نهاية العالم وأحلام الهروب: بماذا يُفكّر مليارديرات التكنولوجيا الفائقة؟

الثلاثاء 06 كانون الأول 2022
وادي السيليكون
المصدر: مدونة دوجلاس راشكوف.

في منتجع قصيّ فخم يلتقي بضعةٌ من الأثرياء في مجال الاستثمار التكنولوجيّ وصناديق التحوّط (Hedge funds) مع دوجلاس راشكوف، الكاتب وأستاذ نظريّات الإعلام والاقتصاد الرقميّ، لا للحديث حول مستقبل العالم والأخطار الجسيمة التي تُحيق به، ولا لمناقشة سُبل الحدّ من آثار الرأسماليّة وعوالم التقنية الفائقة وتغيّر المناخ على محدودي الموارد والامتيازات، بل لتصوّر كيف يمكن لزمرة من الأثرياء النجاة من مآلات كارثة كبيرة قادمة لا محالة، صنعتها وستؤدّي لها حتمًا استثماراتهم ومشاريعهم الكبيرة وشركاتهم العملاقة، وبصورة أهمّ، رؤيتهم للعالم.

هكذا يروي راشكوف في مُفتتح كتابه «البقاء للأكثر ثراءً: أوهام الهروب لدى مليارديرات التكنولوجيا»[1] حيثيّات دعوته لإلقاء حديث في قلب الصحراء الأمريكيّة، ظنّه سيكون مُنصبًّا حول مستقبل التكنولوجيا، وظنّ أنّ جمهوره سيتألّف من نحو مئة ونيّف من كبار المستثمرين، فانتهى به الحال إلى لقاء حول المستقبل الشخصيّ لخمسة فقط من نخبة الـ«هاي تك».

استراتجيّات الهروب

ارتكز الحديث بين راشكوف ومضيّفيه من الأثرياء حول خطط واستراتجيّات الهروب من «الحدث»، ذلك «الأبوكليبس» المُرتقَب، أو المصير الكارثيّ القادم لا محالة، سواءً تمثّل ككارثة بيئيّة، أو انفجار نوويّ، أو اختراق إلكترونيّ هائل كفيل بتدمير البنية التحتيّة الرقميّة بأكملها، أو جائحة لا تُبقي ولا تذر. انشغل الملياديرات بالتساؤل حول الخيارات المتاحة، والأخطار المُحتملة، ولوجستيّات التخطيط للمخابئ الّتي سيعدّونها لليوم الموعود: أيّهما أقلّ تأثّرًا بأزمة المناخ القادمة، نيوزيلاندا أم ألاسكا؟ هل التغيّر المناخي أكثر خطرًا، أم الحرب البيولوجيّة؟ كم سيمكنهم البقاء في مخابئهم دون الحاجة للاعتماد على دعم خارجيّ؟ هل يمكن أن تتعرّض نُظم المياه الجوفيّة في المخابئ المُزمع إنشاؤها للتلوّث؟

وبينما اقترب أحدهم فعليًّا من الانتهاء من إعداد ملجئه الخاصّ تحت الأرض، فقد كان ما يشغله هو كيفيّة السيطرة على طواقم التأمين بعد «الحدث» المُرتقب لردعهم من الانقلاب عليه بعد نفاد ثروته. وفيما اقترح المليارديرات حلولًا مثل التحكّم في المؤن الغذائيّة عن طريق تأمينها بأقفال سرّيّة أو ما شابه، أو التحكّم في الحرّاس عن طريق إلزامهم بارتداء أطواقٍ ضابطة، أو حتّى الاعتماد على الروبوتات في أعمال الخدمة والحراسة إن أمكن، اقترح راشكوف، ببساطة، أنّ ضمان ولاء طواقم الحراسة في المستقبل يكمن في معاملتهم معاملة جيّدة في الوقت الحاضر. بالنسبة لراشكوف، ما يحتاجه هؤلاء الأثرياء هو «الاستثمار» في علاقاتهم مع الآخرين، والتفكير في أنّ النجاة الفرديّة ليست حلًّا، بل إنّ الشراكة المجتمعيّة والتعاون والتضامن هي الحلول الأمثل للأخطار والأزمات الجماعيّة القادمة.

