كيف أصبحت تايوان أهم مصدر للرقائق في العالم؟

الأحد 22 كانون الأول 2024
من مقر شركة TSMC التايوانية. رويترز.

نشر هذا المقال في موقع بوسطن ريفيو، في 16 أيلول 2024.

تخلق المخاوف بشأن أفول الهيمنة الأمريكية وصعود الصين إجماعًا جديدًا في واشنطن. ففي جلسة استماع للكونغرس مؤخرًا حول «الحرب السياسية للحزب الشيوعي الصيني» عبرت عضو مجلس النواب الأمريكي عن ولاية كساس، جازمين كروكيت، عن هذه النزعة، في إحالتها إلى البلد الصغير العالق بين القوتين العظميين في العالم: «كثيرا ما أخبر أصدقائي من تايوان بأن الأمر الوحيد المتفق عليه بين الحزبين في اجتماع الكونغرس 118 هو الصين».

أكبر دليل على هذا هو قانون الرقائق والعلوم لعام 2022، وهو أحد الإنجازات التشريعية التي تحمل بصمة جو بايدن، والذي يتعهد بمبلغ 52.7 مليار دولار للحث على تصنيع أشباه الموصلات الأمريكية من خلال خليط من الإعانات والإعفاءات الضريبية والبحث والتطوير والإنفاق على تدريب القوى العاملة. كانت الاصطفافات المعتادة للحزبين كفيلة بإسقاط مشروع القرار لولا تأثير تهديد التكنولوجيا الصينية المتطورة التي وحدتهما. والآن بعد سنتين من وضعه موضع التنفيذ، يشاد بالقانون على أنه تغير اقتصادي هائل، ونقلة حاسمة من التجارة الحرة النيوليبرالية إلى سياسة التصنيع بإشراف من الدولة.

في الواقع، لا تصنّع الولايات المتحدة الرقائق حاليًا، بل تعتمد على عملية معقدة من التصميم والإنتاج والتجميع والاختبار تمتد في أرجاء الكرة الأرضية. يتم أغلب التصنيع شرقي أسيا؛ إذ تنتج تايوان على وجه التحديد 41% من كافة الشرائح الدقيقة، وأكثر من 90% من أكثرها تطورًا، التي تعتبر ضرورية للحواسيب والذكاء الاصطناعي. يعطي تمركز سلسلة التوريدات في جزيرة تسعى الصين صراحةً إلى «إعادة ضمها» الأمر ثقلًا خطيرًا أكثر من المعتاد. صاغت كاثلين هيكس، نائبة وزير الدفاع خلال حفل في البيت الأبيض لتمرير مشروع القرار في مراحله الأخيرة في الكونغرس، المشروع بمصطلحات تشابه الطاقة النووية الحرارية. «أشباه الموصلات -ولا أبالغ في القول- نقطة الانطلاق لمنافستنا التكنولوجية مع الصين».

في حين تعتبر شركات مثل إنتل وسامسونغ من أكبر المستفيدين من قانون الرقائق، إلا أن الجميع يعرف أن الانقلاب الرئيس هو في جعل المصنّع الأول للرقائق في العالم، أي شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات (TSMC)، تبني ورشها على التراب الأمريكي. رغم أن المنافسة ضاقت في السنوات الأخيرة، إلا أنه ليس بمستطاع أي شركة حتى الآن مضاهاة TSMC في دقة التصنيع، والمردود المرتفع، وسرعة الإنتاج، ويتردد حاليًا تقدمها على الجميع في اتجاه إنتاج الجيل الثاني من رقائق «نانوميتر 2». تعتبر TSMC -التي أصبح متاحًا أمامها الآن بناء ورش لها في أريزونا- أغلى شركة في تاريخ تايوان، ونجاحها العالمي مذهل بالنسبة لبلد تطور عبر الصادرات الرخيصة.

فما الذي يفسر نجاحها؟ تستشهد معظم الإجابات المعتادة بالتركيز الحصري للشركة على تصنيع الرقائق وثقافة العمل المكثف التي أرساها المدراء القساة المتطلبون. ومع ذلك، لماذا تايوان؟ ما الذي مكّن هذا البلد الصغير، الذي ما زالت سيادته موضع نزاع مستحكم من جانب بكين، من أن يسيطر على الإنتاج فائق القيمة لأشباه الموصلات المتطورة؟

تتطلب الإجابة منظورًا أبعد. فقد شكّل شبح قرون من الاستعمار مشروع تايوان لأشباه الموصلات، وما يزال يلاحقه. فحتى مع تربع صناعة الرقائق التايوانية الناجحة بامتياز على قمة سلسلة التوريدات العالمية، تبقى التشابكات الإمبراطورية الجديدة غير مستقرة، ونحن نشهد اليوم تبعاتها.

تقع الرقائق في قلب الحوسبة بأكملها. فهده الدوائر الكهربائية الصغيرة المدمجة -مربعات رقيقة بسُمك بضعة مليمترات- تحتوي على عدة طبقات من المكونات الكهربائية، يمكنها ضم مليارات الترانزستورات الفائقة الصغر، يستطيع كل منها تشغيل أو إطفاء تيار كهربائي بسرعة فائقة. إن هذه هي الآلية الفيزيائية التي تتيح للحواسيب معالجة المعلومات الرقمية المشفرة كسلاسل من آحاد وأصفار؛ إذ تعتمد على خصائص أشباه الموصلات لعناصر مثل السليكون، حيث يعني تكديس المزيد من الترانزيستورات في رقاقة واحدة حوسبة أشد قوة وفعالية. لقد جعلت التحسينات في التصميم والتصنيع على هذه المستويات المجهرية كافة أشكال تكنولوجيا المعلومات الحديثة متاحة، بدءًا من الحواسب المحمولة إلى الهواتف الذكية ومراكز المعلومات والكثير غيرها.

قبل أن يدرك الرأسماليون الاستثماريون ومدراء الشركات إمكانية تحقيق الأرباح، كان الدافع لإنتاج الرقائق هو استراتيجية الحرب الباردة الأمريكية. فقد فهم قادة البنتاغون أنه ليس بمقدورهم منافسة الجيش السوفييتي عدديًا، لذلك فقد منحت التكنولوجيات الجديدة المسلحة بالرقائق طريقة لبناء أفضليات في المراقبة والاستخبارات والتسلح.

سرعان ما تبنت مؤسسات الأمن القومي الأمريكية الفكرة، وأثبتتها صواريخ سلاح الجو الأمريكي مينيتمان 11 العابرة للقارات والموجهة برقاقة صغيرة من صنع شركة «تكساس إنسترومنتس» والتي لاقت نجاحًا فائقًا عام 1962، لتفتح الأبواب أمام عدد من شركات وادي السيليكون التي صممت وأنتجت وأوصلت الرقائق إلى البنتاغون. حلّق الطلب الاستهلاكي على الإلكترونيات والحواسب المحمولة في الثمانينيات، إلا أن هذا لم يعنِ أن أشباه الموصلات قد فقدت أهميتها بالنسبة للأمن القومي. في آخر عام من ولايته، قال رونالد ريغان «سيُسقِط داوودُ الرقاقة جالوت الاستبداد، ستكون ثورة الاتصالات أعظم قوة لتطوير الحرية الإنسانية التي يشهدها العالم، بما يفوق الجيوش والدبلوماسية والنوايا الطيبة للأمم الديمقراطية». لقد اعتمدت الحرب بين الرأسمالية والاشتراكية على القوى التجارية بقدر ما اعتمدت على القوة العسكرية الواضحة والمكشوفة.

اليوم، القليل من الشركات تنتج الرقائق بنفسها. يصمم اللاعبون الكبار من أمثال إنفيديا وAMD وأبل أحدث تقنيات الرقائق مثل وحدات معالجة الرسومات اللازمة للتعلم الحاسوبي العميق الذي يعتمد عليه الذكاء الاصطناعي التوليدي، إلا أنها تعتمد على شركات أخرى لإنتاجها تجاريًا.

هنالك سبب لهذا الوضع: يواجه تصنيع رقائق حديثة بكميات كبيرة تحديًا هائلًا. فهي بالأساس مكلفة جدًا، ذلك أن بناء ورشة واحدة قد تصل تكلفتها إلى 15 مليار دولار، ناهيك عن ورش تمتد على مساحة تفوق عشرين ملعبًا لكرة القدم، مليئة بمعدات ثمينة وعالية التقنية. هذا عدا عن كون العملية صعبة للغاية وتحتاج إلى عمالة كثيفة.

للتبسيط، تجري العملية عبر سلسلة التوريد برمتها على الشكل التالي: يتم شراء السليكون من شركات التنجيم التي تعمل على استخراج السيليكا من التراب الغني بالسيليكا والكوارتز من مختلف المناطق حول العالم، ثم يذاب على درجات حرارة مرتفعة، ويبرد على شكل عامود، ثم ينشر بمنشار الألماس على شكل شرائح أفقية متساوية، تباع إلى مصنّعين مثل TSMC. هناك، تجري إضافة عدد من المواد، بما فيها طبقة حساسة للضوء، إلى سطح الشرائح. يسلط نوع محدد من الأشعة على الطلاء لنقش أنماط مجهرية، وتزرع الأيونات للسيطرة على سريان الكهرباء، مما ينجم عنه سلسلة من المكونات الكهربائية المترابطة داخليًا. تكرر عملية نقش الأنماط مرة بعد أخرى، لتضيف في كل مرة طبقة نانوية الحجم من قوة الحوسبة. بعد أشهر من عمل الإنتاج، تقطع الشرائح إلى رقائق منفصلة، وترسل للاختبار والتركيب النهائي. تعتبر الرقائق المتطورة المحملة بالترانزستورات الشديدة الصغر أكثر البضائع تعقيدًا في تاريخ الإنتاج الرأسمالي العالمي. أما اليوم، فلا تستطيع إلا TSMC وقلة من الشركات المتطورة إنتاج مثل هذه الدارات بمعدلات وكميات معقولة وتسليمها بوقت قياسي.

أنشأ موريس تشانغ شركة TSMC عام 1987. ولد تشانغ في الصين، وهو خريج الهندسة من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث تدرج في المناصب في شركة تكساس إنسترومنتس قبل أن تستقطبه الحكومة التايوانية فيغادر الولايات المتحدة ليقود قطاع أشباه الموصلات في تايوان. كثيرًا ما يعتبر تشانغ، الذي أصبح مليارديرًا، «عملاق صناعة أسطوري» على شاكلة هنري فورد أو ستيف جوبز. لكن في الواقع، وكما هي الحال دائمًا، فقد تشكلت الأرضية التي أرسى عليها هو وTCMS نجاحهما المنقطع النظير على تيارات أكبر.

تمتد الكثير من تلك القوى إلى قرون خلت. فقد احتلت الإمبراطورية الصينية في عهد سلالة تشينغ تايوان عام 1683 لتوسيع نفوذها ومحو المنافسين السياسيين على حدودها، وهي التي كانت الإمبراطورية المهيمنة في شرق آسيا آنذاك. كان التجار الأوروبيون المتواجدين في وقت مبكر من 1624 مهمشين بالمقارنة مع القوى الإقليمية حينذاك. وقد استقر في تايوان أجيال من المهاجرين الصينيين على مدار ما يربو على القرنين، أغلبهم من مقاطعات فوجيان وغوانغ دونغ، بعد أن دفعوا السكان الأصلانيين من الأسترونيزيين إلى الداخل الجبلي. أصبحت تايوان مستعمرة اليابان الأولى بعد أن سلّمت الصين الجزيرة لليابانيين بعيد الحرب الصينية-اليابانية الأولى عام 1895. كان سعي اليابان لإدارة الجزيرة «كمستعمرة نموذجية» جزءًا من حملتها الواسعة في استعمار المقاطعات الآسيوية إلى الجنوب، وذلك لإظهار الأساليب «المتحضرة» للإمبريالية اليابانية أمام السكان المحليين ومنافسة المستعمرين القادمين من الغرب.

استثمرت الإمبراطورية اليابانية بقوة في البنى التحتية للجزيرة كي تتمكن من التوريد إلى البر الياباني. فأطلقت مشاريع تطويرية واسعة المدى حولت البلاد من منتج زراعي إلى منتج صناعي. كان أحد هذه المشاريع إقامة شبكة مواصلات واسعة تربط موانئ تايوان الرئيسة وهي كاوهسيونغ وكيلونغ وهوالين لتسهيل تصدير السكر. وقد دفعت مبالغ مهولة من أجل بناء الموانئ وإنشاء خطوط السكك الحديدية وقنوات الري وتنشيط صناعة السكر. أصبحت تايوان مكتفية ذاتيًا من الناحية المالية وأصبحت تنقل البضائع والمصادر الطبيعية إلى اليابان خلال عشر سنوات من الاحتلال. تضخمت الزيادة السنوية في الصادرات كنسبة الناتج القومي المحلي، خصوصًا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وذلك بمعدلات لن يُشهد مثيل لها مرة أخرى حتى انتقال البلاد إلى عقود التصنيع القليلة الكلفة في السبعينيات.

مولت الحكومة الاستعمارية هذه المشاريع الصناعية من خلال إعادة تشكيل الاقتصاد التايواني بصورة راديكالية، فخلقت بنكًا مركزيًا، وفرضت سياسات لتسجيل الأراضي، وجني الضرائب على أسس الإنتاجية. ولّدت هذه التغييرات عائدات من الضرائب في الوقت الذي حمت فيه الملكية الخاصة، وقد عززتها الدولة بدورها من خلال سياسات ضريبية كافئت الادخار الخاص وتكوين رأس المال. (وقد وظفت الحكومة التايوانية ذات التكتيكات في وقت لاحق من الستينيات لتصبح ملاذًا ضريبيًا للمصدرين).

بينما أنشأت اليابان هذه البنى التحتية، كانت إدارتها اليومية للشعب التايواني سلمية ومستقرة نسبيًا. رغم قمع الحكومة الاستعمارية لحركات المطالبة بالحكم الذاتي والحقوق السياسية والاقتصادية، ما يزال بعض كبار السن من التايوانيين يتماهون مع القومية اليابانية، ويفضلون أساليب اليابان «المتحضرة» على أساليب الصين. فقد طبق المستعمرون سياسة التذويب «كومينكا» لتحويل التايوانيين إلى خاضعين للإمبراطورية اليابانية من خلال البرامج الثقافية وتعليم اللغة الابتدائي، ولكن الأسباب كانت في نهاية المطاف مادية في جلها: فاليابانيون هم من بنوا الطرق والمستشفيات.

لكن شكل الإمبريالية اليابانية في الصين كان مختلفًا كليًا. حيث أفضى الزحف الياباني الداخلي لاستعمار الصين في الحرب الصينية-اليابانية الثانية، والتي بدأت في الثلاثينيات وتصاعدت أثناء الحرب العالمية الثانية، إلى عنف شرس وإخضاع وقتل للملايين. في حين أدت معاملة تايوان الأكثر تنظيمًا وراحة بالمقارنة عمليًا إلى فصل قدرها عن البر الصيني، لتنتج مشاعر معقدة إزاء الهوية القومية بالنسبة للعديد من التايوانيين، بحيث باتت الصين و«التصيُّن» مجرد آثار من أزمنة ماضية تحت حكم أسرة تشينغ.

استخدمت الولايات المتحدة تايوان كقاعدة متقدمة للإمبراطورية الأمريكية، حيث أصبحت مسرحًا للقوات العسكرية والقوى الرقابية في آسيا وشرًا أيديولوجيًا بالنسبة لجارتها على البر.

كانت الدولة الصينية عند الغزو الياباني في خضم حرب أهلية بين جمهورية الصين التي يحكمها حزب الكومنتانغ الوطني بزعامة تشيانغ كاي تشيك، والحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماو تسي تونغ. وقد دخل الطرفان في تحالف لطرد اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن بعد استسلام اليابان، أجبرت الولايات المتحدة اليابان على نقل تايوان المحتلة من قبلها إلى الجمهوريين الصينيين بعد معاودتهم الاقتتال مع الشيوعيين. ولكن بعد أن استحوذ الحزب الشيوعي الصيني على أغلب الأرض عام 1949، فرت النخبة العسكرية والسياسية لسلطة تشيانغ إلى تايوان. وأسست هناك بعون من الولايات المتحدة، حكمًا عسكريًا سيدوم حوالي الأربعين عامًا، سُحق فيه النشاط العمالي من خلال قوانين عمل قمعية، ولُجم المنشقون من خلال حملات «الرعب الأبيض».

هذا هي حالة تايوان الفريدة. فقد كانت الجزيرة جزءًا من تشكلاتٍ إمبراطوريةٍ متعددة، سهلت تخيل وإسقاط الكثير من الأفكار المختلفة «للإمبراطورية» عليها. أصبح مجتمع الجزيرة بالنسبة لحزب الكومنتانغ المنفي بعد هزيمته في الحرب الأهلية الصينية وطنًا جديدًا لـ«جمهورية الصين». فقد كانت تايوان بالنسبة لهم الوريث الشرعي للصين الحقيقية، حتى وإن لم يعتبر الكثير من التايوانيين بعد عقود من الاستعمار الياباني أنفسهم صينيين أو شيوعيين أو ما شابه.

أما على المقلب الآخر، فقد اعتبرت جمهورية الصين الشعبية المنتصرة تحت حكم الحزب الشيوعي الصيني، تايوان أرضًا لها، مستدعية حدودًا رسمت قبل نصف قرن تحت حكم تشينغ. بذلك أصبح الاستعمار الياباني من خلال هذا السرد التاريخي مجرد قطع قصير في قوس بناء الأمة الصينية العظيم. وسوف تقنن الولايات المتحدة الأمريكية هذه الادعاءات القومية المتصارعة في مراسلات رسمية عام 1982، معلنةً اتفاق كل طرف بأنه «ليس هنالك إلا صين واحدة، وأن تايوان هي جزء من الصين».

تشابكت هذه التناقضات في الهوية الوطنية التايوانية تمامًا مع الجغرافيا السياسية للحرب الباردة. سارعت الولايات المتحدة، بعد أن شهدت دعم جمهورية الصين الشعبية للشيوعيين الكوريين في الحرب الكورية، واستشعارها بانتشار الشيوعية عبر المنطقة، إلى تبني سياسة تدخلية معادية للمد الشيوعي في شرق آسيا في الخمسينيات. حيث وجدت في الكومنتانغ فرصة لهزيمة أو على الأقل عزل الشيوعية، وفرض نوع من الرأسمالية العالمية على صورتها. وقد أشار فرانز فانون بدقة إلى أن الحرب الباردة الناشئة كانت شاهدًا على أن «الأمريكيين يأخدون دورهم كراعٍ للرأسمالية العالمية بجدية كبيرة».

وهكذا، استخدمت الولايات المتحدة تايوان كقاعدة متقدمة للإمبراطورية الأمريكية، حيث أصبحت مسرحًا للقوات العسكرية والقوى الرقابية في آسيا وشرًا أيديولوجيًا بالنسبة لجارتها على البر. فقد مدت الولايات المتحدة السلطة الوطنية اليمينية بالمساعدات الاقتصادية والدعم العسكري والدبلوماسي، وكان القادة التايوانيون أكثر من حريصين على احتضان المانحين. تدفقت المساعدات الأجنبية الأمريكية إلى تايوان ما بين 1950 و1967 لتعادل قرابة أربعة مليارات دولار، ذهب حوالي 40% منها إلى التنمية الاقتصادية غير العسكرية. (يزيد هذا على 44 مليار دولار بحسب قيمة الدولار الحالي). في مقابل هذا التدفق المالي، ضغطت الولايات المتحدة على الدولة التايوانية لدخول الأسواق العالمية من خلال سياسات اقتصادية موجهة نحو التصدير. أصبحت تايوان بحلول 1973 سابع أكبر مَصْدَر للواردات الأمريكية، وانتقل إنتاج البلاد من تصدير السكر إلى البضائع الصناعية مثل النسيج والإلكترونيات.

أرسى المستعمرون اليابانيون أسس التصنيع، إلا أن سيطرة الكومنتانغ الدكتاتورية بإيعاز من السياسة الخارجية الأمريكية هي التي سرعت في تحديث النمو الاقتصادي التايواني. أدركت الشركات متعددة الجنسيات ميزات إنشاء الشركات في تايوان، ووجدتها فرصة لاستغلال عمالة رخيصة وخامدة في ظل سلطة دكتاتورية. نما الاستثمار الرأسمالي الأمريكي في تايوان ما بين 1960 و1973 بمعدل سنوي يعادل 28.2%. وقد نحت عالم الاجتماع أندريه غوندور فرانك مصطلح «البرجوازية الرثة» لوصف نخب العالم الثالث التي قادت استغلالها من الأعلى من أجل تقبل الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي المقدم لها للبقاء في السلطة. وكان يصف حالة ما بعد الاستعمار في أمريكا اللاتينية، إلا أن الكلام ينطبق على تايوان ما بعد الحرب.

انبثقت TSMC من خلال هذه القوى. وبات لدى تايوان بحلول الثمانينيات بعض الخبرة في تصدير أشباه الموصلات المدعومة من الدولة، والمستفيدة من اتفاقية ناجحة لنقل التكنولوجيا عام 1976 مع شركة الأمريكية RCA من أجل بناء مرافق وخبرات للتصنيع المحلي.

من أجل المزيد من التطوير في هذا القطاع، قرر الكومنتانغ الاستثمار في شركة تصنيع نامية محليًا، وذلك بسحب تمويل من صندوق الحكومة السيادي ومنح TSMC الناشئة 48% من رأس المال المؤسس (فيما جاءت البقية من شركة فيليبس الهولندية للتكنولوجيا ومن أثرياء تايوانيين يمتلكون شركات بلاستيك ونسيج وكيماويات). انطلقت الشركة بنموذج عمل جديد يتمثل في تصنيع الرقائق حصريًا لشركات أخرى، وهي خطة تماشت مع قوة تايوان في جذب رأس المال الغربي. وقد تواجد الكومنتانغ لرعاية خطواتها طوال الطريق. وكما يكتب كريس ميلر في كتابه «حرب الرقائق: القتال من أجل أخطر تكنولوجيا في العالم» (2022): «لم تكن TSMC شركة خاصة منذ يومها الأول: بل كانت مشروعًا للدولة التايوانية».

ولكن ماذا كانت هذه الدولة بالضبط؟ بدأ التطور الاقتصادي بالتباطؤ بعد لبرلة الاقتصاد الصيني عام 1987، ما خلق منافسة جديدة على العمالة الرخيصة، بحيث أغلق العديد من أصحاب العمل التايوانيين مصانعهم المحلية ونقلوا عملياتهم إلى البر الصيني لاستغلال أجور أدنى بكثير. ارتأت تايوان في هذا المناخ من التنمية المعتمدة على كثافة رأس المال طريقًا رئيسًا للتمسك بدرجتها من السلم في سلاسل التوريد متعددة الجنسيات.

كذلك كانت السياسات الداخلية للأمة في تغير. توفي الجنرال تشيانغ عام 1975، ليصبح الحزب الوطني الذي كان يومًا حزبًا للنخبة العسكرية في البر الصيني، موئلًا للرياديين التكنوقراط والمهنيين. في تلك الأثناء، انطلقت حركة موالية للديمقراطية عام 1979، اكتسبت شعبية عبر العقد التالي لكونها ضغطت من أجل الإصلاحات، وبذلك أصبح موت السلطة القديمة مسألة وقت. ومع ذلك، استطاع الكومنتانغ والرئيس الجديد تشيانغ تشنغ-كيو ابتكار استراتيجية تكيِّف الطبقة الحاكمة مع أمواج التغيير، وصفها بيري أندرسون كما يلي:

بعد اعتراف الرئيس الأمريكي كارتر بالصين الشعبية عام 1977، أدرك تشيانغ تشينغ-كيو بأن واشنطن قد تتخلى عنه، فتحرك لإعادة الشرعية إلى حكم الكومنتانغ عبر لبرلة النظام من الأعلى، ومن ثم اختار خليفة محليًا له، مُقدّرًا بأن ذلك سيصعب على الأمريكيين مغادرة الجزيرة. وهكذا، عندما وصلت الديمقراطية إلى تايوان كانت حصيلة خليط من معارضة تدفع ضد الدكتاتورية من الأسفل، وسلطة تبحث عن أوراق اعتماد جديدة من الأعلى.

أصبح المجتمع التايواني اليوم متفاوتًا بشدة، وتضخمت الفوارق الطبقية. نالت الحركات العمالية القليل من القوانين الإصلاحية في مجال العمل خلال السنوات الأخيرة، لكن المناخ ما يزال قاتمًا بالنسبة للعمال.

رُفعت الأحكام العرفية عام 1987، أي في العام ذاته الذي تأسست فيه TSMC. لم تكن الحركة من أجل الديمقراطية -التي غذيت أساسًا من صغار المنتجين، والمهنيين من الطبقة العليا، والطلاب- في موقع يتيح لها الوقوف في وجه استغلال العمالة الرخيصة. حيث كانت حركة الإصلاحات قد استدخلت الأيديولوجيا المعادية للشيوعية بشكل تام. وأصبح انتصار الصناعة محل فخر قومي. بذلك، عززت المؤسسات الديمقراطية التايوانية الجديدة، والتي توجت بانتخابات عام 1996، سياسات برجوازية واضحة مرتبطة بنخبوية اقتصادية.

من الواضح أن الرهان كان مجديًا. فقد قدرت لجنة التجارة العالمية الأمريكية صادرات تايوان من الرقائق بحوالي 184 مليار دولار أمريكي عام 2022، أي ما يعادل ثلث صادرات البضائع في البلاد تقريبًا. كما شكلت صناعات أشباه الموصلات حوالي 15% من الناتج المحلي الإجمالي. وهكذا، أصبحت شركة TSMC، بقيمة سوقية بلغت 800 مليار دولار، أثمن شركات البلاد وأكثرها قيمة بلا منازع، رافعة سوق الأسهم التايوانية إلى مستويات قياسية.

إلا أن غالبية البلد تحملت التكلفة الاجتماعية للحداثة. إذ أصبح المجتمع التايواني اليوم متفاوتًا بشدة، وتضخمت الفوارق الطبقية. نالت الحركات العمالية القليل من القوانين الإصلاحية في مجال العمل خلال السنوات الأخيرة، لكن المناخ ما يزال قاتمًا بالنسبة للعمال. يحل التايوانيون في المرتبة السادسة من حيث طول ساعات العمل في العالم، حتى وإن كانت تايوان تنتج ثروات تفوق الكثير من الاقتصادات المتقدمة. قرابة 6% فقط من العمالة التايوانية تنخرط في النقابات، وذلك أسوأ من معدل 11% الكارثي في الولايات المتحدة الأمريكية. وما زالت الأجور الحقيقية ثابتة إلى حد كبير منذ 2002، رغم الأرباح في الإنتاجية العمالية. تشتهر TSMC على وجه الخصوص «بأجواء عمل متشددة شبه عسكرية». وقد شبّه المعلقون المحليون ظروف العمل بالعبودية على سبيل السخرية. إلا أن تشانغ، مؤسسها الأيقوني، اعتبر المواقف العدائية التايوانية تجاه نقابات العمال عنصرًا أساسيًا في صعود الشركة.

لكن تكاليف المعيشة ترتفع بتسارع في الوقت نفسه، حيث تعج تايببيه وغيرها من المدن بالشقق المترفة التي لا يحتمل تكلفتها سوى القلة، فيما ينحسر عدد الناخبين والمشاركة السياسية. في حين تستمر صناعات أشباه الوصلات بخلق كارثة بيئية حادة ناجمة عن الملوثات والتعرض للكيماويات والاستهلاك الفلكي للمياه والطاقة.

كان يفترض أن تخفف الرقائق من المجاهيل الجيوسياسية، لا أن تخلقها (هذه الأيام، يسمي الكثير من التايوانيين بكل اعتزاز شركة TSMC «الجبل المقدس» للبلاد). بيد أن الواقع هو بعكس ذلك. فالسكان الأصليون يتململون، وتدور «حرب باردة جديدة»، والسياسات الصناعية للولايات المتحدة مؤطرة بوضوح كمسألة أمن قومي. بينما ترد الصين على الحظر الأمريكي على الرقائق المتطورة، من خلال تسريع عملية البحث والتطوير المحلي لأشباه الموصلات، كما أنه باستطاعتها اجتياح تايوان والاستيلاء على شركات الرقائق مباشرة. لقد انتهى عصر ذروة الإمبريالية، كما أن النيوليبرالية تتلاشى. ولكن بينما تجري هذه التطورات، يبدو أن الصراعات الامبراطورية بدأت تلبس ثيابًا جديدة.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية