حكم تاريخي ضد «غوغل»: بداية نهاية «الإقطاع التكنولوجي»؟

الأربعاء 04 أيلول 2024
المصدر: أ ف ب.

في خطوة غير مسبوقة في عالم التكنولوجيا، أصدر القاضي الفيدرالي أميت ب. ميهتا حكمًا تاريخيًا ضد عملاق محركات البحث «غوغل» في الخامس من آب الماضي، معلنًا أن الشركة تصرفت بشكل غير قانوني للحفاظ على احتكارها في مجال البحث عبر الإنترنت. هذا الحكم، الذي يعد الأول من نوعه ضد شركة تكنولوجيا كبرى في العصر الحديث للإنترنت، يفتح الباب أمام تساؤلات عديدة حول مستقبل الشركة وتأثير ذلك على صناعة التكنولوجيا والإنترنت على حدٍ سواء.

جاء الحكم نتيجة دعوى قضائية رفعتها وزارة العدل الأميركية وعدد من الولايات ضد «غوغل» عام 2020. اتهمت الدعوى الشركة بإساءة استخدام هيمنتها في سوق البحث عبر الإنترنت من خلال دفع مليارات الدولارات سنويًا لشركات أخرى مثل «آبل» و«سامسونغ» لجعل محرك بحث «غوغل» الخيار الافتراضي على هواتفها الذكية ومتصفحات الويب.

في حكمه الذي امتد على 277 صفحة، قال القاضي ميهتا إن «غوغل هي شركة احتكارية، وقد تصرفت على هذا النحو للحفاظ على احتكارها». وأضاف أن اتفاقيات «غوغل» مع الشركات الأخرى «منحت غوغل وصولًا إلى نطاق لا يمكن لمنافسيها مجاراته».

تعود جذور هذه القضية إلى ممارسات «غوغل» طويلة الأمد في دفع مبالغ ضخمة لشركات التكنولوجيا الأخرى. على سبيل المثال، دفعت «غوغل» لشركة «آبل» حوالي 18 مليار دولار في عام 2021 لتكون محرك البحث الافتراضي على متصفح «سفاري». هذه الممارسات، وفقا للحكم، عززت هيمنة «غوغل» على سوق البحث، إذ تستحوذ الشركة على ما يقرب من 90% من عمليات البحث على الويب، وفقًا لتقديرات وزارة العدل الأميركية. 

من جانبها، أعلنت «غوغل» عن نيتها استئناف الحكم. وقال رئيس الشؤون العالمية في «غوغل»، كينت ووكر إن «هذا القرار يعترف بأن غوغل تقدم أفضل محرك بحث، لكنه يخلص إلى أنه لا ينبغي السماح بجعله متاحًا بسهولة».

يثير هذا الحكم تساؤلات حول السيناريوهات المستقبلية المحتملة لعملاق محركات البحث عبر الإنترنت. فبينما يتوقع بعض المحللين أن تواجه الشركة تفكيكًا لبعض خدماتها، يرى آخرون أن السيناريو الأكثر واقعية قد يتمثل في فرض قيود على قدرة الشركة على إبرام صفقات مماثلة في المستقبل.

يحتاج عالم الديجيتال إلى إعادة التفكير جذريًا في كيفية تنظيم الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، نحو نموذج يعتبر الإنترنت موردًا عامًا، يدار ديمقراطيًا لصالح المجتمع ككل، بدلًا من كونه ساحة للربح الخاص.

يمكن مقارنة هذا الحكم بالقضية الشهيرة ضد «مايكروسوفت» في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الثانية. في تلك الحالة، فُرضت بعض القيود على ممارسات «مايكروسوفت»، لكن الشركة لم تتعرض لتفكيك كبير. ويشير هذا إلى أن «غوغل» قد تواجه تحديات قانونية وتنظيمية، لكنها قد تتمكن من الحفاظ على هيكلها الأساسي.

ويأتي هذا الحكم في وقت تواجه فيه شركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى تحديات قانونية مماثلة. فوزارة العدل رفعت دعوى قضائية ضد «آبل»، متهمة إياها بجعل التخلي عن «آيفون» أمرًا صعبًا للمستهلكين. كما أن لجنة التجارة الفيدرالية رفعت دعاوى ضد «ميتا» (فيسبوك سابقًا) و«أمازون» بتهم مماثلة تتعلق بالممارسات الاحتكارية.

يُحيي الحكم النقاش حول دور وقوة شركات التكنولوجيا الكبرى في عصرنا الحالي. فبينما يرى البعض أن هذه الشركات قدمت ابتكارات هائلة وخدمات قيمة للمستهلكين، يجادل آخرون بأن قوتها وتأثيرها قد تجاوزا الحدود المقبولة.

تتوافق قضية مكافحة الاحتكار ضد «غوغل» بشكل وثيق مع ما كان يناقشه الاقتصادي والسياسي اليوناني، يانيس فاروفاكيس، في كتابه «الإقطاع التكنولوجي الذي قتل الرأسمالية» الصادر عام 2023، وهو مفهوم يستخدمه لوصف الشكل الجديد للتنظيم الاقتصادي والاجتماعي الذي تهيمن عليه شركات التكنولوجيا الكبرى. يشير فاروفاكيس إلى أن هذه الشركات التكنولوجية العملاقة، مثل «غوغل» و«أمازون» و«ميتا»، قد تجاوزت الديناميكيات الرأسمالية التقليدية، وخلقت نظامًا لم تعد فيه هذه الشركات تتنافس في السوق فحسب، بل تعمل بدلًا من ذلك بمثابة «حراس بوابة الإنترنت»، وتتحكم في جموع واسعة من المستخدمين والبيانات والخدمات.

يسمح لهم هذا التركيز في السلطة بالعمل بطرق تشبه الإقطاعيين أكثر من كونها منافسة في السوق، إذ يستخرجون القيمة من المستخدمين والشركات الأخرى التي تعتمد على منصاتهم، بدلًا من مجرد تداول السلع أو الخدمات. وتُعد قضية مكافحة الاحتكار ضد «غوغل»، التي تتحدى ممارساتها الاحتكارية في سوق محركات البحث، اعترافًا قانونيًا بهذا التحول. وهي تؤكد على القلق المتزايد من أن هذه الشركات ليست مجرد لاعبين مهيمنين فحسب، بل أصبحت بنى تحتية أساسية تتحكم في الوصول إلى الأسواق والمعلومات بطرق يمكن أن تخنق المنافسة والابتكار وحتى الديمقراطية.

وتُعَدُّ المطالبات بتفكيك احتكار شركات التكنولوجيا الكبرى جزءًا من حركات أوسع تهدف إلى معالجة سيطرة هذه الشركات على الأسواق. في 2019، نشرت لجنة التجارة الفيدرالية (FTC) تقريرًا يُشير إلى ممارسات احتكارية من قبل شركات مثل «غوغل» و«فيسبوك»، مع توصيات لتحسين قوانين المنافسة. وفي 2020، رفعت وزارة العدل الأميركية دعوى قضائية ضد «غوغل» بتهمة انتهاك قوانين مكافحة الاحتكار، تلتها دعوى من مجموعة من الولايات الأميركية ضد «فيسبوك» بتهمة ممارسات احتكارية. كما قدم الكونغرس في 2021 مشاريع قوانين مثل «قانون تعزيز المنافسة في السوق الرقمية»، التي تسعى إلى وضع قيود على الشركات الكبرى. بالتوازي مع ذلك، قادت الحملات الإعلامية التي نُشرت في صحف كبرى مثل «نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» إلى تسليط الضوء على هذه القضايا. أكاديميًا، أصدرت جامعة «هارفارد» في 2019 دراسة حول تأثيرات احتكار شركات التكنولوجيا الكبرى، وناقشت جامعة «شيكاغو» في 2020 تأثير الهيمنة الرقمية على الابتكار. هذه التحركات تعكس الوعي المتزايد حول المخاطر المرتبطة باحتكار السوق الرقمي ودعوات لضمان بيئة أكثر عدالة وتنافسية.

تأتي قضية مكافحة الاحتكار ضد «غوغل» في وقت عصيب للشركة العملاقة، مضاعفةً الصعوبات التي تواجهها بالفعل، خاصة بعد تراجعها في سباق دمج الذكاء الاصطناعي في محركات البحث. فبينما هيمنت «غوغل» لفترة طويلة على سوق محركات البحث، أدت التطورات الأخيرة في تقنيات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي، لا سيما تلك التي طورتها OpenAI وBing التابعة لشركة «مايكروسوفت»، إلى وضع الشركة في موقف دفاعي.

هذه المحركات الجديدة تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم ردود أكثر دقة وتفاعلية، مما يفضله المستخدمون بشكل متزايد. ومع سعي «غوغل» للحاق بالركب والحفاظ على ريادتها في السوق، يضيف الحكم المناهض للاحتكار طبقة أخرى من التعقيد على عملياتها. وقد يقيد الحكم قدرة الشركة على إبرام صفقات حصرية أو الترويج لخدماتها على حساب المنافسين، مما يزيد من تآكل ميزتها التنافسية في مفترق طرق حاسم.

حتى لو أدى الحكم إلى تفكيك بعض ممارسات «غوغل»، فإن النظام الأساسي الذي يسمح بتركيز هذه القوة سيظل قائمًا، ولن يحل الحكم مشكلة استغلال البيانات الشخصية أو سيطرة الشركات على المعلومات.

تكشف قضية مكافحة الاحتكار ضد «غوغل» عن عيوب جوهرية في النظام الرأسمالي الحالي وتركيز القوة في أيدي الشركات العملاقة. وصحيح أن الحكم قد يبدو خطوة إيجابية نحو تقييد سلطة «غوغل»، إلا إنه لا يعالج المشكلة الأساسية المتمثلة في هيمنة الشركات على الفضاء الرقمي.

هيمنة «غوغل» على البحث والإعلانات عبر الإنترنت ليست مجرد مسألة منافسة غير عادلة، بل هي تجسيد لكيفية استغلال الرأسمالية للبنية التحتية الرقمية لتحقيق الأرباح على حساب المصلحة العامة. فالشركة تجمع كميات هائلة من البيانات الشخصية، مستغلة عمل المستخدمين غير المدفوع لبناء ثروتها وقوتها.

حتى لو أدى الحكم إلى تفكيك بعض ممارسات «غوغل»، فإن النظام الأساسي الذي يسمح بتركيز هذه القوة سيظل قائمًا. فتح المجال لمنافسين جدد قد يؤدي إلى تنوع أكبر في الخدمات، لكنه لن يحل مشكلة استغلال البيانات الشخصية أو سيطرة الشركات على المعلومات.

بدلًا من ذلك، يحتاج عالم الديجيتال إلى إعادة التفكير جذريًا في كيفية تنظيم الإنترنت والتكنولوجيا الرقمية، نحو نموذج يعتبر الإنترنت موردًا عامًا، يدار ديمقراطيًا لصالح المجتمع ككل، بدلًا من كونه ساحة للربح الخاص. يتقاطع ذلك مع مفهوم الـ«ويب 3.0»، الذي يشمل لا مركزية البنية التحتية الرقمية الأساسية، وإنشاء منصات عامة للبحث وتبادل المعلومات، وتطوير نماذج تعاونية لإدارة البيانات والمحتوى. كما يجب ضمان حقوق العمال الرقميين، بما في ذلك أولئك الذين يعملون في وظائف غير تقليدية مثل إنشاء المحتوى ومراجعة البيانات.

يمثل هذا الحكم لحظة فارقة في تاريخ التكنولوجيا والقانون. ورغم أن تنفيذ أي إجراءات ملموسة قد يستغرق سنوات، نظرًا لحق «غوغل» في الاستئناف، فإن هذا القرار يرسل إشارة قوية مفادها أن حتى أكبر وأقوى شركات التكنولوجيا ليست محمية بالكامل. ويثير الحكم أيضًا أسئلة أعمق حول طبيعة الاحتكار في العصر الرقمي. فعلى عكس الاحتكارات التقليدية، تعتمد هيمنة «غوغل» على ما يسمى بـ«تأثيرات الشبكة»، عندما تزداد قيمة الخدمة كلما زاد عدد مستخدميها. يجعل هذا من الصعب تطبيق نماذج مكافحة الاحتكار التقليدية على شركات التكنولوجيا الحديثة.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية