في تغريدة كتبها رائد الأعمال والملياردير الشهير إيلون ماسك في العام 2021، ردًّا على انتقاد السيناتور الأمريكيّ بيرني ساندرز لثروته «الفاحشة»، قال ماسك إنّه يجمع الثروات «للمساهمة في جعل الحياة مرتكزة في عدّة كواكب ولمدّ نور الوعي إلى النجوم». طال انتقاد ساندرز أيضًا منافسَ ماسك الأشهر جيف بيزوس الذي يخشى بدوره من «ركود» الحضارة الإنسانيّة في نهاية المطاف إذا لم تستطع التمدّد إلى عدّة كواكب أخرى. وإذ يتقاسم الرجلان اللذان يتصدّران المراتب الأولى في قائمة أثرياء العالم هذه الرؤية حول حتميّة التوسّع نحو الفضاء، فلا عجب أن تبرز شركتا «سبيس إكس» (SpaceX)، التي أسّسها ماسك ويشغل منصب مديرها التنفيذيّ، و«بلو أوريجين» (Blue Origin) التي أسسها بيزوس، من بين أهمّ الأسماء في مجال الصناعات الجوّيّة والفضائيّة مؤخّرًا.
يشهد اقتصاد الفضاء تناميًا متزايدًا مع دخول الشركات الكبرى بقوّة على خطوط سباق التنافس المحموم نحو الفضاء الخارجيّ في السنوات الأخيرة، حيث بلغت قيمة صناعات الفضاء عالميًّا 350 مليار دولار في العام 2019، ومن المتوقّع أن ترتفع إلى ما يزيد عن تريليون دولار بحلول العام 2040. ففي الولايات المتحدة، التي تتصدّر قائمة الدول الأكثر إنفاقًا على أنشطة الفضاء في العالم، أدّت عدّة سياسات وإجراءات إلى خصخصة الفضاء ورفع القيود التنظيميّة عنه بشكل واسع. ومن بين تلك السياسات إقرار باراك أوباما قانون «تنافسيّة عمليّات الإطلاق الفضائيّة التجاريّة» عام 2015، الذي يخوّل الأفراد والشركات الحقّ في حيازة واستخراج الموارد من الفضاء وبيعها. وبموجب هذه التشريعات الجديدة، باتت وكالة الفضاء الأمريكيّة تعتمد بصورة متزايدة على القطاع الخاص في تجهيز العديد من المشاريع الفضائيّة وتنفيذها ما زاد من حدّة التنافس بين كبريات الشركات للحصول على هذه العقود الحكوميّة.
في كتابها «أستروتوبيا: الديانة الخطرة لسباق الشركات الكبرى نحو الفضاء»،[1] تناقش ماري-جين روبنستاين، أستاذة الدين والعلم في المجتمع في جامعة ويسليان، دلالات خطاب الشركات الكبرى ومليارديراتها حول غزو الفضاء، وتتتبع ارتكازاته في سرديّات دينيّة وتاريخيّة سالفة، وتحاول، من ثمّ، استقراء مآلات هذه المشاريع الفضائيّة العملاقة وما قد تعنيه لحاضر ومستقبل البشريّة.
تملّك السماء: حكايةٌ قديمةٌ جديدة
عندما شهد القمر أوّل هبوط بشريّ على سطحه في العام 1969، ترك رائد الفضاء الأمريكيّ نيل أرمسترونغ ورفاقه في مهمّة «أبولو 11» على القمر لوحةً يقولون فيها إنّهم جاؤوا بسلام «من أجل البشريّة جمعاء». لكنّ هذا التذرّع باسم الإنسانيّة لم يكن السابقة الأولى ولا الأخيرة في هذا المقام، إذ اكتنف الخطاب حول الفضاء منذ عصره الأوّل مجموعة من الأساطير التي دائمًا ما أسبغت على مهامه ومشاريعه معاني الأهميّة والنبل والغيريّة. وليس ثمّة انقطاع بين هذا الخطاب حول استكشاف الفضاء وبين خطاب الشركات الكبرى التي تتصدّر المشهد في الوقت الحاضر. فإيلون ماسك، مثلًا، لا يستكشف الفضاء كمشروع اقتصاديّ عملاق، بل إنّه، كما يتّضح من ردّه على بيرني ساندرز، في «مهمّة» نبيلة لإنقاذ البشريّة من مصير محتوم بالهلاك بجعلها غير قاصرة على العيش في كوكب واحد.
وإذ تختلف مشاريع الشركات الكبرى لغزو الفضاء في التفاصيل، فإنها تشترك في سعيها لخلق يوتوبيا جديدة فيما وراء النجوم. فبينما ينطلق ماسك من خطاب إنقاذ البشريّة من هلاك قادم لا محالة بسبب أيّ من الكوارث البيئيّة المُحتملة، أو جرّاء تمرّد الذكاء الاصطناعيّ على صانعيه، أو غيرها من سيناريوهات «الأبوكاليبس» المُنتظَر، ينطلق بيزوس من داعي إنقاذ الأرض والنظم البيئيّة عليها ممّا يتهدّدها من هلاك، ومن خشيته من نفاد مصادر الطاقة على الأرض.
وبينما يطمح ماسك إلى بناء مستعمرات على المرّيخ بعد إعادة تأهيله ليكون صالحًا للعيش الإنسانيّ (حتّى لو تطلّب ذلك إسقاط قنابل نوويّة على الكوكب الأحمر لتدفئته، كما يخطّط ماسك!)، ترتكز مشاريع بيزوس على إنشاء مستعمرات فضائيّة عائمة بين القمر والأرض وعلى تعدين القمر والكويكبات القريبة لدعم الحياة هناك. وإن كانت الضبابيّة التي تكتنف كلمة «يوتوبيا»، التي تعني في اليونانيّة «اللامكان»، هي ذاتها التي تسهم في إمكان تعيين أيّ مكان كيوتوبيا، كما تشير روبنستاين، فبالنسبة لماسك وبيزوس وأشباههم ليس من وجهة أمثل من الفضاء كيوتوبيا جديدة للشركات الكبرى ولاقتصادها المزدهر ولفرص لامحدودة في صناعة الثروات.
مساعي «المُخلّصين الجدد» إلى «إنقاذ البشريّة» باستعمار الفضاء لا تتجاهل المشكلات القائمة على الأرض من فقر ولامساواة وعنصريّة وتغيّر مناخ وحروب وأوبئة فحسب، بل إنّها تساهم في تفاقمها كذلك.
لكنّ مساعي «المُخلّصين الجدد» إلى «إنقاذ البشريّة» باستعمار الفضاء لا تتجاهل المشكلات القائمة على الأرض من فقر ولامساواة وعنصريّة وتغيّر مناخ وحروب وأوبئة فحسب، بل إنّها تساهم في تفاقمها كذلك. فتحت غطاء عبارات من قبيل «مستقبل البشريّة» و«روح الاستكشاف» و«نور الوعي» يجري تجاهل التداعيات الجسيمة لهذه المشروعات على الأرض وعلى النظم الحيويّة فيها من تلوّث جوّيّ هائل، ومن تدمير للشعاب المرجانية والأهوار بسبب حوادث إخفاق إطلاق الصواريخ، ومن ازدحام المدار الأرضيّ المنخفض بالأقمار الصناعيّة، خلافًا لكتل الركام والنفايات السابحة في السماوات.[2] وينذر وجود هذه النفايات والأجسام العالقة في الفضاء بمخاطر اصطدام هذه الأجسام ببعضها، وارتطام الحطام الفضائيّ بمحطّة الفضاء الدوليّة، إلى جانب ما تسبّبه الأقمار الصناعيّة والشظايا العالقة في الفضاء من انعكاس لضوء الشمس بصورة تؤدّي إلى انخفاض فاعليّة عمليّات المراقبة والرصد الفلكيّ على الأرض.
وإذ لم يحلّ هبوط أرمسترونغ ورفاقه على القمر أيًا من مشكلات المجتمع الأمريكيّ أو غيرها من مجتمعات حول العالم، فإنّ مشاريع «رُسل التقانة»، كما تسمّيهم روبنستاين، لا تتجاهل المساهمة في حلّ الأزمات المحليّة والعالميّة فحسب، بل تحجب فيما ورائها عدّة صور للاستغلال واللامساواة. من بين هذه المشاكل، على سبيل المثال، بيئة العمل «غير الصحيّة وغير الآمنة» في شركة «سبيس إكس» أو تهجير الشركة ذاتها لسكّان مدينة «بوكا تشيكا» جنوب ولاية تكساس بعدما اتخذت من المدينة قاعدة لأنشطتها الفضائيّة ومن ثمّ أضحت منطقة غير آمنة بسبب نشاط الصواريخ.
وفي حين يدفع المواطنون الأمريكيّون الضرائب لتمويل مشروعات الفضاء الضخمة التي آلت في النهاية إلى القطاع الخاص، يحصل الأثرياء على خصومات وإعفاءات ضربييّة، بل إنّهم ينتفعون من هذه الضرائب من ناحية أخرى إذ يتلقّونها على هيئة منح وعقود فيدراليّة إلى الحدّ الذي يدفع روبنستاين إلى القول إنّ الضرائب التي يدفعها الأمريكيّون تبدو على هذا النحو وكأنّها تذهب بصورة مباشرة لماسك وبيزوس وغيرهم من المليارديرات.
استعمار «التخم الأخير»
في طقس احتفاليّ رمزيّ، نصب نيل أرمسترونغ ورفيقه باز ألدرين علم الولايات المتحدة على سطح القمر عند هبوطهما عليه (عوضًا عن علم الأمم المتحدة الذي كان من شأنه أن يكون أكثر اتساقًا مع الحديث باسم البشريّة كافة) في تذكير بتنصيب المستعمرين الأوروبيّين للأعلام والصلبان في الأرض فور وصولهم لسواحل الأطلسيّ، وكطقس رمزيّ اعتاد الغزاة فعله فيما يشير، وفقًا لبعض التفسيرات، إلى إعادة خلق المكان المُستعمَر وترسيم جغرافيّته الجديدة. فالفضاء، وفقًا لاستعارة متواترة بقوّة في الخطاب الأمريكيّ حوله، يمثّل «التخم الأخير»، وهي استعارة مستقاة من سرديّة استعماريّة تستعيد أطروحة المؤرّخ الأمريكيّ فريدريك جاكسون تيرنر حول التخوم الأمريكيّة. وتقوم أطروحة تيرنر على أنّ حدود الولايات المتحدة شكّلت هويّتها، إذ مثّل التوسّع الاستعماريّ داخل الحدود باتجاه الغرب في قارة أمريكا الشماليّة واستيطان البراري في القرن التاسع عشر معان رمزيّة مهمّة ساهمت بشكل كبير في تشكيل التاريخ والشخصيّة الأمريكية «الحقيقيّة» وذلك بابتعادها الجغرافيّ والرمزيّ عن الأصول الأوروبيّة التي انبثقت منها.
يمثّل الفضاء في الخطاب الأمريكيّ، إذًا، تخمًا مفتوحًا، وأرضًا «بكرًا»، تمامًا كما ارتكزت الادعاءات في المشاريع الاستعماريّة الكلاسيكيّة على الحق في الاستحواذ على الأراضي وإبادة وتهجير سكّانها بزعم كونها أراضٍ فارغة أو غير مأهولة فيما عُرِف في القرن الخامس عشر باسم «مذهب الاستكشاف»، أو ما سُمّي بـ«الأرض المباحة» في القرن التاسع عشر. وبمنطق مماثل يرى «بارونات الفضاء» المرّيخ والقمر والكويكبات كمجال لبدايات جديدة، تشبه «العالم الجديد» بإمكاناته وموارده اللانهائيّة في تمثّل لتواطؤ المنطق الكولونياليّ مع الاقتصاد الرأسماليّ الذي قام منذ أواخر القرن الخامس عشر، كما تذكّرنا روبنستاين، على استخراج الموارد واستغلال العمالة. وفي هذا الصدد يبشّر الفضاء بموارد لانهائيّة. فالمعادن التي يتضمّنها حزام الكويكبات وحده، طبقًا لأحد التقديرات، «تُقدَّر قيمتها بمئة مليار دولار لكلّ فرد على وجه الأرض».
وتزخر الكويكبات بكميّات هائلة من المعادن الصناعيّة مثل النيكل والنحاس والرصاص، والمعادن الثمينة مثل الذهب والفضة والبلاتين، بالإضافة إلى العديد من المعادن الأرضيّة النادرة بما تُقدَّر قيمته بعدّة مليارات الدولارات في المتوسط للكويكب الواحد. ويصف عالم الفيزياء الأمريكيّ ميتشيو كاكو هذا السعي المحموم إلى تعدين الفضاء بـ«حمّى ذهب أخرى» إذ يذكّر هذا السباق المتصاعد نحو السماء باكتشاف مناجم الذهب في كاليفورنيا في القرن التاسع العشر فيما عُرِف تاريخيًّا باسم «حمّى الذهب» وبما ترتّب على ذلك من تحوّلات اقتصاديّة وسياسيّة.
الفضاء كـ«أرض موعودة»
تقول روبنستاين إنّ المسوّغات الدينيّة دائمًا ما شكّلت أساسًا لتبرير المساعي السياسيّة والاقتصاديّة في الولايات المتحدة. ومثلما ساهمت مرويّات توراتيّة ومسيحيّة في تسويغ مشاريع الاستعمار الأوروبيّ والتوسعيّة الأمريكيّة، فثمّة استعادة متواصلة لهذه السرديّات الدينيّة في الخطاب حول الفضاء منذ انطلاقه إبّان الحرب الباردة. ونرى مثالا جليًّا لذلك في قراءة طاقم مهمّة «أبولو 8» وهم يدورون حول القمر لقصّة الخلق من سفر التكوين في إشارة إلى ما يمكن فهمه كتفويض إلهيّ لمهام الولايات المتحدة في الفضاء ولقَدَرها في تنفيذ هذه المهام نيابة عن الإنسانيّة. فإعادة قراءة قصّة الخلق تمثّل وفقًا لبعض التفسيرات أحد الآليات الاستعماريّة التي يتمثّل فيها الغزاة دور جنود الربّ، ويتجلّى فيها الغزو كإرادة إلهيّة.
لا يتمثّل الغطاء الدينيّ للخطاب حول الفضاء على مستوى ظاهريّ فحسب، وإنّما ينبثق على مستوى أكثر تجذرًا من السرديّات التي غذّتها التعاليم المسيحيّة واستغلتها الإمبرياليّة الأوروبيّة في مشاريعها المتتالية.
ومن مهمّة «أبولو 8» في عام 1968 إلى خطاب مايك بنس في العام 2019 أمام مجلس الفضاء الوطنيّ مؤكدًّا، بالإحالة إلى اقتباس من سفر المزامير، أنّ الله سيكون مع الأمريكيّين حيثما كانوا وأنّى ذهبوا، ومستدعيًا من ثمّ تفويضًا إلهيًّا آخر للولايات المتحدّة باستكمال مشاريع غزو الفضاء. وليس ببعيد عن خطاب مايك بنس، وصف دونالد ترامب في خطاب حالة الاتحاد للعام 2020 مستقبل أمريكا في الفضاء بـ«القَدَر المتجلّي» (Manifest Destiny) في استعادة لهذا المذهب الذي باسمه سُوِّغ التوسّع الأمريكيّ غربًا في القرن التاسع عشر، والذي استُخدِم لتبرير الاستحواذ على أراضي السكان الأصليّين وإبادتهم ونهب مواردهم باسم الإرادة الإلهيّة. فالولايات المتحدة لا تستكشف الفضاء من أجل أهداف سياسيّة واقتصاديّة، ولا تسعى لغزو الفضاء كإنجاز قوميّ، بل كـ«واجب» مُقدَّر لها كدولة ذات مصير استثنائيّ أن تقوم به.
ولا يتمثّل الغطاء الدينيّ للخطاب حول الفضاء على مستوى ظاهريّ فحسب، وإنّما ينبثق على مستوى أكثر تجذرًا من السرديّات التي غذّتها التعاليم المسيحيّة واستغلتها الإمبرياليّة الأوروبيّة في مشاريعها المتتالية. ومن بين تلك السرديّات ما استُلهِم من تأويلات قصّة الخلق في الكتاب المقدّس من تراتبيّة تضع الإنسان، الذي صُنع على صورة الإله، على رأس الكون وتسيّده عليه وعلى جميع مخلوقاته. وقد تبنّت العلوم والمؤسّسات الغربيّة هذه السرديّة بإخضاع البيئة وعناصرها للتجريب والاستغلال غير المشروطين، وبتعاملها وفقًا لمبدأ أنّ العالم الطبيعيّ رهن لاستغلال الإنسان له كيفما شاء. وقد أضحى هذا المبدأ فيما بعد أساسًا متجذّرًا للسياسات الاستعماريّة والاقتصادات الرأسماليّة، ولم تزل هذه الفكرة تغذّي أحلام يوتوبيا الفضاء الراهنة وتشكّل أساسًا لسباق الفضاء المعاصر، وتؤدي إلى مرادفة العلوم والتكنولوجيا الغربيّة بين فهم الطبيعة ومعرفتها من ناحية وبين التسلّط عليها من ناحية أخرى. كما أدّت هذه النظرة إلى التعامل مع العالم كمجموعة من الموارد لا تزيد أهميتها عن كونها سببًا في تحقيق التقدّم والرخاء الإنسانيّ ومراكمة الثروات ما أفضى إلى العديد من مظاهر العنف والخراب والإبادة البيئيّة على مدار القرون الماضية.
ثمّة تمثّل آخر مهمّ لأثر الإرث الدينيّ على خطاب السباق المتصاعد نحو الفضاء يكمن في مبدأ المدى الطويل وهي نظريّة شائعة في وادي السيليكون ويستخدمها روّاد الأعمال والمتحمّسون لغزو الفضاء في معرض دفاعهم عن العنف البيئيّ والإشكاليّات الناجمة عن توسّع الشركات الكبرى نحو السماوات إذ يدفعون بالقول إنّ كلّ هذه التداعيات عوارض حتميّة لهدف أسمى يتمثل في إنقاذ الجنس البشريّ من الفناء. وتنبثق هذه السرديّة من اعتقاد دينيّ متقادم مفاده قبول المعاناة على الأرض في سبيل المكافأة على ذلك في الآخرة. وقد أدّى هذا المعتقد، وفقًا لبعض الانتقادات، إلى التطبيع مع الفقر والعنصريّة والمعاناة لمجتمعات بأكملها وتدجينها لضمان عدم تمرّدها على أسباب قهرها ولضمان إدامة النظم السائدة. ومن نفس المنطلق يحاجج مليارديرات وادي السيليكون أنّ المشكلات اليوميّة للأفراد تتضائل أمام ما يسعون إليه من هدف أسمى يتمثّل في الحفاظ على الجنس البشريّ.
مقاربات بديلة
بالنظر إلى الإشكاليّات الجمّة لهذا السباق المتصاعد نحو الفضاء وإلى الأساطير والاعتقادات التي يستند عليها، تشير روبنستاين إلى مناداة مجموعة من العلماء وروّاد الفضاء والفلاسفة وعلماء الأنثروبولوجيا والفنّانين بنهج نازع للاستعمار فيما يخصّ استكشاف الفضاء. ويتضمّن تحقيق هذا النهج الحاجة إلى إثراء صناعة الفضاء برؤى تتنوّع حسب العرق والطبقة والجندر لضمان أن ترتكز مقاربة الفضاء الخارجيّ على وجهات نظر متنوّعة، كما يتضمّن ذلك الدعوة إلى الامتناع عن استخراج الموارد من الفضاء وسلعنته وتلويثه، وضرورة إخضاع الشركات الخاصّة لقواعد وقيود تنظيميّة محليّة وعالميّة.[3] ويرى هؤلاء النشطاء إمكان تحرير الفضاء من اعتباره «التخم الأخير» كوصف يستعيد سرديّة عنيفة من المحو والسلب والإبادة الإنسانيّة والبيئيّة. وبدلًا من ذلك، يمكن التطلّع إلى الفضاء كمساحة لخلق عوالم بديلة واجتماع بشريّ وكونيّ مختلف.
يمثّل الفضاء في الخطاب الأمريكيّ تخمًا مفتوحًا وأرضًا «بكرًا»، تمامًا كما ارتكزت الادعاءات في المشاريع الاستعماريّة الكلاسيكيّة على الحق في الاستحواذ على الأراضي وإبادة وتهجير سكّانها بزعم كونها أراضٍ فارغة أو غير مأهولة.
لا تدعو روبنستاين، في الحقيقة، إلى إلغاء استكشاف الفضاء، بل تَأْملُ في مقاربته بصور مغايرة عن طريق التخلّي عن الأساطير العنيفة التي شكّلت الخطاب حوله في صورته الراهنة والتطلّع إلى أساطير ورؤى أفضل. إذ تلفت روبنستاين النظر إلى مناهج فنية وأدبية -كالخيال العلمي- يمكن أن تشكل مصدرًا ملهمًا لسرديّات مغايرة حول الفضاء، كونها تطرح عوالم متخيّلة ومقاربات جديدة للاجتماع الإنسانيّ على الأرض وفي الفضاء ربّما تكون قادرة على إحداث قطيعة مع السرديّات الراهنة، أو، على الأقل، تبيان أنّ غزو الفضاء ونهبه ليس الخيار الوحيد، وأنّه «ثمّة خيارات أخرى»، كما تقول الكاتبة نورا جيميسين في أحد أعمالها.
في خضمّ تهافت الشركات الكبرى على حيازة السماء، يأتي هذا الكتاب بمثابة إنذار بالغ الأهميّة حول المآلات الخطيرة لسباق الفضاء الجديد. وبينما ينزع الكتاب إلى التكرار في بعض مواضعه، فربّما يمثّل هذا التكرار انعكاسًا لتاريخٍ طويل يُستعاد دون كلل إذ تضمن كلّ استعادة له تحقيق نفس النتائج. وعلى الرغم من أنّ بعض ما يطرحه الكتاب من رؤى يبدو مثاليًّا وحالمًا، فإنّه لا يدعونا إلى تبنّي أفكار أو نظريّات بعينها بالضرورة، بل إلى الانتباه إلى خطورة مشاريع المخلّصين الجدد في الفضاء، وإلى إعادة النظر في جدواها ومدى أخلاقيّتها، وإلى التيقّن أنّه ثمّة دائمًا خيارات أخرى كثيرة للعيش على الأرض وللتطلّع إلى ما وراء النجوم.
-
الهوامش
[1] Rubenstein, M.J. (2022). Astrotopia: The dangerous religion of the corporate space race. University of Chicago Press.
[2] وفقًا لتقديرات وكالة الفضاء الأوروبيّة للعام 2021، تمتلئ السماء بأعداد هائلة من الأجسام تتضمّن 34,000 جسم يزيد حجمه عن عشرة سنتيمترات، و900,000 جسم تتراوح أحجامها بين واحد وعشرة سنتيمترات، و128 مليون جسم بأحجام تتراوح بين 1 مليمتر و1 سنتيمتر، فيما تمثّل النفايات نسبة 95% من مجموع هذه الأجسام العالقة في المدار الأرضيّ المنخفض. كما يُقدَّر عدد الأقمار الصناعيّة في المدار الأرضيّ في العام 2021 بما يزيد عن سبعة آلاف قمر، تبلغ سرعة سيرها 18,000 ميل في الساعة، وتمثّل الأقمار البائدة منها أكثر من النصف.
[3] الجدير بالذكر أنّ روبنستاين تناقش بقدر من التوسّع الإشكاليّات التي تحيط بمحاولات تنظيم وتقنين استكشاف واستخدامات الفضاء منذ العام 1959 مع إنشاء الأمم المتحدة للجنة «استخدام الفضاء الخارجيّ في الأغراض السلميّة» وما تلاها من معاهدات مثل «معاهدة الفضاء الخارجي» و«اتفاقيّة القمر»، إذ تشير روبنستاين إلى الثغرات التي تعيب بعض مواد هذه الاتفاقيّات ما يسمح للهيئات الحكوميّة والشركات الخاصّة بالالتفاف عليها، وإلى امتناع كلّ الدول المرتادة للفضاء عن التوقيع على «اتفاقيّة القمر»، بالإضافة إلى افتقار لجنة استخدام الفضاء الخارجيّ من الناحية العمليّة إلى سلطة الإلزام القانونيّة.