منذ افتتحت غوغل مكاتبها في كيان الاحتلال عام 2013 ومؤسسها إيريك شميت يهتم دومًا بتفسير «المعجزة» التي جعلت دولة حديثة وصغيرة مثل «إسرائيل» تتصدّر الريادة ومنافسة الدول الصناعية الكبرى في السوق التقني العالمي. في 2017 العام الذي صادف الذكرى العاشرة لتأسيس مكتب غوغل للبحوث والدراسات قال شميت متفاخرًا إن «إسرائيل تنجح لأنها لا تتبع القوانين»، وفي العام التالي قال في أحد المؤتمرات في تل أبيب إن رحلة «إسرائيل» في السوق التكنولوجي تبدأ من «مهارات غير عادية تخضع لتدريب وتطوير في الوحدة 8200 التي تعطي امتيازًا كبيرًا».
قد يكون استحواذ غوغل في آذار الماضي على شركة ويز «Wiz» الإسرائيلية آخر الدلائل على إعجاب غوغل في «الدولة المعجزة» حيث اشترتها بـ32 مليار دولار في صفقة هي الأكبر في تاريخ كل من غوغل والشركات الإسرائيلية. تباهت صحافة الاحتلال والصحافة الغربية بكون مؤسسي شركة ويز، وأبرزهم عساف رابابورت، كانوا جنودًا في الوحدة 8200؛ الوحدة الاستخباراتية في جيش الاحتلال المسؤولة عن جمع وتحليل بيانات التجسس الإلكتروني، وهي الوحدة ذاتها التي طورت برنامج «Lavender» الذي استخدمه الجيش لإنتاج قوائم استهداف مهولة في قطاع غزة عبر تحليل الذكاء الاصطناعي لمدى قرب الأشخاص من المقاومين بناء على اتصالات أهالي القطاع.
منذ شن الاحتلال حرب الإبادة على قطاع غزة تكشّفت مشاريع أخرى بين شركات كبيرة في السيليكون فالي ووزارة الحرب الإسرائيلية، كان أبرزها مشروع «نيمبوس» المبرم عام 2021 بين غوغل والوزارة بعقد يبلغ 1.2 مليار دولار، والذي وفرت غوغل من خلاله لوزارة الحرب خدمات حوسبة سحابية يُرجّح أنها استخدمت كبنية تحتية لإدارة برنامج «Lavender».
وكعادتها، تفعل شركات التقنية الكبرى ما تجيده عند اتهامها بالضلوع في انتهاكات حقوق الإنسان، وهو الإنكار المطلق لمعرفتها بكيفية تسخير وتوظيف الحكومات للخدمات والبنية التحتية التي تزودها بها. لكن البحث في تاريخ استحواذات غوغل واستثمارها في شركات الاحتلال الإسرائيلي يكشف عن علاقة عضوية تبادلية بين الطرفين، علاقة ولدت من رحم السياسة الاستيطانية حتى قبل الإبادة، ونواتها الحاجة الماسة لدى الطرفين لمهارات وحلول تقنية تغذّي سياساتها التوسعية والاحتكارية.
يمكن للعلاقة التبادلية بين شركات السيليكون فالي وشركات الاحتلال أن تتضح عبر بعض التصريحات، منها مثلًا تصريح إيريك شميت عن وجوب الاستثمار بزخم المهارات التقنية القادمة من الوحدة 8200 في السوق الإسرائيلي، أو ما قاله أحد مؤسسي الشركة الإسرائيلية «Thetaray» عن أهمية فتح مكاتب في الولايات المتحدة «كشرط لتحقيق النجاح» تعليقًا على افتتاح مكتب شركته في نيويورك عام 2021.
صحيح أن دور السيليكون فالي في تعبيد طريق الشركات الإسرائيلية للأسواق العالمية والعبور بها خارج السوق الصغيرة في دولة الاحتلال ما يزال بحاجة لدراسة وبحث معمّقين، إلا أن جانبًا من طبيعة هذه العلاقة يمكن أن يتوضّح عبر النظر إلى استثمارات غوغل ورحلة جنود الاحتلال الذين تخرجوا من الوحدة 8200 لينشئوا لاحقًا حلولًا وخدمات إسرائيلية تبنّتها غوغل وجعلت هؤلاء الجنود مديري أقسام لديها.
عقدان من الاستثمار والاستحواذ
في الذكرى الستين للنكبة، عام 2008، وعد الشريك المؤسس لغوغل سيرجي برين بشراء شركات تقنية إسرائيلية وقد صدق وعده، حيث بدأت غوغل عام 2010 بالاستحواذ على شركات إسرائيلية ناشئة عندما اشترت شركة «LapPixies» المطورة للألعاب الرقمية بمبلغ غير معلن يقدّر بـ15 مليون دولار، ثم تواصلت الاستحواذات حتى وصلت إلى تسعةٍ آخرها شركة ويز «Wiz» المطورة لخدمات الأمن السيبراني السحابي.
يمكن القول إن ما يهم غوغل في «إسرائيل» هو الرغبة بتوسيع حصتها في سوق الحوسبة السحابية ومنافسة شركتي مايكروسوفت وأمازون الرائدتين في هذا المجال، لهذا تركزت معظم استحواذات غوغل بين الأعوام 2018 و2025 على شركات إسرائيلية تقدم خدمات تخزين سحابي للبيانات مثل شركة «Velostrata» التي استحوذت عليها عام 2018، أو مركزة التخزين السحابي الذي تقوم به شركة «Alooma»، أو تقديم حلول لتنظيم التخزين السحابي مثلما تفعل شركة «Elastifile»، والتي استحوذت غوغل عليهما عام 2019. فضلًا عن الاستحواذ على شركات إسرائيلية تعمل في مجال الأمن السيبراني، وكان أولها عام 2022 عبر الاستحواذ على شركة «Siemplify» وكان هذا أول استحواذ لغوغل في الأمن السيبراني خارج الولايات المتحدة، تبعه الاستحواذ مؤخرًا على ويز «Wiz» التي تقدم حلولًا أمنية لأتمتة كشف الهجمات السيبرانية على السحابة.
من استحواذات واستثمارات غوغل في «إسرائيل»
أما عن استثمار غوغل في قطاع التقنية الإسرائيلي الناشئ فقد بدأ عام 2007 عبر تأسيس مكتب غوغل للدراسات والبحوث وكان إيريك شميت حينها مدير محرك البحث في غوغل، والذي صرّح عام 2018 قائلًا إن معظم البحوث التي تقودها غوغل عن الذكاء الاصطناعي تتمّ في «إسرائيل». يُذكر أن آخر هذه المشاريع البحثية بدأت خلال العام الحالي حيث عيّنت غوغل عشرات المهندسين الإسرائيليين لتطوير أشباه موصلات (semiconductors) من أجل دعم عمليات الذكاء الاصطناعي بتكلفة أقل من تلك التي توفرها شركة «Nvidia».
عادة ما يبدأ استثمار غوغل في الشركات الإسرائيلية عبر إدراج الأخيرة في حواضن الشركات الناشئة في مجال الحوسبة السحابية. وعلى سبيل المثال، من بين 15 شركة ناشئة فازت في «برنامج تسريع غوغل للشركات الناشئة: الذكاء الاصطناعي أولًا» كان هناك ثلاث شركات إسرائيلية، علمًا أن البرنامج استهدف شركات أوروبية إسرائيلية بمنح تقدر بحوالي ثمانية مليارات دولار.
لكن الدعم الأكبر من غوغل للشركات الإسرائيلية الناشئة يكون من خلال برامج تمويلية توفر مبالغ تتجاوز 50 مليون دولار وذلك عبر صناديق تمويل غوغل[1] أو عبر صندوق التمويل الشخصي الخاص بإيريك شميت،[2] كما تقود غوغل الشركات الإسرائيلية في الجولات التمويلية لجمع مبالغ ضخمة من صناديق تمويلية أخرى في الولايات المتحدة، وفي معظم الأحيان تُضمّ الحلول التي تقدمها الشركات الإسرائيلية إلى حزم الخدمات والمنتجات التي تقدمها سحابة غوغل «Google Cloud».
مثلًا، في العام 2021 قاد الصندوق التمويلي في غوغل جولة تمويلية بقيمة 210 مليون دولار لدعم شركة «Ocra Security» الإسرائيلية، ثم دمجت خدماتها في كشف الاختراقات الأمنية باستخدام الذكاء الاصطناعي ضمن خدمات سحابة غوغل.*
في العام نفسه، وبعدما دخلت في شراكة معها، استثمرت غوغل بقيمة 50 مليون دولار في شركة إسرائيلية تدعى «CybeReason» تقدم خدمات للتحقق من الاختراقات السيبرانية والكشف عنها. كانت «CybeReason» قد تأسست عام 2012 في تل أبيب على يد ليور ديف الذي كان يعمل في وحدة 8200 وحصل على ميدالية شرف لدوره في تطوير برنامج خبيث اسمه «Stuxnet» زرعته «إسرائيل» والولايات المتحدة في مفاعلات إيرانية عام 2005. واستلهامًا من خبرته في جيش الاحتلال طورت شركته وحدة استخبارات لجمع البيانات الاستخباراتية وتحليلها على غرار ما يفعل الجيش. يقول ديف إنه أراد استخدام مهاراته العسكرية «لحل مشاكل العالم، لا المشاكل في بلده فحسب»، فأسّس فرعًا لشركته في كل من لندن وبوسطن وطوكيو، وصارت شركته اليوم تقدم خدمات وحلولًا لشركة الأسلحة الأمريكية لوكهيد مارتن.
جنود الاحتلال يديرون أقسام غوغل
تعتبر الاستثمارات والاستحواذات السابقة إحدى ثمار سياسةٍ وضعتها حكومة نتنياهو عام 2017 بهدف جعل «إسرائيل» دولة رائدة في تسخير الفضاء الإلكتروني كمحرك للنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والأمن الوطني بحسب كتاب «إسرائيل والخطر السيبراني» الذي ألفه مستشارون سابقون في الأمن القومي في وزارة الحرب الإسرائيلية. يوضح المؤلفون أن العمل في وحدتي 8200 وC41 في جيش الاحتلال يعد فرصة عملية لصقل مهارات الجنود في تحليل واختبار البيانات الاستخباراتية عبر الذكاء الاصطناعي، وأن مهاراتهم التقنية لا تتوافر في أسواق أخرى ما يضع جيش الاحتلال في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في تطبيق المهارات السيبرانية عبر عمليات الجيش الواسعة.[3]
ولتقريب الصورة حول قوة مهارات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي التي يتمتع بها خريجو هاتين الوحدتين، يذكر الكتاب أنهما جمعتا يوميًا خلال عام 2021 قرابة 10 تيرابايت من بيانات التجسس التي تتضمن فيديوهات وصور التقطت من الساتالايت، ومليار اتصال هاتفي، ومليوني صورة، ونصف مليون بريد إلكتروني. دفع إعجاب شميت الصريح بالوحدة 8200 الصحافة والرياديين الإسرائيليين بالتباهي بخبراتهم في هذه الوحدة باعتبارها نقطة قوة. مثلًا يتفاخر يائير واينبرغ مؤسس شركة «Alooma» بتخرجه من برنامج النخبة المسمى «Talpiot» التي تقدّمه الوحدة 8200 لطلبة الجامعات المتفوقين، ومثله كل من عاموس ستيرن، وجاري فاتاخوف، وألون كوهين؛ مؤسسو شركة «Siemplify».
ومثلما تنضم خدمات هذه الشركات إلى باقة الخدمات السحابية في غوغل، ينضم الكثير من الجنود السابقين المؤسسين لها للعمل في غوغل كمدراء أقسام بعد الاستحواذ عليها. فمن مدير الوحدة 8200 إلى تأسيس شركة «Siemplify» يعمل عاموس ستيرن حاليًا مدير أمان في سحابة غوغل، أما شريكه فيعمل مديرًا لخدمات سحابة غوغل في مكتب «إسرائيل». ومثلهما انتقل مؤسسو شركة «Velostrata» أساي بن شول وعدي ديغاني ليعملا في غوغل بعد الاستحواذ عليها عام 2018؛ الأول مدير قسم الهندسة والثاني مديرٌ أول للمنتجات. وينسحب الحال على يائير واينبرغ مؤسس شركة «Alooma» الذي عمل لثلاث سنوات في قسم هندسة البرامج في غوغل بعد الاستحواذ على شركته.
أكثر من ذلك، منذ شن الاحتلال عدوانه على قطاع غزة عاد إلى الوحدة 8200 العديد من موظفي غوغل ومايكروسوفت وميتا كجنود احتياط لتطوير أداة ذكاء اصطناعي تحل كميات ضخمة من المحادثات باللغة العربية عبر مراقبة اتصالات الفلسطينيين وتفاعلاتهم على شبكات الهاتف والإنترنت.
ختامًا، ليست غوغل وصناديقها التمويلية وحدها في السيليكون فالي من يستثمر في المهارات التي تنتجها الوحدة 8200، فبين العامين 2019 و2023 حصلت الشركات الإسرائيلية الناشئة على تمويلات بحوالي 32 مليار دولار قاد أكثر من نصفها صناديق تمويلية في الولايات المتحدة. ولم تؤثر حرب الإبادة المستمرة منذ 18 شهرًا على عمليات الدمج والاستحواذ الأمريكية على الشركات الإسرائيلية[4]، ففي عام 2024 ارتفعت قيمة عمليات التخارج في قطاع التكنولوجيا الإسرائيلي إلى 13.4 مليار دولار -مقارنة بـ7.5 مليار دولار في العام السابق- كان 60% منها من شركات أمريكية.
إلى جانب غوغل، تحدثت تقارير عن توطد العلاقة بين مايكروسوفت وجيش الاحتلال بعد حرب الإبادة حيث شارك موظفوها بتدريب عناصر في الجيش على الذكاء الاصطناعي، ما يشير إلى أن العلاقة بين السيليكون فالي والاحتلال هي علاقة بنيوية تجمع بين سياسة الاحتلال الاستيطانية التوسعية والأعمال الاحتكارية المربحة لدى كبريات الشركات التي تجتاح خدماتها حياتنا كمستخدمين وتتغذى على جمع وتخزين وتحليل كميات مهولة من بيانات مستخدميها باستخدام الذكاء الاصطناعي.
ورغم أنه يصعب تنفيذ مقاطعة واسعة لخدمات هذه الشركات نظرًا لضيق البدائل، إلا أن هناك بصيص أمل في بعض المساحات والمبادرات التي تحاول مقاومة هيمنة الشركات التقنية الكبرى والاستقلال عن أدواتها عبر إنتاج أدوات بديلة مفتوحة المصدر وإن كانت ما تزال تحت الفحص والتجريب.
-
الهوامش
* وردت سابقًا في هذا المقال جملة تفيد بأن صندوق غوغل مول شركة BigID الإسرائيلية بمبلغ 30 مليون، ولكن تم حذف الجملة لعدم ثبات استثمار غوغل فيها، إنما ضمّت خدماتها في مطابقة سياسات الشركات وبناها التحتية مع قانون الخصوصية الأوروبي إلى حزمة خدمات سحابة غوغل (google cloud).
[1] CapitalG أو GV.
[2] Investment Endeavor.
[3] بحسب دراسة للمعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية (IISS) التي قارنت بين القدرات السبرانية لجيوش 15 دولة عام 2021.
[4] بحسب تقرير نشرته شركة الاستشارات PwC.