أولمبياد ريو: حين تشرّد الرياضة الفقراء

الثلاثاء 02 آب 2016

بقلم بيسان رمضان

في العام ٢٠١٠ اعتلى ديزموند توتو، كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام عام ١٩٨٤، منصة الاحتفالات المدشنة لانطلاقة كأس العالم في جنوب إفريقيا في سويتو، المدينة التي شهدت إحدى أعنف المجازر بحق السكان السود في جنوب إقريقيا وشهدت أحداث الانتفاضة التي أنعشت النضال التحرّري الجنوب-أفريقي.

آنذاك، خطب توتو في الجمهور قائلًا: «إن كأس العالم هذه تعتبر إنجازًا عظيمًا ليس فقط بالنسبة لجنوب أفريقيا، بل للقارة الإفريقية جمعاء، لأن الأمر يتعلق بأول مرة يقام فيها هذا الحدث العظيم على أرض أفريقية. إننا سعداء للغاية بهذه المبادرة. فعلى امتداد شهر كامل ستتحول أنظار العالم بأسره إلى بلادنا وقارتنا».

على مقربة من الاحتفالات الصاخبة، لم توجه أي من الأنظار إلى استنجادات وعذابات «سكان الأكواخ» الذين طُردوا من أماكن سكنهم بقوة السلاح وتعرضوا للاعتقال والملاحقة، ولم تسعف الحملة التي أطلقتها حركة «أبهالي مجوندولو» (وهو مصطلح بلغة الزولو يعني «حركة ساكني الأكواخ» المقدر عددهم بأكثر من مليون تجمع سكني) أيًا من هؤلاء. وغاب المطرودون من أكواخهم عن بال الإعلام ومشجعي كرة القدم وآلاف الزوار الذين قدموا من جميع أنحاء العالم لمتابعة البطولة التي كلفت جنوب إفريقيا ستة مليارات دولار.

هذه السنة، سيتكرر غالبًا هذا المشهد في ريو التي تستعد لاستضافة دورة الألعاب الأولمبية بعد أيام.

سبق وأن خاض البرازيليون معركة شبيهة عام ٢٠١٤ ضد تنظيم كأس العالم على أراضيهم، اللعبة التي يعدونها دينًا وجزءا لا يتجزأ من هويتهم القومية، يتابعونها بشغف ووفاء. في ذلك العام أنفقت حكومة البرازيل حوالي ١١ مليار دولار لاستضافة كأس العالم، حيث كلف الملعب الذي أقيم في «مناوس» وحده ٢٧٠ مليون دولار، وهي مدينة غير مركزية تطلب بناء ملعب فيها لنقل المعدات من البرتغال عبر المحيط ومن ثم عبر نهر الأمازون، وكل هذا من أجل إقامة أربع مباريات فقط.

في الأحداث الرياضية الكبيرة لا يوجد دور فعلي للحكومات في القرارات الأساسية، بل يعود الأمر إلى الشركات الرياضية الرأسمالية العملاقة المنظمة لهذه الأحداث الرياضية ومن يرافقها من شركات راعية ومستفيدة عبارة عن ماكنات تسويق ضخمة. فقد حاولت الحكومة البرازيلية في عام ٢٠١٤، على سبيل المثال، منع بيع البيرة في الملاعب نظرًا لارتباط ارتفاع استهلاك الكحول بارتفاع نسب الوفيات في الملاعب، لكن شركة Budweiser تصدّت لهذا القرار، فهي إلى جانب كونها من أكبر منتجي هذا المشروب في العالم، فإنها كذلك واحدة من الشركات الراعية للفيفا، وطبعًا تم تجاوز القانون لصالح الفيفا وشركاتها.

في الأحداث الرياضية الكبيرة لا يوجد دور فعلي للحكومات في القرارات الأساسية، بل يعود الأمر إلى الشركات الرياضية الرأسمالية العملاقة المنظمة لهذه الأحداث.

هذا العام، خرج البرازيليّون إلى الشوارع مرّة أخرى للاحتجاج وإحداث الضجيج في شوارع ريو دي جانيرو. تصرخ مدينة ريو بالتناقض من حيث الفجوة الاقتصادية، فمن سيزورها هذا العام لن يقصد المناطق الشمالية حيث يقع أحد أكبر المستنقعات البشرية التي تعاني من انعدام خدمات الصرف الصحي والفقر المدقع. أحد أفقر أحياء المدينة يدعى «ماري»، ولن يتمكن زائر المدينة في فترة الأولمبياد من رؤية هذا الحي، وربما لن يعرف أصلًا بوجوده، لأنه الآن محاط بجدار إسمنتيّ يخفف من «قباحته»، وقد سوّق هذا الجدار لأهل الحي على أنه جدار عازل من الصوت يهدف لحمايتهم من ضوضاء المدينة، لكنه موجود حقيقة لحماية أعين السياح من رؤية هذا الفقر. وبذا، يمكن للسائح القدوم من المطار والتوجه إلى المناطق الجنوبية السياحيّة دون أن تقع عينه على «ماري». إضافة إلى هذا فقد شهدت خطوط المواصلات في المدينة إعادة هندسة، لتفصل بشكل أكبر بين المناطق الشمالية الفقيرة، والمناطق الجنوبية السياحيّة.

أما منطقة «باها»، حيث ستقام دورة الألعاب الأولمبية لهذا العام، فشهدت ضخ مليارات الدولارات لـ«تنميتها». رجل الأعمال البرازيلي كارلوس كارفالو -الذي يحل في المرتبة الثانية عشرة في الثراء في البرازيل- يمتلك ٦٤ مليون متر مربع في تلك المنطقة ويدير فيها مشاريع إنشائية ضخمة تروج لـ«ريو الجديدة»؛ المدينة الفاضلة التي ستجمع في حدودها أصحاب الذوق الرفيع، ونخبة النبلاء من السكّان، حيث لا مكان للفقراء.

البنايات الفخمة والملاعب العالمية في باها لم تبن نفسها، لذا نجد عشرات التجمّعات السكانية الفقيرة للعمال الذين سكنوا تلك المنطقة واستقروا في منازل وأكواخ بسيطة تمكنوا بعد عشرات السنوات الحصول على صفة قانونية لامتلاكها. طبعًا، تم استصدار قرار لإخلاء هؤلاء السكان إلى مشاريع سكنية في المناطق الوسطى، بعيدًا عن أنظار السياح والزوار. بعض من التجمعات السكنية رضخت للقرار ووافقت على التعويضات المالية البسيطة التي منحت لها. البعض الآخر قرر التصدي والمواجهة الفعلية، ليتم قمعه وإخلاؤه بالقوة.

قد يشمل التجمع السكني ٦٠٠ عائلة تعيش في نظام الجيتوهات. أحد هذه التجمعات تسمى «فيلا أوتودورمو» (Vila Autodromo) وهي موجودة قرب مصف السيارات الخاص بالأولمبياد. المساكن ليست مقامة فعليًا على أرض المصف، ولكنها في الأفق منه بحيث يمكن رؤيتها. تم إخلاء وتدمير الجزء الأكبر من هذا التجمع السكني، ولكن بقيت خمس وعشرون عائلة اختارت المقاومة والتصدي لقرارات بلدية ريو، إلى أن اكتسبت حق البقاء ودفعت البلدية للتعهد ببناء منازل مقبولة (من حيث المنظر وليس لأسباب تنموية، لا سمح الله). نموذج تجمع «فيلا أوتودورمو» هو من النماذج  النادرة لمن استطاعوا الثبات والبقاء، أغلب من تلقوا أوامر الإخلاء اضطروا للرحيل عن مساكنهم ويبلغ عددهم بحسب إحصائيات حكوميّة ٧٧٢٠٠ مهجّرًا منذ عام ٢٠٠٩ حتى اليوم. هذا الرقم يشمل إخلاءات أقرّتها الحكومة بشكل عام، لكن كثافة الإخلاءات تركزت في أعوام استضافة البرازيل لكأس العالم ٢٠١٤ والأولمبياد.

مؤخرًا، أعلن رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، الألماني توماس باخ، اختيار عشرة رياضيين لاجئين؛ بعضهم يعيش في مخيّمات؛ بينهم سوريان وخمسة من جنوب السودان، للمشاركة في دورة الألعاب الأولمبية في ريو دي جانيرو، وهو خبر تحمس له الكثيرون. المفارقة المؤلمة تكمن في أن اللجنة الأولمبية اختارت ضم فريق اللاجئين بلا علم ولا دولة ويضمهم علم الألعاب الأولمبية، متناسين أو محاولين غسل العار عن كل السكان الأصليين ذوي البشرة السوداء الذين يشكلون أكثر من نصف التعداد السكاني للبرازيل الذين تشردوا كذلك و ما زالوا يرزحون تحت وطأة الفقر والاحتقار من قبل حكومة تدعي التعددية وتبني القيم اليسارية  في ظل تعتيم إعلامي حول ما يجري خارج أسوار الملاعب الأولمبية.

ماريا كريستينا غارسيا، المؤرخة في جامعة كورنيل الأمريكية، كتبت حول فريق اللاجئين قائلة: «قد تكون أعظم مساعدة يمكننا تقديمها للاجئين هي محاسبة حكوماتنا على السياسات التي تساهم في تهجيرهم. عام ٢٠٠٧، على سبيل المثال، قدمت الولايات المتحدة ٣٠ مليون دولار إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لمساعدة اللاجئين العراقيين، لكن هذا الرقم يبدو شاحبًا أمام مبلغ ملياري دولار أسبوعيًا الذي أنفقته الولايات المتحدة لشن الحرب التي جعلت العراقيين لاجئين».

لننظر بترقب إلى ما يحدث الآن ضمن التحضيرات لدورة الألعاب الأولمبية في قطر عام ٢٠٢٢. يقول الصحفي الرياضي ديف زيرن أن كل المصائب التي رأيناها وسنراها في البرازيل تعد حميدة بالمقارنة بما يحدث في قطر، حيث تشير آخر التقارير التي أوردها زيرن في كتابه إلى أن أعداد العمال النيباليين الذين توفوا نتيجة ظروف العمل غير المحتملة وصل الآلاف. وتشكل العمالة النيبالية الحصة الأكبر من العمالة الأجنبية البالغ نسبتها ٩٠ بالمائة من إجمالي العمالة في قطر، حيث لم يقتصر استعبادهم على ظروف العمل السيئة بل تجاوز ذلك إلى الامتناع عن الإيفاء بأجورهم واحتجازهم في مخيمات للعمال يتم فيها تقنين كميات الطعام والشراب الممنوحة لهم، اثنا عشر عاملًا في كل غرفة.

المشكلة لا تكمن في كرة القدم كرياضة، ولا في البطولات العالمية، بل في الطريقة التي يتم بها ربط هذه الأحداث الرياضية الكبرى بمشاريع «تنموية» ضخمة تستخدم كحصان طروادة كبير لإدخال سياسات جديدة. في تلك الأحداث، لا يعدو دور الرياضة كونها مجرد مراسم احتفاء بالرأسمالية في أبشع حللها.

لطالما كانت هزيمتنا كامنةً في انتصارات الآخرين: لطالما أنتج ثراؤنا فقرَنا برعايته لازدهار الآخرين؛ الإمبراطوريات ووكلاؤها المحليون. في المعادلات الاستعمارية والاستعمارية الجديدة، ينقلب الذهب خردةً والطعام سمًا.

– إدواردو جاليانو

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية