لا يمكن عمليًا عزل الواقع الرياضي عن الواقع السياسي المحيط به، وبل من الضروري الاعتراف بهذه العلاقة التبادلية حتى لا نقع في دائرة التأثر بالمحيط دون التأثير فيه. كنتيجة، يمكنني القول إنه سيكون بالإمكان فصل الرياضة عن السياسة فقط في حالة تجريد الرياضي من طبيعته الإنسانية وحصره بكتلة من العضلات المتحركة غرضها تحقيق المتعة للمشاهدين فحسب.

مقاطعة «إسرائيل» رياضيًا: خسارة أم مكسب؟

يرى البعض أن المقاطعة الفردية في البطولات الرياضية الدولية لا تخرج عن دائرة تسجيل موقف أخلاقي، ولا تؤثر فعليًا على إسرائيل ومكانتها الدولية. كما يلجأ البعض في تبرير معارضتهم للمقاطعة الرياضية في الأولمبياد إلى منطلق الربح والخسارة المجرد، وكأننا أمام معادلة ذات بعد واحد ستوصلنا إلى هدف واحد: الميدالية الذهبية. أصحاب هذا المنطلق يرون في المقاطعة حسب قوانين الأولمبياد إهداءً للفوز للاعب الإسرائيلي، وبل يذهب بعضهم للتعامل مع الألعاب الأولمبية وكأنها حلبة مصارعة يجب أن يشبع اللاعب العربي فيها الاسرائيلي ضربًا ليعود لنا بنصر مؤزر، مرضيًا به فحولة الرياضي العربي. إن اعتماد هذا المنطق الساذج في قضية المقاطعة الرياضية يضعنا في مسار نتيجته محددة مسبقًا، وهي لاجدوى المقاطعة.

من الأجدى بنا أن ندعم ونحتضن الرياضيين المقاطعين وأن نباشر في الضغط باتجاه حظر المشاركة الإسرائيلية في المحافل الرياضية الدولية على غرار ما حصل مع جنوب إفريقيا

فقط حين ننظر للمقاطعة الرياضية لإسرائيل خارج منظور «العضلات» و«الذهب» سنرى أن الدور الذي لعبه ويلعبه الرياضون المقاطعون يصب بشكل مباشر في الجهود المبذولة لإفشال المسعى الإسرائيلي في إظهار دولة الاحتلال كدولة طبيعية لا تختلف عن غيرها من الدول. فمنذ أن أطلقت جهات حكومية إسرائيلية حملة «Brand Israel» الدولية كرد على انتشار حركة المقاطعة الدولية لإسرائيل (BDS) وتهاوي صورتها الدولية بسبب حروبها الاجرامية، تحاول إسرائيل جاهدة تغيير هذه الصورة عن طريق السياحة والفن والرياضة وغيرها. إن هذا التعطش الإسرائيلي للاندماج كدولة طبيعية في الساحات الدولية المختلفة لا يجب إلا أن يزيدنا إصرارًا على محاصرتها وعزلها عن محيطها وضرب شرعيتها المزيفة في هذه الساحات. لذا يمكن القول بأن الرياضي العربي الذي يرفض أن يشترك في تلميع صورة إسرائيل في الأولمبياد ويقاطع الرياضي الإسرائيلي بصفته رياضيًا يمثل دولته الاستعمارية ويقبل أن يلعب هذا الدور المتواطىء مع نظامها، قد تجاوز كونه كتلة من العضلات، واختار أن يدفع ثمن مساهمته الأخلاقية والوطنية في أهم البطولات الرياضية الدولية.

كما لا تأتي المواقف الفردية للرياضيين المقاطعين إلا كتأكيد على الموقف الشعبي العربي الذي يرى في دولة الاحتلال الاسرائيلي كيانًا غير طبيعي نرفض أن نضفي عليه الشرعية السياسة والرياضية أو غيرها. ففي العلاقة بين الرياضي الإسرائيلي ودوره في شرعنة الاحتلال دوليًا، لا يسعني إلا أن استذكر كلمات تال برودي أحد أهم الرياضيين الإسرائيليين، ومدرب فريق مكابي تل أبيب عام ١٩٧٧، بعد أن قاد فريقه لفوز غير متوقع على سسكا موسكو، فريق الجيش الأحمر السوفيتي، قائلًا: «نحن على الخارطة، سنبقى على الخارطة، ليس فقط في الرياضة، إنما في كل شيء». لم يرَ برودي في الرياضة إلا ساحة أخرى لمعارك إسرائيل الدولية التي تسعى لتثبت فيها أن وجودها الرياضي هو امتداد لوجودها الاستعماري على أرض فلسطين وعلى خارطة العالم. باختصار، فالمقاطعة الرياضية للكيان الذي يمثله هذا الرياضي الإسرائيلي ودوره البنيوي في تلميع صورة دولته الاستعمارية على الساحة الرياضية الدولية سيجعل من خارطة برودي العدوانية تتقلص وتنحصر، ليس فقط في الرياضة إنما في كل شيء.

على كل حال، فإن استمرار لوم الرياضيين المقاطعين على «عدمية» مواقفهم و«لاجدواها» والتنصل من المسؤولية الجماعية والرسمية سيبقينا في دائرة جدل لانهائية تتكرر مع كل لقاء إسرائيلي-عربي في البطولات الرياضية الدولية. لعله من الأجدى بنا على المستوى الشعبي أن ندعم ونحتضن الرياضيين المقاطعين وأن نباشر في الضغط باتجاه حظر المشاركة الإسرائيلية في المحافل الرياضية الدولية على غرار ما حصل مع جنوب إفريقيا في ستينيات القرن الماضي، عقابًا لها على سياساتها الاستعمارية والعنصرية اتجاه الشعب الفلسطيني ورياضييه. فإن كان بعضنا يرى أن تضحيات الرياضيين المقاطعين غير واقعية ولا تقود إلا لهزيمتهم، فعلينا أن نوسع دائرة المقاطعة الرياضية لإسرائيل في الأولمبياد لتصبح سياسة رسمية وجماعية، بدل أن تبقى مبادرات فردية شجاعة.

ختامًا، يظل سؤال ما الذي كان على إسلام الشهابي أن يفعله مطروحًا؟ ليست الإجابة على هذا السؤال سهلة، ولا هو سهل على اللاعب المصري أن ينسحب رفضًا للتطبيع في ظل منظومة سياسية غارقة في التطبيع حتى أذنيها، خاصة عندما نسمع أن الحكومة المصرية هددت اللاعب في حال انسحابه. لكن في الوقت ذاته، خسر إسلام الاحترام الشعبي الذي كان من الممكن له أن يحصل عليه لو قرّر الانسحاب مبكرًا.

لكن بين الانحياز للموقف الرسمي، أو الانسحاب والانحياز للموقف الشعبي الرافض للتطبيع، فإن التجربة تعلّمنا أن الالتصاق بالخيار الشعبي، كما فعلت جودي فهمي، وقبلها الكثير، أسلم.

* ناشط سياسي فلسطيني عمل سابقًا مسؤولًا للتواصل والتشبيك في حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) في فلسطين والمنطقة العربية.‎

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية