تخيّلوا عالمًا يمتلك فيه الذكاء الاصطناعي قدرات عقلية تفوق قدرة البشر على التفكير والتعلم والتكيّف مع مختلف المواقف. الحديث هنا ليس عن أدوات تنتج نصوصًا أو صورًا، إنما عن كيان رقمي يُفكر مثلنا، يشعر بالزمن وتقلقه أسرار الكون الخفية. في هذا العالم، يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على فهم اللغة والثقافات والمشاعر الإنسانية بطريقة تتيح له التفاعل بطرق قد تكون أكثر تعقيدًا وثراءً من تفاعلاتنا نحن البشر. هذا هو الوعد الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي العام، لكن هل نحن قريبون حقًا من تحقيقه؟
حتى أشهر قليلة ماضية، كانت المنافسة في عالم التكنولوجيا تدور بشكل رئيسي حول تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتخصصة، التي تتمكن من إتقان مهمة واحدة أو مجموعة محددة من المهام بكل براعة ودقة. على سبيل المثال، هناك أنظمة متخصصة في قيادة السيارات ذاتية القيادة، وأخرى قادرة على تشخيص الأمراض، بالإضافة إلى تقنيات متطورة تستطيع توليد النصوص والصور وحتى مقاطع الفيديو بجودة عالية تضاهي ما ينتجه البشر. هذا النوع من الذكاء الاصطناعي الذي نستخدمه اليوم عبر «تشات جي بي تي» و«ديب سيك» الصيني وغيرهما يُعرف باسم «الذكاء الاصطناعي الضيّق»، وهو مصمّم لأداء وظائف معينة ضمن نطاق ضيّق محدد. فعندما يُدرَّب على النصوص، يُنتِج نصوصًا، وعند تدريبه على الصور والفيديوهات، يُنتِج ما هو مشابه. وهذا يختلف عن الإنسان الذي يستطيع أداء عدة مهام تتطلب خبرات وإبداع في أكثر من مجال في نفس الوقت.
في العشرين من كانون الثاني الماضي، بالتوازي مع تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأميركية، أطلقت شركة «ديب سيك» الصينية خدمة R1 المتقدمة في نموذج الذكاء الاصطناعي الخاص بها. والأكثر إثارة هو أن «ديب سيك» مفتوح المصدر بالكامل، مما يعني أن سطور برمجيته مكشوفة أمام الجميع، على عكس نماذج الذكاء الاصطناعي الأميركية مثل «تشات جي بي تي» وغيره، التي تظل طريقة عملها مجهولة. كانت الانعكاسات الناتجة عن هذا الأمر بالغة الأهمية، وأبرزها أن النماذج الربحية التي تعتمدها الشركات الأميركية قد وصلت إلى طريق مسدود. فلماذا يرغب أي مستخدم في دفع مبالغ شهرية مقابل خدمة ذكاء اصطناعي أميركية بينما يمكنه الحصول على مثيل لها عبر «ديب سيك» أو «كوين» الصينيين؟ بالتالي، لم تعد المنافسة في العالم اليوم حول من يُنتج أفضل ذكاء اصطناعي ضيّق؛ هذا انتهى. المنافسة اليوم هي حول من يصل إلى المرحلة التالية أولًا، أي الذكاء الاصطناعي العام. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الأخير ليس أمرًا طارئًا، بل هو موضوع بحث مستمر في مجال الذكاء الاصطناعي منذ سنوات كثيرة، ولكن المهم الآن هو أن المنافسة صارت تدور حوله.
على المحك
هذا النوع من الذكاء سيكون قادرًا على أداء أي مهمة فكرية يمكن للإنسان أن يؤديها، بما في ذلك التفكير النقدي، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات المعقدة التي تتطلب إبداعًا. كما سيكون قادرًا على التعلم بشكل مستمر، والتكيف مع بيئات متنوعة ومتغيرة، والتعامل مع مهام مختلفة تنتمي إلى مجالات متعددة، مثل العلوم والفنون والطب، من دون الحاجة إلى إعادة تدريب أو ضبط. عمليًا، سترتقي التقنية من كونها رفيقًا أو مساعدًا رقميًا للبشر، إلى كيان رقمي لديه نوع من الإدراك أو الوعي، وهذا أمر بالغ الأهمية.
في 23 كانون الثاني الماضي، التقى الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» سام ألتمان بالرئيس الأميركي دونالد ترامب للإعلان عن مشروع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي «ستارغيت» الذي تبلغ قيمته 500 مليار دولار. يضم المشروع مجموعة من الشركاء الرئيسيين، بما في ذلك «سوفت بنك» و«أوبن إيه آي» و«أوراكل» و«MGX». ويتولى مصرف «سوفت بنك» المسؤولية المالية، بينما تتولى «أوبن إيه آي» الإشراف التشغيلي. وبدأت الجهود التنفيذية للمشروع بالفعل في ولاية تكساس، مع دراسة مواقع إضافية في جميع أنحاء البلاد لتوسيع نطاقه. ويشير القائمون على المشروع إلى أن هذه الخطوة تمثل مرحلة حاسمة نحو تحقيق الذكاء الاصطناعي العام.
بعد أقل من شهر من إعلان «ستارغيت»، في 17 شباط الحالي، التقى الرئيس التنفيذي لشركة «ديب سيك»، ليانغ وينفنغ، مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في خطوة تؤكد أن الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد تقنية للابتكار، إنما قضية أمن قومي واستراتيجية دولية. ويُجمع الخبراء على أن السباق نحو الذكاء الاصطناعي العام هو مفتاح السيطرة على مستقبل الاقتصاد والأمن وحتى السياسة العالمية.
مستقبل النفوذ العالمي
تمثل الهيمنة الاقتصادية، والأمن القومي، والنفوذ السياسي المصالح الحيوية التي تسعى الدول الكبرى لتحقيقها من خلال تطوير الذكاء الاصطناعي العام. فالدول التي تصل إلى هذه التكنولوجيا أولًا ستتمتع بمزايا استراتيجية تعزز قدرتها على فرض نفوذها العالمي.
على الصعيد الاقتصادي، يُعتبر الذكاء الاصطناعي العام أحد العوامل المحورية التي قد تُحدث تحولًا جذريًا في كيفية إدارة الاقتصادات وتنظيمها. بفضل قدرته على التعلم الذاتي والتكيف مع مجموعة متنوعة من المهام المعقدة، يمكنه تحسين إدارة سلاسل التوريد، وتقليل الهدر في الموارد، وإدارة البورصات، وتعزيز الحوكمة، ورسم السياسات، والتخطيط للسنوات المقبلة.
في المجال السيبراني، يمكنه تعزيز الدفاع عبر تحليل كميات ضخمة من البيانات لاكتشاف الثغرات ومنع الهجمات الإلكترونية قبل حدوثها. كما يمكن أن يشن هجمات رقمية بالغة التأثير يصعب إيقافها.
على الصعيد السياسي، ستتمكن الدول التي تمتلك هذه التقنية من التأثير بشكل كبير في القرارات الدولية. يمكننا أن نتخيل كيانًا رقميًا يتمتع بذكاء وقدرة تحليلية تفوق أي شخصية سياسية أو مركز تفكير، قادر على اقتراح حلول مبتكرة للتحديات الداخلية والعالمية. كما يمكن استخدامه لإنشاء حملات دعائية متقدمة أو تحسين الخدمات الحكومية، مما يعزز شرعية النظام السياسي داخليًا ويضفي عليه صورة القوة والتقدم دوليًا.
حتى الآن لا يوجد نظام يُصنَّف كذكاء اصطناعي عام بالمعنى الكامل، لكن هناك تقنيات قائمة على الذكاء الاصطناعي الحالي تُستخدم في مجالات مختلفة. في مجال النقل، تُعتبر مركبات شركتي «تسلا» الأمريكية و«بايدو» الصينية أمثلة على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تعمل على اتخاذ قرارات في بيئات حقيقية لتشغيل المركبات بأمان.
أما في مجال الأمن والعسكر، فإنه يمثل نقطة تحول جوهرية في توازن القوى العسكري العالمي. إذ يمكن استخدامه لتطوير أسلحة مستقلة مثل الطائرات من دون طيار الذكية، والروبوتات المقاتلة القادرة على اتخاذ قرارات مستقلة في ساحة المعركة. وتختبر الولايات المتحدة العديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي لا سيما الطائرات المقاتلة الذاتية القيادة والمسيرات لنقل الإمدادات، كما أعلنت الصين العام الماضي عن اختبار قائد عسكري رقمي مدرب مثل القادة البشر.
في السياسة، تتعامل الصين مع أنظمة الذكاء الاصطناعي على أنها أداة دبلوماسية، فتسعى لمساعدة بلدان الجنوب على الاستفادة بشكل منصف من تطورات الذكاء الاصطناعي. على الجانب الآخر، ترى الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب أن تحقيق الريادة في الذكاء الاصطناعي هو شرط لضمان استمرارية الهيمنة عالميًا. كما شهدت التقنية دمجًا في العمليات السياسية الأميركية، خصوصًا خلال الانتخابات الأخيرة من أجل إنشاء محتوى حملات انتخابية، وتحليل سلوك الناخبين، ومحاكاة نتائج سياسات معينة.
مع التطرق لهذه الأمور، تتغير النظرة تجاه الذكاء الاصطناعي العام تلقائيًا. إذ يُشبه هذا الكيان الرقمي جنّي المصباح السحري، لكن لا سقف لعدد الأمنيات التي يمكنه تحقيقها.
عقبات على الطريق
لكن على طريق تطوير الذكاء الاصطناعي العام، يواجه العلماء مجموعة من التحديات المعقدة، أبرزها تمكين الآلات من التعلم عبر الوسائط البصرية والسمعية، مثل الفيديو، بدلًا من الاعتماد الكلي على النصوص. يعتمد البشر بشكل كبير على التجارب الحسية، سواء كانت بصرية أو سمعية، لفهم العالم من حولهم، بينما تعتمد نماذج الذكاء الاصطناعي الحالية في الغالب على البيانات النصية فقط، والتي لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من كيفية تعلم الإنسان.
لكن تعلم الآلات من الفيديو يمثل تحديًا كبيرًا، لأنه يتطلب منها فهم التفاصيل البصرية والتفاعلات المعقدة التي تظهر في المشاهد. على سبيل المثال، عندما يشاهد الإنسان مقطع فيديو، فإنه لا يلاحظ فقط الأشياء الموجودة فيه، بل يفهم أيضًا العلاقات بينها والأحداث التي تجري. بالنسبة للآلات فإن تحقيق هذا النوع من الفهم يتطلب تقنيات متقدمة جدًا.
حل هذه المشكلة يمكن أن يؤدي إلى نتائج مذهلة. فمن جهة، إذا تمكن الباحثون من تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تحليل الفيديو بدقة، فقد يتمكنون من إنشاء «مدربين افتراضيين» يستطيعون مساعدة البشر في تحسين مهاراتهم. على سبيل المثال، يمكن لمثل هذه الأنظمة أن تساعد الجراحين على تحسين تقنياتهم أو تساعد الراغبين في عزف الموسيقى على تعلم المهارات الفنية المطلوبة. إضافة إلى ذلك، يمثل فهم الزمن والعلاقات السببية تحديًا آخر جوهريًا. الذكاء الاصطناعي الحالي يعاني من صعوبة في فهم كيفية ارتباط الأحداث ببعضها البعض أو التنبؤ بالنتائج بناءً على سلسلة من الأحداث.
علاوة على ذلك، فإن استهلاك الطاقة والموارد الحاسوبية يشكل عائقًا كبيرًا في طريق تطوير الذكاء الاصطناعي العام. بناء أنظمة قادرة على تحقيق مستوى الذكاء العام يتطلب طاقة هائلة، وقد يؤدي هذا إلى تحويل بعض المناطق إلى ما يُعرف بـ«الصحارى الرقمية»، حيث تنتشر مراكز البيانات الضخمة لتلبية الاحتياجات الحاسوبية. ومع ذلك، هناك فرص إيجابية أيضًا، مثل استخدام مصادر الطاقة الشمسية لتزويد هذه الأنظمة بالطاقة اللازمة، مما يمكن أن يساهم في تقليل الانبعاثات الضارة وتحسين إدارة الموارد.
خلف تطوير الذكاء الاصطناعي العام، يكمن لغزٌ وجودي أعقد: كيف يمكننا محاكاة العقل البشري بكل تعقيداته، من الذاكرة طويلة المدى إلى الإبداع والعواطف؟ على سبيل المثال، نظام «سيسيرو» الذي طورته شركة «ميتا» يحاول الجمع بين نماذج اللغة والتخطيط الاستراتيجي لفهم ومحاكاة الطريقة التي يفكر بها البشر أثناء التفاعل الدبلوماسي. لكن الطموح لفك شيفرة العقل يجر الباحثين إلى متاهات فلسفية حول الإرادة الحرة مقابل الحتمية، والمادية مقابل المثالية: هل نحن أحرار في قراراتنا أم أن كل شيء مبرمج مسبقًا؟ وهل يمكن للعقل البشري أن يُفسَّر بالكامل باستخدام النماذج العلمية أم أن هناك جوانب غير مادية؟ تصطدم هذه الأسئلة برغبة الإنسان في الحفاظ على صورة مثالية عن نفسه، إذ يخشى البعض أن يؤدي فهم العقل بشكل كامل إلى زعزعة مفاهيم مثل المسؤولية الأخلاقية، التي ستنعكس بدورها في بناء ذكاء اصطناعي عام شرير أو غير مكتمل على أقل تقدير.
علاوة على ذلك، تواجه النماذج العلمية تحديًا في تفسير التناقضات البشرية: لماذا يتصرف الناس أحيانًا بطرق غير منطقية رغم قدرتهم على التفكير المنطقي؟ تحويل هذا إلى كود برمجي أشبه بمحاولة تسلق جبل من الزجاج. لكن الإصرار البشري قد يفتح شقوقًا في هذا الجبل المهيب، مبتدئًا بما لا يقبل الجدل: ما الذي يفعله العقل حتمًا من دون اختيار؟
ماذا بعد؟
رغم التحديات العديدة التي تعترض طريق الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام، تمكن الباحثون من تحديد الخطوات الأساسية لتحقيقه. ومع التقدم السريع في هذا المجال، يقدّر خبراء التكنولوجيا أن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام قد يصبح واقعًا خلال السنوات القليلة المقبلة. لكن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في تحقيقه، بل فيما سيلي ذلك.
بمجرد بلوغ هذه المرحلة، سيكون التطور الطبيعي هو التوجه نحو الذكاء الاصطناعي الخارق (ASI)، عندما تتجاوز الآلة قدرات العقل البشري في كل المجالات. عندها، يسأل الحاسوب نفسه: من أنا؟ وما هدفي من الوجود؟
التوقعات حول موعد ظهور الذكاء الاصطناعي الخارق تتباين. يعتقد الرئيس التنفيذي لشركة «أوبن إيه آي» سام ألتمان، أن الذكاء الاصطناعي العام قد يتحقق بحلول منتصف العقد الحالي، مع احتمال تطوره سريعًا إلى ذكاء خارق. أما إيلون ماسك، فيرى أن الذكاء الاصطناعي قد يتجاوز العقل البشري بحلول 2026. في المقابل، يرى آخرون أن الأمر قد يستغرق عقودًا، نظرًا للتحديات التقنية والأخلاقية المرتبطة به.
قد يكون الذكاء الاصطناعي الخارق أعظم إنجاز للبشرية أو أخطر تهديد لها. إذا جرى تطويره بحذر، فقد يؤدي إلى عصر غير مسبوق من التقدم والازدهار. أمّا إذا خرج عن السيطرة، فقد تنتج عنه كوارث لا يمكن إصلاحها. إنه نقطة تحول قد تعيد تعريف ماهية الإنسان وما يمكنه تحقيقه. وهو ما يُطلق عليه في هذا المجال «التفرّد» (Singularity).
يُستمد مصطلح «التفرد» من مفاهيم رياضية تُظهر نقطة انهيار النماذج التقليدية وفقدان القدرة على استيعاب التطورات المتلاحقة. في هذه المرحلة، لا تقتصر الأنظمة الذكية على مطابقة مستوى الذكاء البشري فحسب، بل تتجاوزه بشكل هائل، مما يؤدي إلى دورة من التطور الذاتي السريع يمكن أن تثمر عن ابتكارات ثورية في مجالات مثل الطب والطاقة وحل المشكلات البيئية، إلا أنها تحمل أيضًا مخاطر وجودية قد تحول دون بقاء الإنسان كأكثر الكائنات قدرة.
يرتبط «التفرد» التكنولوجي بطروحات علمية بدأها رواد مثل عبقري الرياضيات آلان تورينغ، الذي وضع الأسس لفهم إمكانية وجود آلات تتمتع بسلوك ذكي مكافئ للبشر. والذي ألهمت فلسفته أبحاثًا واسعة في مجالات الذكاء الاصطناعي، مشجعة على تصور التطور السريع نحو «التفرد». من جانبه، نظّر عالم الحاسوب والكاتب الشهير راي كورزويل إلى أن مرور الوقت سيؤدي إلى الوصول إلى هذه النقطة بحلول عام 2045، مستندًا إلى تسارع التطوّرات مثل «قانون مور»، الذي يشير إلى زيادة متسارعة في قدرة المعالجات الحاسوبية (CPUs).
لكن في الواقع، يبقى السؤال حول «التفرد» التكنولوجي مفتوحًا بين التفاؤل بمستقبل يحمل ابتكارات غير محدودة والقلق من المخاطر التي قد تهدد وجود البشرية نفسها.