ذات مرة، لمع نجمٌ في عالم محركات البحث. كان يدعى «ياهو»، وكانت صفحته الرئيسية الوجهة المفضلة لملايين مستخدمي الإنترنت، واعتبرت خوارزميات البحث الخاصة به من الطراز الأول. لكن سرعان ما ظهر أمامه متحدٍّ من الظل. كان «غوغل» مختلفًا عن أي شيء شاهده أهل الإنترنت من قبل. سريع ودقيق وسهل الاستخدام، وبواجهة بسيطة جعلت العثور على المعلومات أمرًا سهلًا. حاول «ياهو» مواكبة ذلك، لكن الأوان كان قد فات. ومحرك البحث الذي اعتدّ بنفسه سابقًا، بات يكافح لمطابقة نتائج بحث «غوغل» السريعة وميزاته الجديدة المبتكرة. مع مرور السنين، حاول «ياهو» جاهدًا استعادة مجده السابق. أطلق برمجيات جديدة، واستحوذ على شركات أخرى، وضخ ملايين الدولارات في الإعلانات. لكن كل هذا كان بلا فائدة. نمت هيمنة «غوغل» بشكل أقوى، ووجد «ياهو» نفسه مهمشًا بشكل متزايد في عالم البحث على الإنترنت. في النهاية، اضطر «ياهو» لقبول هزيمته. وتقلصت علامته التجارية إلى فتات ما كانت عليه. نهاية حزينة ومريرة لشركة كانت ذات يوم مليئة بالوعود والإمكانيات. ولكن هكذا هي الأمور في عالم التكنولوجيا.
محركات البحث هي بوصلتنا في العالم الرقمي. سواء كنا نبحث عن معلومات حول موضوع ما، أم عن هدية نشتريها، أم نحاول العثور على أفضل مطعم في المدينة؛ محركات البحث هي مصدرنا الأسرع للحصول على المعلومات. ومنذ إطلاقه في عام 1998، نما محرك البحث «غوغل» بشكلٍ مذهل، بحيث بات الحارس شبه الوحيد لبوابة الإنترنت. لكن مع إطلاق شركة «أوبن أي آي» لـ«تشات جي بي تي» ومن ثم «جي بي تي 4»، وبعدها دمج شركة «مايكروسوفت» روبوت الدردشة مع محركها البحثي «بينغ»، بالتوازي مع التطويرات السريعة والمتلاحقة، تبدّل المشهد. وسرعان ما اكتشف مستخدمو الإنترنت أن لا حاجة لمحركات البحث بعد الآن، فقد دخلنا عصر الرفيق الرقمي.
الويب عبارة عن مكان تتواجد فيه الأشياء كلها بشكل عشوائي. والمواقع الإلكترونية التي نتصفحها هي عبارة عن ملفات تعيش في خوادم. وعلى سبيل المثال، عندما نكتب عنوان موقع «حبر» في المتصفّح، يذهب الأخير إلى الخادم الذي تتواجد فيه ملفات الموقع، ومن ثم يضعها أمامنا على الشاشة. لكن ماذا لو أردنا البحث عن معلومات متعلقة بالطقس مثلًا ولا علم لنا بعنوان موقع مختص بذلك، هو فعلًا موجود في مكان ما هناك بين أقبية الويب، لكن كيف نجده؟
من أجل حل هذه المشكلة، ولدت محركات البحث. وبطبيعة الحال، أشهرها حتى الآن «غوغل». يعمل عملاق محركات البحث هذا عبر ثلاث مراحل: أولًا، وبما أنه لا سجل مركزي مثل فهرس لمحتوى الويب، يقوم محرك بحث «غوغل» بمسح كل عناوين المواقع الموجودة في الويب، فإن وجد مواقع جديدة، يضيفها إلى قائمة المواقع المعروفة لديه. ثانيًا، لدى «غوغل» روبوتات برمجية، تسمى «Googlebots» تقوم بعملية تسمى «الزحف» (Crawling)، حيث تتبع ما يوجد من صفحات داخل الموقع الإلكتروني. بعد ذلك، يحاول «غوغل» فهم محتوى الصفحات، وتُعرف هذه المرحلة بـ«الفهرسة» وتشمل معالجة وتحليل المحتوى النصي والعلامات والسمات الرئيسية للمحتوى. عمليًا، تم ربط المحتوى بالعنوان وفهرستهما. ثالثًا، عندما يُجري المستخدم عملية بحث، سيقدم له «غوغل» مواقع إلكترونية تحتوي على نتائج مطابقة لبحثه من قائمة الفهرس التي صنعها.
أصبح يمكننا اليوم أن نسأل روبوت عما يجول في خاطرنا، فيعطينا إجابة مباشرة، بعكس الكميات الكبيرة من المعلومات التي كانت تغرقنا بها محركات البحث. هذا انتقال جذري، من عصر الإغراق بالمعلومات، إلى عصر الرفيق الرقمي الذي يملك المعرفة.
فعالية نموذج العمل هذا جعلت «غوغل» محرك البحث الأكثر شهرة في جميع أنحاء العالم. وبحسب موقع «ستات كاونتر»، تبلغ حصة «غوغل» من كل عمليات البحث عبر الإنترنت عالميًا أكثر من 93%، في مقابل 2.81% لـ«بينغ»، و1.13% لـ«ياهو» و0.85% لـ«ياندكس»، حتى شباط 2023. ووفقًا لأحدث البيانات عن إيرادات «غوغل» لعام 2022، بحسب «ستاتيستا»، بلغ مجموع الإيرادات 279.8 مليار دولار، وحوالي 58.1% من ذلك المبلغ أتى من الإعلانات عبر محرك البحث. وتوزعت النسب المتبقية بين 11.7% من إعلانات الشبكة، و10.5% من إعلانات «يوتيوب»، و10.4% من التطبيقات والأجهزة و9.4% من خدمات السحاب (Cloud services). تبلغ القيمة السوقية لـ«ألفابت»، الشركة الأم لـ«غوغل» حوالي 1.3 تريليون دولار، وهي جزء من نادي «الخمسة الكبار»، وهم «أمازون» و«آبل» و«مايكروسوفت» و«ألفابت» و«ميتا»، ويرمز لهم بـ(GAMAM).
كانت شركة «غوغل» تعمل منذ مدة على روبوت دردشة خاص بها يدعى «بارْد» (Bard)، مبني على نموذج لغوي كبير يدعى «لامدا» (LaMDA). ولم يكن هناك من معلومات واضحة حول مدى تقدمه أو ما الذي استطاعت الشركة تحقيقه من اختراقات، ما عدا حادثة واحدة ضج بها عالم الديجيتال، عندما طردت «غوغل» مهندس البرامج بليك ليموين، في تموز الماضي، بعد شهر من إعلانه أن الذكاء الاصطناعي الذي تبنيه الشركة لديه «درجة من الوعي» بحيث بات «يشعُر». وقالت «غوغل» إن ليموين اختلطت عليه الأمور كما أنه خالف قوانين الشركة بالتحدث عن أسرارها. وبالعودة إلى الحاضر، أي بعد إطلاق «تشات جي بي تي» وتحوله إلى حدث ضخم، شعرت «غوغل» بالخطر، وحاولت أن ترد عبر إطلاق روبوت الدردشة الخاص بها، لتحصل احداث غير متوقعة أدخلت الشركة في دوامة من الحظ السيء الممزوج ببطء سير الأمور داخل الشركات العملاقة. فالبيروقراطية ليست صفة حصرية للحكومات.
المهم، في السادس من شباط الماضي، أعلنت الشركة عن إطلاقها لروبوت الدردشة «بارْد»، وخلال العرض التجريبي للنظام والذي بُث بشكل مباشر، أخطأ الروبوت في الإجابات، وشعر الناس أنه ليس منافسًا حقيقيًا لـتشات جي بي تي»، وتدحرجت الكرة لتخسر «غوغل» أكثر من 100 مليار دولار من قيمتها السوقية خلال 48 ساعة. في الـ14 من الشهر الحالي، أعلنت «غوغل» إطلاقها تحديثات جديدة لنظم الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، من بينها أدوات لإنشاء النصوص والصور ومستقبلًا أدوات للصوت والفيديو، مع دمج النظام وميزاته بكل من جيميل وجوجل دوكس وجوجل كلاود. ولم تمض ساعات حتى أعلنت «أوبن أي آي» إطلاق «جي بي تي 4» ومحت معه كل الصخب الإعلامي عن أدوات «غوغل». ثم أعلنت «مايكروسوفت» دمجها الذكاء الاصطناعي مع حزمة برامج «أوفيس» التابعة لها.
سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لـ«أوبن أي آي»، كان صريحًا في إعلانه عن مخاوفه من السرعة التي تتطور بها الأمور في مجال الذكاء الاصطناعي، فـ«جي بي تي4» لم يكن مقدرًا له أن يخرج الآن، وقد أعاد تكرار تلك الملاحظات في أكثر من مقابلة تلفزيونية وصحفية وأخيرًا مع بودكاست ليكس فريدمان الشهير. لكن «أوبن أي آي» لم تقم بتلك النقلات على رقعة الشطرنج من تلقاء نفسها، الشركة، نظريًا، باتت مملوكة من قبل أحد أشرس المنافسين في قطاع التكنولوجيا، شركة «مايكروسوفت»، التي مولت «أوبن أي آي» بمليارات الدولارات والتي تدفعها إلى تسريع الجهود. وأبرز ما يؤكد هذا التحليل، التسريبات من اجتماع لإعادة التنظيم في «مايكروسوفت»، حيث قال نائب رئيس شركة «مايكروسوفت» للذكاء الاصطناعي، جون مونتغمري، لأعضاء الفريق، إن مدير التكنولوجيا في «مايكروسوفت»، كيفن سكوت، والرئيس التنفيذي، ساتيا ناديلا، يمارسان «ضغطًا شديدًا للغاية» لطرح نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بـ«أوبن أي آي»على المستهلكين «في أسرع وقت». وبالتالي، من المنطقي الآن التحدث عن «مايكروسوفت» أمام «غوغل»، إذ هذا ما ستكون عليه الأمور في السنوات القادمة، بعدما كانت «آبل» غريمة صانع نظام التشغيل «ويندوز».
من عصر المعلومات إلى عصر المعرفة والرفيق الرقمي
منذ أن دمجت «مايكروسوفت» نظام «جي بي تي 4» مع محرك البحث الخاص بها «بينغ»، كان واضحًا للجميع أن الإنترنت تغيّر إلى الأبد. فعلى سبيل المثال، بات يمكن للمستخدم أن يشاهد مقاطع «يوتيوب» إلى جانب روبوت الدردشة في «بينغ». سأكرر الأمر، بات يمكن للمستخدم والذكاء الاصطناعي أن يشاهدا فيديو سويًا وأن يتحدثا عنه. إن ميزة كهذه كافية لوحدها أن تزرع احساسًا بالقشعريرة لدى مدراء «غوغل».
تحاول «مايكروسوفت» الاستفادة من الزخم والضجيج المرتبط بأنظمة الذكاء الاصطناعي حاليًا، لكسر هيمنة «غوغل» على جموع المستخدمين. هي كعكة احتفظت بها «ألفابت» سنوات طويلة لنفسها، و«مايكروسوفت» تريد حصتها بأسرع وقتٍ ممكن. وهذا النقاش الدائر، حول من سيسيطر على شعب الإنترنت، بمعزل عما يمكن أن يحدث من مخاطر بسبب التطويرات السريعة في الذكاء الاصطناعي، جعل مئات الخبراء في ذلك المجال، ومن ضمنهم إيلون ماسك وستيف وازنياك، وأعضاء من مختبر «ديب مايند» للذكاء الاصطناعي التابع لـ«غوغل» ومهندسين من شركة «مايكروسوفت»، يوقعون عريضة الأربعاء الماضي، دعوا فيها إلى وقف تطوير برامج للذكاء الاصطناعي أقوى من «جي بي تي 4»، ولمدة ستة أشهر، مشيرين إلى ما تحمله هذه البرامج من «مخاطر كبيرة على البشرية». وفي مؤتمر صحفي عقده افتراضيًا في مونتريال، أبدى الرائد في مجال الذكاء الاصطناعي، يوشوا بنجيو، مخاوفه من هذه التقنية، وقال «لا أعتقد أن المجتمع حاضر لمواجهة هذه التقنية ذات القدرات الكبيرة والتي قد تؤثّر على شعوب وتعرّض دولًا ديمقراطية للخطر». وأضاف «ينبغي إبطاء هذا السباق التجاري»، داعيًا إلى «مناقشة هذه القضايا على المستوى العالمي، على غرار ما حدث في موضوعي الطاقة والأسلحة النووية».
تحاول «مايكروسوفت» الاستفادة من الزخم والضجيج المرتبط بأنظمة الذكاء الاصطناعي حاليًا، لكسر هيمنة «غوغل» على جموع المستخدمين.
واقعيًا، تلك المخاوف حقيقية. علمًا أن روبوتات الدردشة لا تزال تعاني من هلوسات، لكنها تكشف خوف أرباب صناعة التكنولوجيا من أنظمة لم يشاركوا في إنتاجها. ويمكن فهم فترة الأشهر الستة على أنها فرصة لهم لينتجوا ذكاءً اصطناعيًا قادرًا على منافسة ما بات بين يدي «مايكروسوفت».
محركات البحث تستخدم خوارزميات التعلم الآلي لتقديم نتائج بحث مخصصة بناءً على تفضيلات المستخدم واهتماماته. لكن باستخدام محركات بحث تعمل بالذكاء الاصطناعي، يمكن للمستخدمين توقع تجربة أكثر شبهًا بالتعامل مع الإنسان، حيث يعمل محرك البحث كمساعد شخصي/ رفيق، ويقدم اقتراحات وتوصيات بناءً على سجل بحث المستخدم وموقعه وعوامل أخرى.
سابقًا، وعند البحث عن معلومات عبر محركات البحث، كانت تظهر لنا ملايين الصفحات التي تحوي أشياء مشابهة لما نريد معرفته، في حين أننا اليوم، نسأل روبوت، يعرف تمامًا ما يجول في خاطرنا، فيعطينا إجابة مباشرة. كما أن «بينغ» يقدم مصادر أجوبته. هذا انتقال جذري، من عصر الإغراق بالمعلومات، إلى عصر الرفيق الرقمي الذي يملك المعرفة، بمعنى أن تلك الأنظمة يمكن أن نستعين بها دون الحاجة أن تكون متصلة بالإنترنت، هي أشبه بشخص أتم دراسته في كل العلوم، ويمكن لنا التحدث إليه وقتما نشاء. وهذا جوهر القفزة التكنولوجية التي حصلت.
لم يكن أحد يتوقع أن تحصل الأمور بهذه السرعة، نحن الآن جمهور يشاهد تنافسًا شرسًا بين عمالقة التكنولوجيا. حتى إن متابعة وفهم التطورات المتلاحقة كل أسبوع باتت أمرًا مستحيلًا، فعلى سبيل المثال، أطلقت «أوبن أي آي» إضافات (Plugins) لنظام «جي بي تي 4»، وهي مثل تطبيقات الهاتف لكن مبنية على ذكاء اصطناعي. وبالتالي، يمكن للمستخدم أن يطلب من تطبيق مختص بالفنادق مثلًا، أن يحجز غرفة نيابة عنه ويدفع المال. أو من تطبيق آخر التواصل مع عيادة الطبيب وحجز موعد في وقت يناسب المستخدم. المساعدون الرقميون مثل «سيري» و«ألكسا» يبدون مثل أجهزة صدئة أمام هذا التطور الذي لن يتوقف.
سيحتاج العالم إلى بعض الوقت لاستيعاب ما حصل، وإلى أن يهدأ الغبار المتصاعد من عراك «مايكروسوفت» و«غوغل» ومعرفة إن كانت الأخيرة ستلقى مصير ضحيتها الأولى «ياهو»، سيستمر الحديث عن تلك الأنظمة إلى أن تصبح عادية بالنسبة لنا. وأفضل ما يمكن لنا فعله الآن، هو متابعة ما يحصل قدر المستطاع، ومحاولة التدرب والاندماج مع التقنيات الجديدة، خصوصًا أنها في القريب العاجل ستصبح جزءًا من مهام عملنا وأمور حياتنا اليومية.