ذهنيّة وادي السيليكون

هذا النزوع للهروب من الواقع ومشكلاته، وترك الجميع خلفهم هو ما يسمّيه راشكوف «الذهنيّة» (The Mindset)، هكذا بألف ولام التعريف، إذ إنّها سرديّة راسخة، ومهيمنة على وادي السيليكون، كما أنّها تُؤسّس، بطبيعة الحال، للسياسات والممارسات السائدة في العوالم التقنية، ولها تداعياتها على الاقتصاد والاجتماع والسياسة. بالنسبة لمثل هؤلاء الأثرياء الذين التقاهم راشكوف، فإنّ «الانتصار» في نهاية المطاف يعني أن تُوفّر لهم ثرواتهم سبل النجاة من عواقب جنيهم لهذه الثروات، وأنّه يمكنهم، بما لهم من نفوذ وأموال وبمساعدة التكنولوجيا، عزل أنفسهم عن الجميع، وتجاوز تداعيات وآثار مشاريعهم على البيئة وعلى الآخرين، وتحقيق السيادة الذاتيّة التامّة كملوك مُتوَّجين. لذلك يسعى أولئك المليارديرات إلى الهروب وتأمين الملاجئ المُحصّنة تحت الأرض، أو في المدن العائمة (Seasteads) على أسطح المحيطات، أو حتّى في الفضاء الخارجيّ، دون النظر إلى عواقب سياساتهم وخططهم، أو التفكير في المشاركة في تخفيف ومعالجة آثارها على من يريدون تركهم خلفهم.

تُعزّز الممارسات الرأسماليّة الّتي تسود بقوّة في وادي السيليكون من هذه النزعات الأنانيّة والانعزاليّة، حيث تزدهر الأعمال وتنمو دون الحاجة إلى الاعتماد على أعداد كبيرة من الموظّفين، وكلّما ازدادت الاستثمارات والأرباح، تتنامى قدرة شركات التكنولوجيا ومليارديراتها على التأثير في السياسات الماليّة والاجتماعيّة على أرض الواقع، وضمان إدامة استثماراتها وسيطرتها على الأسواق وتراكم رأس المال. تعتمد شركتا «أوبر» و«دورداش»، على سبيل المثال، على عمالة وسائقين كمتعاقدين مستقلّين بأجور ضئيلة، بدلًا من الاعتماد على منظومة التوظيف الرسميّة بما تمنحه للعاملين من حقوق وامتيازات. وتعتمد شركة «إير بي إن بي» على استراتيجيّات عمل معيّنة تُمكنّها من تفادي ضغوط واشتراطات الحكومات والمجالس المحليّة لتنظيم العمل وضبط قواعده.

وقد ظهر حجم التفاوت الاقتصاديّ والاجتماعيّ بين الأثرياء ومن سواهم جليًّا في أزمة كوفيد، إذ تنعّم أصحاب الشركات الكبرى بالأرباح والوفرة والراحة، في حين كان عمّال «أمازون» وغيرها من الشركات يخاطرون يوميًّا بالتعرّض للعدوى، ويجازفون بحيواتهم في أوقات صعبة. وبينما كان للأثرياء خيارات العمل من المنازل الصيفيّة، البعيدة والفخمة، تكبّد الفقراء عناء الأزمة وتداعياتها في ظلّ إمكانيّات ماديّة محدودة. وفي السنة الأولى فقط من الجائحة، تأزّمت أوضاع الجميع بشكل أو بآخر، بينما زادت ثروة المليارديرات الإجماليّة من 8.9 إلى 10.2 تريليون دولار.

تأثير مصعد الطعام

تُعزّز التكنولوجيا الرقميّة من ذهنيّة الهروب التي يعتنقها مليارديرات التكنولوجيا الفائقة، ومن هذا النزوع العام للتغاضي عن مآسي ومعاناة الآخرين، وذلك بما نعتاده من تجارب مختلفة في الفضاء الرقميّ تساهم في عزلنا عن بعضنا بعضًا وعن الواقع المعيش. فيمكن لأيّ رئيس عمل أن يرسل الأوامر عبر تطبيقات التواصل الاجتماعيّ، دون الحاجة للتواصل الحيويّ، المباشر مع مرؤسيه، ودون الالتفات لمشاكل وصعوبات وواقع العمل الفعليّ. هذه العلاقة مع التكنولوجيا يُشبّهها راشكوف بعربة أو مصعد الطعام الذي اخترعه توماس جيفرسون لتوصيل الطعام للأدوار العليا تفاديًا لأن يرى ضيوفه من يُستَعبدون في الأسفل من أجل خدمة سادتهم. وهكذا، في النهاية، يظهر المُنتَج مكتملًا دون الاضطرار إلى الالتفات إلى أوضاع مُنتجيه، وظروف إنتاجه المجحفة. وهكذا أيضًا تُشجّع التقنيات الحديثة الفائقة التنعّم بالمنتج، وفصل المستهلكين عن حقيقة إنتاجه، وعن حقيقة العمل وظروفه ومآلاته، وهو ما يسمّيه راشكوف «تأثير مصعد الطعام» (The dumbwaiter effect).

يذكر راشكوف، على سبيل المثال، أنّه في المراحل الأخيرة من عمليّة تجميع الهواتف المحمولة، يضطرّ العمّال إلى استخدام مادة سامّة لإزالة بصماتهم من الهواتف، وتتسبّب هذه المادة في عدّة أمراض ومشاكل صحيّة مثل السرطان، وخطر الإجهاض المبكّر، كما تؤثر سلبًا على المدى العمري لمن يستخدمونها، وذلك كلّه في سبيل إزالة أيّة آثار للتدخّل البشريّ من المنتج النهائيّ. وبهذه الصورة أيضًا يتمّ فصل قيمة العمل وكُلفته عن العامل والفاعل الإنسانيّ. فالعمالة البشريّة، طبقًا لمبادئ «الذهنيّة»، غير مرغوب بها، ويُمكن الاستغناء عنها، وربّما تمثل عبئًا زائدًا على منظومة العمل، لذا ترغب شركة «فيسبوك»، مثلًا، في استخدام الذكاءات الاصطناعيّة في مهام فحص وتحديد المحتوى المسيء على موقعها بدلًا من الاعتماد على موظّفين مدفوعي الأجر.

كولونياليّة الشركات الكبرى

تتماثل قيم الذهنيّة السائدة في وادي السيليكون ومبادؤها مع النزعة العلمويّة (Scientism)، أي رفض النظر إلى أيّ شيء دون دليل علميّ، إذ تُهمل العلمويّة منظومة إنتاج المعاني وسيرورة بنائها اجتماعيًّا وثقافيًّا، والحاجة الماسّة لها لإكمال ما تُحقّقه العلوم من تقدّم وتطوّر بتوجيه طرائق استخدام العلوم ومنجزاتها نحو غايات اجتماعيّة مفيدة وعادلة. تؤدّي هذه النزعة، إذن، إلى فصل العلوم عن سياقات القيم والأخلاق، ومن ثمّ تحويلها إلى أداة للهيمنة. فالعلمويّة تعامل الإنسان كالروبوت، أو كمحض آلة مرتهنة بالجينات، ومن ثمّ تنزع الفاعليّة والمسؤوليّة الأخلاقيّة عن البشر. ينتقد راشكوف أيضًا ما اعتادته العلوم التجريبيّة من فصل الأسباب عن النتائج، وما تبع ذلك من إغفال تفاعل الأشياء والظواهر مع بعضها بعضًا، وما يجمعها من علاقات ديناميكيّة، حتّى بات يُنظر لكلّ شيء في صورة ثنائيّة: إمّا ذات أو موضوع، إمّا حيوان مفترس أو فريسة، إمّا سيّد أو أجير، إمّا رجل أو امرأة. وكلّما زاد الفصل بين السبب والنتيجة، زادت أيضًا نزعة الفصل بين ممارسات الأثرياء وذوي النفوذ من ناحية وعواقب هذه الممارسات على غيرهم من ناحية أخرى.

كما تتماثل أفكار التقدّم، والانتشار، والنطاق الشاسع الّتي تنبني عليها ذهنيّة وادي السيليكون مع أفكار الاستعمار والغزو والنموّ الّتي سادت أوروبا في عصر التنوير. فالشركات الكبرى تتعامل بمنطق كولونياليّ، وتنظر إلى التطوّر التكنولوجيّ كأداة للربح والاستغلال والهيمنة والنموّ المتزايد. وهكذا، فالأكثر ثراءً وسلطة يربحون ويتحكّمون في قواعد السوق، ويسعون إلى إزالة الضوابط التي تقلّص من الاحتكار واللامساواة، وهذا يكسبهم المزيد من الثروة والنفوذ، وتستمرّ العمليّة في نمط متكرّر. وعلى هذا النحو، تسير الشركات الكبرى على خُطى الكولونياليّة، إذ تستبدل بمبدأ إيجاد أرض جديدة، ثمّ غزوها، ونهب مواردها إيجاد تكنولوجيا جديدة، وغزو الأسواق بها، ثمّ استغلال هذا الانتشار، والاستثمار فيه، وجني المزيد من الثروة والسلطة والنفوذ من خلاله.

من «فيسبوك» إلى «ميتا»

ثمّة مبدأ رئيس تقوم عليه ذهنيّة وادي السيليكون ويتمثّل في أنّ أفضل ما يمكن فعله في حالة نضوب الأفكار والموارد في مشروع ما هو التحوّل إلى «الما بعد»، أي إلى المستوى اللاحق، وعندما تتعثّر المرحلة الجديدة، أو تكفّ عن تعظيم الأرباح، يصبح الانتقال إلى المستوى التالي ضروريًّا، وهكذا، في حلقة مستمرّة من التجريد والتحوّل من مستوى إلى آخر تُنعش نمو الأعمال والاستثمارات الّتي توقّفت في المراحل السابقة. هذا ما حدث، كما يقول راشكوف، مع ما يُسمّى جيل «ويب 2.0» الذي فارق المستوى السابق من جيل الإنترنت بتعامله مع الإنترنت كـ«منصّة»، مثلما فعلت شركة «إي باي» (eBay) التي طوّرت منصّة إلكترونيّة تجمع ما بين البائعين والمشترين. وعلى هذا المبدأ أيضًا تقوم كلّ مشاريع وشركات هذا الجيل من الإنترنت والتي تمثّل مرحلة «الما بعد» للجيل الذي سبقها، بجمعها سويًّا كلّ من يساهمون في الإنترنت في المستوى السابق.

فطبقًا لقيم «الذهنيّة»، يتحقّق التمايز بين أيّ شركة أو مشروع رقميّ وآخر بالقدرة على العلوّ فوق مستوى المنافسة، إذ يُمثّل كلّ مستوى حاليّ قفزة عن المستوى الّذي يسبقه، وهكذا. فالمنصّات المعنيّة بالسفر والرحلات مثل «إكسبيديا» أو «ترافيلوسيتي»، على سبيل المثال، تقفز فوق مستوى التنافس مع خطوط الطيران باضطلاعها بجمع البيانات من مواقع خطوط الطيران هذه، وتقديمها لخدمة عرض أفضل الأسعار للمستخدمين. وللقفز على هذا المستوى إلى المستوى اللاحق، تقوم منصّات مثل «كاياك» و«أوربتز» بمهمّة عرض الأفضل بين هذه المنصّات الأخيرة، وهكذا تعمل «كاياك» و«أوربتز» كمُجمّعي محتوى  (aggregators) لمنصّات تعمل هي الأخرى كمُجمّعة محتوى في مستوى آخر. وهذا هو تمامًا ما فعله مارك زوكربيرج مؤخّرًا بعد الانتقادات والإشكاليّات التي واجهتها شركته فحوّلها من «فيسبوك» إلى «ميتا»، أي إلى مستوى «الما بعد»، بشكل حَرفيّ، وهو المستوى المزمع أن يعمل من خلاله على دمج تقنيّات من كلّ من الواقع الافتراضيّ والواقع المُعزّز سويًّا في عالم واحد أسماه «الميتافيرس». وعلى هذا النحو، يعتمد مليارديرات وادي السيليكون بصورة مستمرّة على سلسلة من التجريد والتحوّل من مستوى إلى آخر لضمان نموّ الثروات بشكل لا متناه.

كلُّ ما لا «يُكوَّد» لا يُعوَّل عليه

يستمرّ راشكوف في نقده اللاذع للأيديولوجيّات التي تؤسّس لذهنيّة وادي السيليكون وممارسات الشركات الكبرى، والتبعات الاجتماعيّة والثقافيّة لذلك. فمع هيمنة التقنيّات الحديثة، والفكر المؤسّس لها، وعمليّة التجريد المستمرّة لقيمة الأشياء، وإنتاج القيمة بطريقة التحوّل الدائم إلى المستوى التالي، تتجلّى تمظهرات أتمتة ورقمنة كلّ شيء، حتّى الإنسان ذاته. فكلّ شيء، حسب هذه النظرة، يمكن «تكويده»، أي يمكن التعامل معه ككود، ويمكن التعامل معه كصفر أو واحد. لذا تصير «البيانات» أهمّ ممّن جُمِعت حولهم هذه البيانات. فالشركات والتطبيقات الّتي تهتم بالرياضة والصحّة، على سبيل المثال، تنتفع وتتربّح من بيانات مستخدميها أكثر ممّا تهتمّ بجعلهم أصحّاء. وهذه السرديّة الاختزاليّة ترى أنّ كلّ شيء في التجربة الإنسانيّة يمكن قراءته أو التعامل معه رقميًّا، تمامًا كما رأى فرانسيس بايكون وغيره من مجايليه من العلماء التجريبيّين ضرورة إهمال أيّ جانب من جوانب الطبيعة لا يمكن إخضاعه للفهم والقياس الكمّي. وفي ذلك إهمال تام لدور السياق والثقافة، ولأطياف المعاني الّتي يمكن أن تنتجها التجارب الإنسانيّة، ولطبيعتها الغنيّة والمركّبة. وبتحويل الحياة إلى كود، واختزالها في المعلومات والبيانات، واختزال الجنس البشريّ في التركيب الجينيّ، يتماهى هذا التوجّه المُهيمن على عوالم التقنية مع النزعة الرأسماليّة لتحويل كلّ شيء إلى ما يمكن بيعه وشراؤه، وتداوله في الأسواق.

تبعًا لذلك، ينتقد راشكوف نزعة الاعتماد على الحلول التقنيّة (Technosolutionism) لانفصالها عن الواقع الفعليّ، وانطلاقها من مبدأ الهروب من المشكلات القائمة. فغالبًا ما ترتكز مثل هذه الحلول، على سبيل المثال، على بناء مجتمعات جديدة على نطاق ضخم بدلًا من إصلاح القرى والمدن والمجتمعات القديمة، ومعالجة مشكلاتها. فثمّة رغبة دائمة في تجاوز الحالي والراهن، والانطلاق إلى المرحلة اللاحقة، وعدم النظر إلى الوراء. وتنطلق حلول نخب التكنولوجيا، مثل الدخل الأساسيّ المُعمّم، واستعمار الفضاء، والاختراق الحيوي (Biohacking)، من مبادئ وقيم ذهنيّة وادي السيليكون، كما أنّها ترسّخها وتعيد إنتاجها، وتؤدّي إلى الاعتماد على الشركات التي تموّل هذه الحلول. كما ترتكز هذه الحلول بصورة كبيرة على قيم وممارسات مستقاة من مجال التكنولوجيا، مثل الدفع نحو تعظيم النموّ، والاعتماد على الأتمتة عوضًا عن التدخّل البشري، والنزوع إلى الـ«مَنْصَنة» (Platformization)، أي الاعتماد على المنصّات الإلكترونيّة كوسيط رئيس للتعامل على الإنترنت، والتغاضي عن ظروف وملابسات الإشكاليّات المعنيّة على أرض الواقع.

بينما يعتقد زمرة من مليارديرات التكنولوجيا الفائقة أنّه باستطاعتهم تأمين مخابئ آمنة لهم فوق الأرض أو تحتها تحسّبًا لـ«نهاية العالم»، يرى الأكثر تمسكًّا وإيمانًا بذهنيّة وادي السيلكيون إمكانيّة تجاوز الوجود الإنسانيّ برمّته.

ومن الأمثلة التي يوردها راشكوف للتدليل على فشل هذا التوجّه التقني المنفصل عن الواقع لحلّ المشكلات المحليّة والعالميّة هو أنّ مشروع «حاسوب محمول لكلّ طفل» لنيكولاس نيجروبونتي، والذي كان من المزمع أن يوفّر 150 مليون حاسوب للدول النامية بنهاية 2007،  لم ينجح أو يؤتي ثماره، وانتهى الأمر بشحن بضعة مئات الآلاف من الأجهزة  فقط بحلول 2009. فمن ناحية، لم يتسن للكثير من الدول التي تسلّمت الحواسيب الاستفادة بها في مدارسها لأنّ غالبية مُدرّسيها لم يكونوا مؤهّلين للتعامل مع التكنولوجيا في المقام الأوّل، ومن ناحية أخرى، تبيّن أنّ الأولويّات بالنسبة للدول الأفريقيّة المعنيّة تمثّلت في معالجة مشكلات مثل نقص التغذية وفيروس نقص المناعة المكتسب، وليس تطوير البنية التكنولوجيّة.

ينتقد راشكوف هذا الاتجاه نحو ما يصفها بـ«التكنوقراطيّة الشموليّة»، أو ما يسمّيها المنظّر الإعلاميّ نايل بوستمان بـ«الاحتكار التقنيّ» (Technopoly)، أي سيطرة التقانة على الثقافة في مختلف صورها. فبينما تُفيدنا التقنيات الحديثة ومنتجاتها بصورة كبيرة، تنتظم حيواتنا مع الوقت وتتشكّل حسب ما تحتاجه التكنولوجيا، مثل ضرورة تغيير المناهج الدراسيّة حتّى يتسنّى لنا إدخالها إلى الحواسيب. والأخطر من ذلك هو تحوّل حيواتنا إلى آلة تدور حول نفس النسق، وتحجب ما عداه من خيارات وأنظمة للفكر، ومن عوالم وإمكانات وأنساق فكريّة مختلفة. ويرى بوستمان أنّ قيم «الاحتكار التقنيّ» الرئيسة من الكفاءة والدقّة والموضوعيّة تطغى على القيم الإنسانيّة ومجالها الأخلاقيّ المختلف والمستقلّ تمامًا.

ثمّة تداعيات لهذه الذهنيّة التقنيّة على التعليم والبحث العلمّي أيضًا، من حيث سيادة قيم الكمّ،  وإخضاع أدوات ومناهج البحث العلميّ لمتطلّبات التكنولوجيا، وتراجع الاهتمام ببعض المعارف والمهارات الجوهريّة. يرى راشكوف أنّ تأكيد الحكومات على ضرورة امتلاك مهارات تقنيّة عالية وتدريب وظيفيّ، وغيرها ممّا تستلزمه التكنولوجيا من خبرات ومهارات، تسبّب في إعطاء المدارس أولويّة واهتمامًا أكبر لمجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM) على حساب اللغات والفلسفة، والفنون، وغيرها من مجالات أخرى مهمّة. وعلى المستوى الأكاديميّ والبحثيّ أيضًا، ثمّة اتّجاه عام لحوسبة البحث في مجال الإنسانيّات، والدفع نحو التركيز على إجراء البحوث وتحليلها من منظور حاسوبيّ، كمّي لإضفاء أهميّة علميًّة عليها، ولحصول الباحثين على الموافقة والتمويل اللازم لمشاريعهم البحثيّة.  

رغم ذلك، يُخبرنا راشكوف أنّ هذه الأتمتة المتنامية لكافّة جوانب الحياة تظلّ غير كافية في نظر بعض نخب التكنولوجيا وأساطينها الذين لن يكفيهم، فيما يبدو، سوى اندماج الإنسان التامّ مع الآلة. فبينما يعتقد زمرة من مليارديرات التكنولوجيا الفائقة أنّه باستطاعتهم تأمين مخابئ آمنة لهم فوق الأرض أو تحتها تحسّبًا لـ«نهاية العالم»، يرى الأكثر تمسكًّا وإيمانًا بذهنيّة وادي السيلكيون إمكانيّة تجاوز الوجود الإنسانيّ برمّته، مثل ما يطمح إليه الكاتب والخبير التكنولوجيّ راي كيرزوايل من استنساخ للعقول البشريّة بتحميلها إلى الحاسوب، وربمّا البقاء السرمديّ هناك، في الفضاء الرقميّ اللامتناهي. كأنّ المستوى اللاحق لمشروع مخابئ المليارديرات المحصّنة ذاك، وإعمالًا لقيم الذهنيّة ذاتها، يتمثّل في تجاوزه إلى حالة مشتهاة من الخلود الأثيريّ في ذاكرة و«عقل» الحاسوب، وفي تجاوز الإنسان ذاته إلى «ما بعده». وسواءً تمثّل ذلك «الما بعد» في الروبوتات، أو في الذكاء الاصطناعيّ، أو في أيٍّ من التقنيّات الحديثة، فجُلّ ما يفكّر به مليارديرات التكنولوجيا وأنصار ذهنيّة وادي السيليكون الخُلصاء هو الهروب من عالم يتداعى بما صنعت أيديهم، حتّى إن كان ذلك بتصوّر أنّ التكنولوجيا يمكن، بكلّ بساطة، أن تَخلُف الإنسان يومًا ما، وتحلّ محلّه بشكل كامل.

  • الهوامش
    [1] Rushkoff, D. (2022). Survival of the richest: Escape fantasies of the tech billionaires. W. W. Norton & Company.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية