هل تصل البتكوين إلى 100 ألف دولار؟

الإثنين 25 تشرين الثاني 2024
أ ف ب.

حققت العملة المشفرة الأشهر على الإطلاق، بتكوين، إنجازًا غير مسبوق بتجاوز قيمتها حاجز 98 ألف دولار في شهر تشرين الثاني الحالي، وسط توقعات باقترابها من 100 ألف دولار قريبًا. صعود مذهل جاء نتيجة تداخل مجموعة من العوامل المؤثرة، بعد فترة صعبة عُرفت بـ«شتاء العملات الرقمية»، مما يثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل البتكوين: فهل هذا الصعود مؤقت ومرتبط بالظروف الحالية، أم أن العالم بدأ يدرك الإمكانات التحويلية لهذه العملة وما يمكن أن تقدمه في مسار إعادة تشكيل النظام المالي العالمي؟

لا يمكن الحديث عن عملة بتكوين دون التطرق إلى طابعها الرومانسي والأسطوري. عملة مشفرة وُلدت من رحم المجهول. كل ما نعرفه عن بداياتها يرتبط باسم ساتوشي ناكاموتو، وهو اسم غامض يُعتقد أنه يعود إلى شخص أو مجموعة من الأشخاص الذين أطلقوا شبكة البلوكتشاين عام 2008، وتبعها إطلاق أول عملة بتكوين عام 2009. جاءت هذه الثورة الرقمية في خضم أزمة مالية خانقة ضربت العالم عام 2008، كوسيلة تهدف لتحرير الأفراد من قبضة النظام المصرفي التقليدي.

هذا الطابع التحرري الذي وُلدت منه بتكوين، والمهمة التي أخذتها على عاتقها، انعكسا في الشعارات التي تبناها مجتمعها. من أبرز هذه الشعارات العبارة الشهيرة «بتكوين إلى القمر» (Bitcoin to the Moon)، التي صارت تعبيرًا ليس فقط عن الطموح بتحقيق ارتفاعات قياسية في القيمة، بل عن رؤية أشمل لمستقبل مالي مختلف. بالنسبة لهؤلاء المؤمنين بالعملة، بتكوين ليست مجرد أداة استثمارية، بل رمزًا لتحرر الأفراد من سيطرة البنوك المركزية وتقلبات العملات التقليدية. لكن مثل أي حلم كبير، لم تكن رحلة البتكوين خالية من العوائق. فقد مرت هذه العملة بتقلبات كبيرة، كان لها تأثير عميق على مسارها ومستقبلها.

رحلة الهبوط المدوّي

في عام 2022 واجه سوق العملات المشفرة أزمة قاسية، تبخرت فيها تريليونات الدولارات من قيمتها السوقية، وذهبت معها طموحات وآمال العديد من المستثمرين. ووسط هذه الانتكاسة، أطلق عشاق العملات الرقمية اسم «شتاء الكريبتو» على هذه الفترة العصيبة، تعبيرًا عن خيبة أملهم وحجم التحديات التي واجهها القطاع. وشهدت حركة أسعار بتكوين تأثيرات كبيرة نتيجة لمزيج من الأحداث. وقد شكلت هذه العوامل مسار بتكوين بشكل واضح على مدار هذه الفترة.

خلال ذلك «الشتاء» انخفضت قيمة بيتكوين بشكل حاد لتصل نهاية عام 2022 إلى 16500 دولار، بعد أن كانت قد وصلت قرابة 69 ألف دولار في عام 2021. كان هذا الانخفاض مدفوعًا برفع البنك الفدرالي الأميركي معدلات الفائدة على الدولار من أجل تقليص حجم الكتلة النقدية (يضع الناس أموالهم في المصارف مع رفع الفائدة) والتي تصاعدت بسبب أزمة كورونا وما لحقها من طباعة تريليونات الدولارات، بالإضافة إلى زيادة التدقيق التنظيمي ضد العملات المشفرة، والانهيارات الكبرى في سوق العملات الرقمية مثل انهيار العملة المشفرة المستقرة TerraUSD (سعرها ثابت عند دولار واحد) ومنصة Celsius. وجاءت الضربة الأكبر في تشرين الثاني من ذلك العام عندما أدى انهيار منصة FTX إلى حالة من الذعر في السوق، مما دفع بتكوين للهبوط إلى أدنى مستوى لها عند 15477 دولارًا.

التعافي

مع حلول عام 2023، بدأت قيمة البتكوين في الارتفاع تدريجيًا مع تراجع الضغوط البيعيّة وتحسن أوضاع السوق، لتصل إلى 23 ألف دولار مع بداية العام. كما ساهمت التكهنات المتعلقة بالموافقة على صناديق الاستثمار المتداولة (ETFs) الخاصة بالبتكوين في تعزيز الأسعار، ما أدى إلى ارتفاع ملحوظ وصل إلى 35 ألف دولار في تشرين الأول. ورغم القضايا التنظيمية الموجهة ضد بورصات رئيسة مثل «باينانس» و«كوين بايز»، أظهرت بتكوين مرونة كبيرة، مما عزز ثقة المستثمرين. وفي كانون الثاني 2024 تغيرت الأمور جذريًّا، إذ حصلت صناديق الاستثمار المتداولة الخاصة بالبتكوين على موافقة هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية (SEC). وكانت هذه الموافقة بمثابة ضوء أخضر للمؤسسات المالية الكبرى للدخول في سوق البتكوين، ما جذب تدفقات ضخمة من الاستثمارات، ورفع السعر إلى ما فوق 48 ألف دولار. كما أدى ذلك إلى وضع العملة المشفرة في منافسة أكثر قوة مع الأصول التقليدية مثل الذهب والسلع الأخرى.

في نيسان الماضي، شهدت بتكوين حدث «التنصيف» (Halving)، وهو حدث دوري يحصل تقريبًا كل أربع سنوات، يجري فيه تقليص المكافأة التي يحصل عليها المعدِّنون عند إضافة كتلة جديدة إلى سلسلة الكتل (البلوكتشاين) بنسبة 50%. والمعدِّنون هم أفراد يمتلكون أجهزة حاسوبية قوية متصلة بشبكة بتكوين، ويساهمون في إضافة كتل جديدة إلى البلوكتشاين. كلما كانت أجهزة الحاسوب أسرع في إضافة كتلة جديدة، تكافئهم الشبكة بعملات بتكوين. ومع التنصيف، انخفض عدد العملات التي يحصل عليها المعدِّنون إلى النصف، مما زاد من ندرة العملة، وهو ما ساهم في رفع سعرها. ونتيجة لهذا، وصلت بتكوين إلى أعلى مستوى تاريخي لها متجاوزة حاجز 73 ألف دولار.

بتكوين في عالم السياسة

مع تصاعد الضغوط التنظيمية على العملات المشفرة خصوصًا في عام 2022، أدرك مجتمع الكريبتو في الولايات المتحدة أن الطريقة الوحيدة لحماية بتكوين وضمان مستقبلها تكمن في الانخراط المباشر في الساحة السياسية. ونتيجة لذلك، بدأوا في تحويل القطاع إلى قوة سياسية مؤثرة من خلال التبرع بسخاء لحملات المرشحين الداعمين للعملات المشفرة، بمعزل عن انتمائهم الحزبي. أحد أبرز القادة في هذه الحملة كان الرئيس التنفيذي لشركة «كوين بايز»، براين أرمسترونغ، الذي تبرع بمليون دولار من أمواله الشخصية، بالإضافة إلى تبرعات ضخمة من شركته. كان أرمسترونغ يرى أن الدعم لمرشحين مؤيدين للعملات المشفرة قد يسهم في حصول «تحديث» للنظام المالي الأميركي ليصبح أكثر انفتاحًا ومرونة، بما يخدم مصالح المواطنين العاديين ويعزز من الشفافية والعدالة المالية.

وبالفعل، استثمرت صناعة العملات المشفرة عشرات الملايين في الانتخابات الأميركية الأخيرة، وهي تسعى الآن لتحقيق عوائد على هذا الاستثمار. أنفقت لجان العمل السياسي التابعة لمجتمع الكريبتو 131 مليون دولار لدعم مرشحين مؤيدين للعملات المشفرة في انتخابات الكونغرس، بينما أنفق مليارديرات لديهم مصالح في هذا المجال ملايين أخرى لدعم عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. علمًا أن الرئيس المنتخب ترامب كان من أبرز معارضي بتكوين، فوصفها عام 2021 على أنها عملية احتيالية يراد منها ضرب الدولار الأميركي.

اليوم، يهدف قطاع الكريبتو إلى التأثير في كيفية تعامل واشنطن مع هذه الصناعة، ويشمل ذلك ضمان تعيين رئيس جديد للجنة الأوراق المالية والبورصات (SEC) يكون داعمًا للعملات المشفرة، خلفًا لغاري غينسلر، والذي يوصف بأنه جزار العملات المشفرة، والذي أثار غضب رؤساء الشركات في هذا القطاع بسبب سياسته الصارمة.

تسعى الصناعة أيضًا إلى تمرير إطار تنظيمي ينظم العملات المشفرة ويعزز دمجها في النظام المالي الأميركي. وتشير التقارير إلى أن 274 عضوًا في مجلس النواب و20 في مجلس الشيوخ من المؤيدين للعملات المشفرة قد جرى انتخابهم هذا العام، مما يعكس التأثير السياسي الذي صار يتمتع به مجتمع الكريبتو في هذه الدورة الانتخابية. وقد أصبح القطاع جبهة مهمة في السياسة الأميركية مع تزايد الدعم من قبل بعض الديمقراطيين والجمهوريين.

حاجز الـ100 ألف دولار

التأثير النفسي لدخول مجتمع الكريبتو عالم التبرعات الانتخابية كان عميقًا ومتشعبًا، وانعكس بشكل واضح على ثقة المستثمرين وموقفهم تجاه مستقبل العملات المشفرة. هذا الإحساس بالأمان عزز التفاؤل العام داخل السوق، واعتُبِر خطوة تُمثّل بداية لتخفيف القيود مما زاد من الطلب على بتكوين الذي بدوره دفع سعرها إلى الأعلى. كما تمثلت الاستجابة النفسية في تغيير إدراك المستثمرين لتوقعاتهم المستقبلية. فبدلًا من الخوف من تدخل الحكومات أو التشريعات المشددة، صار هناك شعور متزايد بأن مجتمع الكريبتو لديه الأدوات السياسية والمادية لحماية مصالحه. هذا التحول في العقلية زاد من ثقة الأفراد والمؤسسات في ضخ استثمارات أكبر في العملات الرقمية، مما أدى بدوره إلى زيادة الطلب على العملات المشفرة الرئيسية مثل بتكوين​ التي يلامس سعرها عند كتابة هذه السطور الـ100 ألف دولار. حتى الآن، لم تصل بتكوين إلى هذا الحاجز، ولكن إذا حدث ذلك في الساعات أو الأيام القادمة، فإن هناك قلقًا من إمكانية حدوث انهيار في قيمتها إذا استمر الضغط البيعي الكبير. فالكثير من المستثمرين يضعون أوامر بيع مؤتمتة عند أسعار معينة، وبالتالي من المتوقع أن تحدث موجة بيع كبيرة بمجرد وصول السعر إلى 100 ألف دولار. ويُعتبر هذا المستوى النفسي مهمًا في الأسواق المالية، إذ إن ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة يمكن أن يؤدي إلى تحفيز موجة من البيع لجني الأرباح. عندما يصل السعر إلى هذا الحد، يتجه العديد من المستثمرين الذين اشتروا العملات المشفرة بأسعار أقل إلى بيع جزء من حصصهم، مما قد يؤدي إلى تصحيح كبير في الأسعار.

بتكوين عملة احتياط عالمي؟

في كتابه الشهير «النظام العالمي المتغير» يتناول المستثمر العالمي راي داليو فكرة كيف أن النظام العالمي يتغير بشكل دوري، ويشمل هذا التغير صعود القوى العظمى وسقوطها، والتي كثيرًا ما كانت ترتبط بمدى تبني عملات تلك الدول كعملة احتياطية عالمية. يركز داليو على تاريخ طويل من تغير القوى العظمى، مشيرًا إلى أن هذه القوى كانت تعتمد دائمًا على عملة معينة في صعودها وتوسعها على الصعيد العالمي. على سبيل المثال، هيمن الجنيه الاسترليني على الاقتصاد العالمي في القرن التاسع عشر، ثم جاء الدور على الدولار الأمريكي بعد الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاق بريتون وودز.

يوضح الكتاب كيف أن الدول العظمى عادةً ما تسيطر على الاقتصاد العالمي من خلال فرض عملتها لتصبح عملة احتياطية عالمية. هذا الدور الذي يلعبه الدولار الأمريكي اليوم هو مثال بارز على هذه الفكرة، إذ أصبح عملة التداول العالمية بفضل دوره المركزي في النظام المالي الدولي. ومع ذلك، فإن داليو يشير إلى أن هذا النظام ليس ثابتًا، بل يتغير مع مرور الزمن نتيجة لعدة عوامل، مثل التغيرات في القوة الاقتصادية، والتوترات السياسية، وأزمات الديون، والظروف العالمية المتغيرة.

بالتالي، إن فكرة أن تكون بتكوين عملة احتياطية عالمية ليست نابعة من أحلام طفولية، وقد تطرق إليها داليو بالفعل في كتابه. وإحدى العوامل التي قد تدفع إلى تبني بتكوين عالميًا هي طبيعتها اللامركزية، التي تجعلها أقل عرضة للتلاعب من قبل الحكومات أو البنوك المركزية، وهو ما يزيد من جاذبيتها في ظل الاضطرابات السياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم.

والجدير بالذكر أن بتكوين لا تتأثر بالتضخم بالطريقة نفسها التي تتأثر بها العملات التقليدية، فهي محدودة بعدد أقصى قدره 21 مليون عملة، مما يجعلها مقاومة للانكماش المالي الناتج عن طباعة الأموال أو الزيادة في الديون. علاوة على ذلك، تتزايد عدد الدول والشركات التي بدأت في تبني بتكوين بمثابة أداة استثمارية أو حتى عملة رسمية، مثل السلفادور التي قطعت خطوات كبيرة في هذا الاتجاه، واعترفت بها كعملة قانونية وأدرجتها ضمن احتياطياتها الوطنية. بينما تدرس دول أخرى مثل الولايات المتحدة وروسيا إمكانية دمجها في سياساتها الاقتصادية.

انطلاقا من النظريات المطروحة، يبرز سؤال كبير: هل الولايات المتحدة مستعدة للتخلي عن دور الدولار كعملة الاحتياط الرئيسية في العالم؟

الولايات المتحدة، مثل بقية الدول الكبرى، تستفيد بشكل كبير من هيمنة الدولار على النظام المالي الدولي، بما في ذلك التأثير الاقتصادي والسياسي الكبير الناجم عن التحكم في عملة الاحتياط الرئيسية. ومع ذلك، هناك مؤشرات تدفع إلى طرح هذا السؤال بإلحاح أكبر، خاصة في ضوء الموافقة على صناديق استثمار بتكوين،[1] والتحديات التي تواجه الاقتصاد الأميركي، مثل مستويات الديون المرتفعة، وزيادة انعدام الاستقرار السياسي، وأزمات التضخم التي تهدد قيمة الدولار.

في هذا السياق، يدعو بعض المحللين إلى إعادة تقييم دور الدولار من خلال التحول نحو استخدام عملات بديلة، مثل بتكوين، كوسيلة لتقليل الاعتماد على الدولار وتعزيز الاستقرار المالي العالمي. من جهة أخرى، يعتبر العديد من صانعي القرار في الولايات المتحدة أن الحفاظ على الدولار عملة احتياطية رئيسية أمرًا استراتيجيًا يتطلب الحفاظ على الثقة العالمية واستقرار النظام المالي الأميركي. إضافة إلى ذلك، هناك إدراك متزايد أن الولايات المتحدة قد تواجه تحديات كبيرة إذا بدأت الدول الأخرى في الابتعاد عن الدولار. إذ يمكن أن يؤدي ذلك إلى انخفاض الطلب عليه، مما يضعف من قوته الاقتصادية وقدرة الولايات المتحدة على تمويل ديونها من خلال الطباعة اللانهائية للنقود. كما أن التخلي عن الدولار قد يؤدي إلى تحول في ميزان القوى الاقتصادية العالمي، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها في موقف أقل قوة مما هي عليه الآن.

لذلك، ورغم التحديات الحالية وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، والوعود التي يطلقها ترامب عن تحويل أميركا إلى عاصمة الكريبتو العالمية، من غير المرجح أن تتخلى الولايات المتحدة عن دور الدولار. وستكون هناك حاجة إلى تغييرات جوهرية في النظام الاقتصادي والسياسي العالمي من أجل حدوث هذا التحول، مع الأخذ في الاعتبار التأثيرات الهائلة على النظام المالي العالمي وأمن الاقتصاد الأميركي.

  • الهوامش

    [1] يعتبر مقال منشور على موقع المصرف المركزي الأوروبي ذلك محاولة يائسة من الإمبراطورية للحفاظ على هيمنتها وسط التحولات الجارية في النظام المالي العالمي.

Comments are closed.