بعد «الميتافيرس»: هل يمكن الحديث اليوم عن إقطاعية تقنية؟

الخميس 02 كانون الأول 2021
شعار ميتا، الشركة الأم التي كانت تعرف سابقًا باسم فيسبوك. تصوير كيريل كودريافتسيف. أ ف ب.

مرّت ميتا (أو فيسبوك سابقًا) بمرحلة متقلّبة في الآونة الأخيرة، شهدت أحداثًا عدّة، كتوقف التطبيقات التي تملكها الشركة لعدة ساعات، والجدل الذي أثاره إعلان الشركة نيتها تطوير نسخة من تطبيق انستغرام للأطفال، وبالطبع التسريبات التي قدمتها الموظفة السابقة في الشركة فرانسيس هوغين، والتي لا تزال تبعاتها تتكشف حتى اليوم. 

خلال هذه الفترة المتقلّبة بالذات، أعلنت فيسبوك تغيير اسمها إلى «ميتا»، معلنة نيتها توسيع نطاق عملياته والانتقال من الشاشات الصغيرة إلى بناء «ميتافيرس»، العالم الافتراضي المتكامل، الذي سيغير مستقبل العمل والتواصل والترفيه وغير ذلك. 

بالطبع، أثار ذلك نقاشًا حول إذا ما كان الإعلان مجرّد محاولة لصرف النظر عن الجدل الذي أثارته الشركة في الآونة الأخيرة، أو ما يمكن تسميته «ضربة معلم» من جهاز العلاقات العامة لديها. وقد يحمل ذلك، من ناحية التوقيت، شيئًا من الصحة، إلا أن الصورة الأكبر لا يمكن تحليلها بالاعتماد على متغير واحدٍ كهذا، وليست متعلقة بالشركة وحدها حقيقةً، بل بما يبدو أنه «الطبيعي» اليوم في السوق وبين الشركات الكبيرة، والآثار المحتملة لذلك على المستقبل، وهو ما سنحاول النظر إليه في هذا المقال.

نظرة على المشهد العام

في السنوات الأخيرة، تعاظم الحديث عن تغير المنظومة الاقتصادية العالمية. بالنسبة للباحثة ماكينزي وارك في كتابها «رأس المال مات: هل القادم أمر أسوأ؟»، فإن التسليع لم يعد متعلقًا فقط بوقت عملنا، أو أوقات راحتنا التي ناضلت الحركات العمالية المنظمة لنيلها فيما مضى، بل صار مرتبطًا أيضًا بنزعتنا الاجتماعية وميلنا لرواية قصصنا ومشاعرنا. فإلى جانب ملكية الأرض ووسائل الإنتاج التقليدية كالمصانع، ظهر امتلاك المعلومات والمسارات التي تنظم ذلك، منذ تجميعها وحتى تحديد طريقة استخدامها، بصرف النظر عن طبيعة هذه المعلومات. وبذلك، فإن هذا الشكل الاقتصادي الجديد يمتاز بفرادة من حيث اعتماده على الندرة، التي تتعلق بالموارد الطبيعية، مثل غيره من الأنظمة الاقتصادية، وعلى وفرة المعلومات من جهة أخرى، في الوقت ذاته. 

يشارك السياسي والاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس هذه الرؤية، ويقول إن الأزمات الاقتصادية الأخيرة قد لا توصل الرأسمالية إلى نهايتها عبر حركة ثورية، بل مرورًا بسلسلة تغيّرات تدريجية، لتُستبدَل نهاية الأمر بنظام اقتصادي جديد أشبه ما يكون بإقطاعية تكنولوجية. يشير فاروفاكيس إلى عوارض تدعم مقولته، كتفاقم انعدام المساواة اليوم، والانفصال الذي تعيشه الأسواق المالية عن الواقع والاقتصاد. وليست هذه الملاحظة جديدة، إذ إن الأسواق المالية لم تعد منذ زمنٍ تدل على صحة اقتصادٍ ما أو نموه، بفعل الهندسة المالية منذ ثمانينيات القرن الماضي. وشهد هذا الانفصال تزايدًا ملحوظًا منذ عام 2009، أي بعد عام من أزمة عام 2008 المالية، حين بدأ الارتفاع في أسعار الأسهم يتناقض كليًا مع نسب النمو البطيئة في الاقتصاد.

قدّمت الظروف الاقتصادية والاتجاه نحو «اقتصاد المعرفة» في السنوات الأخيرة فرصةً للمنصات الرقمية، مثل أمازون وألفابيت وأوبر وميتا، للصعود ولعب أدوارٍ رئيسية.

وكما يشير فاروفاكيس، فإن أزمة اقتصادية لن تؤدي بالضرورة إلى نهاية نظامٍ اقتصادي كالنيوليبرالية، رغم بعض التنبؤات التي تفاءلت باحتمالية حدوث ذلك عام 2008. فبعد كل شيء، تميّزت الرأسمالية بقدرتها على التحول والتغيّر المستمرين، ويدلل فاروفاكيس على ذلك بشاهدين؛ أولهما نهاية القرن التاسع عشر، مع ظهور الشركات الكبرى التي حوّلت الرأسمالية إلى شكلٍ أكثر احتكارية، وأحلت فورد وأديسون وكروب مكان الخبازين واللحامين وغيرهم كمحركين لعجلة التاريخ. أما الثاني، والذي بدأ سبعينيات القرن الماضي بعد نهاية اتفاق بريتون وودز، فأعطى الأولوية للقطاع المالي ومؤسسات وول ستريت.

ورغم أن كل تحولٍ ساهم في تراكم الأرباح عند قلةٍ استطاعت زيادة سيطرتها على الأسواق، حافظ النظام في المرحلتين السابقتين على مبدئه الرأسمالي المتمثل في جني الأرباح الخاصة حتى عام 2008، حين صارت مصارف الدول السبعة المركزية تعتمد على طباعة الأموال كحلٍ رئيسي، حتى صار الاقتصاد العالمي اليوم يعمل على توليد المصارف للعملات لا الأرباح الخاصة، كما يقول فاروفاكيس، والتي تستعملها الشركات لتعيد شراء أسهمها، التي انفصلت أسعارها عن الأرباح أيضًا، مفسحة المجال للمنصات الرقمية التي حلّت محلّ الأسواق المادية، لتجني الأرباح عبر العمل المجاني الذي يقوم به الجميع عندما يقدمون بياناتهم لهذه المنصات. 

قدّمت الظروف الاقتصادية والاتجاه نحو «اقتصاد المعرفة» في السنوات الأخيرة إذن فرصةً للمنصات الرقمية، مثل أمازون وألفابيت وأوبر وميتا، للصعود ولعب أدوارٍ رئيسية. إلا أن جائحة كوفيد-19 ساعدت هذه المنصات ومن يقفون خلفها بتجاوز أشواطٍ عديدة بزمن قصير، فعلاوة على كون هؤلاء من القلة الرابحة من التداعيات الاقتصادية للجائحة، ازداد الدور الذي تلعبه «الوساطة التقنية» في حيواتنا خلال هذه الفترة، وزاد الظرف من حدة الاستثمار في التكنولوجيا، وتعميق الفوارق. يخلص الباحث الأسترالي أليكساندر ووترز إلى أن استجابة الحكومات وحزم المساعدات التي رفعت أسعار أسهم الشركات بشكل مصطنع خلال الجائحة، والتي ستعمق في السنوات القادمة الفروق الطبقية، تبدو الوحيدة، مع غياب أي أشكال استجابة من اليسار. وعلى هذا الأساس، يخلص ووترز إلى ذات النتائج السابقة عن نهاية النيوليبرالية ربما، بفعل تتالي الأزمات التي فاقت قدرتها على الاستمرار، ومع غياب البدائل الأخرى يقترح ووترز أن التفكير بالشكل الإقطاعي لم يعد احتمالًا بعيدًا. وهنا يمكن طرح السؤال: ما الذي يجعل الشكل الجديد «إقطاعيًا»؟ في الحقيقة، تستند هذه المحاولة للتنبؤ بالمستقبل إلى عدة ركائز.

تعرّفوا على السادة الجدد

يعد النظام الاقتصادي للإقطاعية التكنولوجية واحدًا من العوامل المهمة التي تميّزها عن الرأسمالية. ففضلًا عن تربّع أشخاص مثل جيف بيزوس على قمة الهرم اليوم، وازدياد صعوبة تحقيق أي حراك اجتماعي، يوضح ووترز أن النسبة بين ما يملكه هؤلاء والإنسان العادي، تفوق اليوم تلك التي كانت بين كثير من الملوك أو الأباطرة ومن خضعوا لهم، وليس هذا التفاوت الشديد إلا مؤشرًا على المشكلة. والواقع أن هذه النتيجة لم تحدث إلا عبر عملية تضاهيها في «رجعيتها». يمضي النظام الجديد وفق شكلٍ ما بعد رأسمالي، انتقل بعيدًا عن إنتاج السّلع الفيزيائية نحو الإنتاج غير المادي والمعلوماتي. وفيما يشبه مفهومي الأراضي «المشتركة» و«المسيجة» في العصر الإقطاعي، تنتج هذه المنصات مساحات مشتركة ومسيجة هي الأخرى، تكون فيها الأولى هي «المجانية» التي نستعملها وننتج فيها البيانات بشكل دائم، والثانية تلك المحمية اليوم بقوانين حقوق الملكية ومكافحة القرصنة، التي تدفع بها شركات الترفيه والموسيقى وغيرها عادةً.

ولنوضح ذلك بمثال، في بدايات جائحة كوفيد-19 عملت شركة LogoGrab ومختبر Ghost Data الإيطاليين على تحليل الصور المنشورة على موقع إنستغرام، لفهم أنماط خرق التباعد الاجتماعي التي كان الشباب يقومون بها وتطوير طريقة استجابةٍ لها. ومع أن هذه الصور والبيانات كانت متوافرة بشكلٍ علني، منعت فيسبوك الشركتين وأوقفتهما عن العمل بسبب خوفها من استفادتهما ماديًا من بيع البيانات، وفقًا لمؤلفي كتاب «أسرع من المستقبل»، رغم تأكيد الشركتين أن هذه الخطوة غير ربحية، وتحاول الاستجابة لما كان حينها ظرفًا صحيًا كارثيًا في إيطاليا، ورغم الصورة العامة التي تحاول الشركة تقديمها عن مسؤوليتها الاجتماعية ودورها خلال الجائحة. أي أن كل ما قيل عن الظرف الطارئ حينها، والوضع الذي جعل كثيرًا من الممنوعات مباحةً، لم يكن ينطبق على «ملكية» الشركة التي لم تكن تحت تهديدٍ أو منافسة في هذا المثال حتى، وعلى تضادٍ كامل مع ما اقتضته مصلحة «العامة» حينها.

إن «المنصة» التي لا تمتلك فعليًا أي سيارة أو مقطوعة موسيقية أو منزل واحد حتى، تلعب دور وسيطٍ قوي عبر ملكية المنصة التي تشبه ملكية «الأرض» في النظام الإقطاعي، وتجبر ملايين المنتجين والمشترين على المرور عبرها.

يواجه «صانعو المحتوى» اليوم ذات المشكلة مع يوتيوب، إذ تحدد خوارزمية يوتيوب كثيرًا من المحتوى بوصفه استعمالًا غير مشروع لمواد أخرى، كالأغاني مثلًا، وتوجه بالتالي ريع المحتوى المصنوع نحو «أصحاب الحق»، من شركات إنتاج وغيرها. وإذا عدنا إلى ماكينزي وارك، فإن القلق على «الخصوصية» ضمن هذا السياق يبدو ترفًا برجوازيًا؛ القلق الفعلي هنا يكمن في تبادل البيانات غير المتكافئ بين الحيّزين.

وبذلك، فإن «المنصة» التي تكون في حالة «أوبر» و«سبوتيفاي» و«إير بي إن بي»، شركات لا تمتلك فعليًا أي سيارة أو مقطوعة موسيقية أو منزل واحد حتى، تلعب دور وسيطٍ قوي عبر ملكية المنصة التي تشبه ملكية «الأرض» في النظام الإقطاعي، وتجبر ملايين المنتجين والمشترين على المرور عبرها، وتبني علاقات تبعية تصبح خلالها المالك الفعلي، لمجرد أنها تؤجر طرفي التعاقد السابقين منصتها. 

ولا يمكن لذلك أن ينجح دون أساليب تحكمٍ اجتماعي تضمن استقرارًا للوضع الناشئ في الحياة الحقيقية، وثبات تدفق المعلومات افتراضيًا واتجاه هذا التدفق، أي المساهمة في «إعادة إنتاج أنماط الإنتاج الجديدة» هذه، وفقًا لووترز، الذي يشير أيضًا إلى أن التكنولوجيا اليوم توفر أنماطًا مختلفة من هذه الأساليب، كأنظمة وكاميرات المراقبة، التي تمارس دورها بشكلٍ مباشر وواضح، وأشكال أخرى أقل مباشرة كقوانين حقوق الملكية وأتمتة العمل والتاريخ الائتماني، الفردي والجمعي، والتي تحد من قدرة الأفراد على الفعل. وقد يكون سيل البرامج والتقنيات التي طوّرت لمراقبة الموظفين أثناء العمل من المنزل خلال الجائحة دليلًا على هذا البعد. 

إن هذا الشكل سينتج بدوره علاقات طبقية جديدة، تختلف عن تلك التي نشأت في المصنع أو مكان العمل مثلًا. فاليوم، تعتبر فيسبوك وأمازون وألفابيت من الشركات الأكثر تحقيقًا للأرباح بالنسبة للموظف الواحد. يتعلق ذلك بسياسات التوظيف الخاصة بهذه الشركات، ففي عام 2019، كانت غوغل تعتمد على أكثر من 120 ألف موظف مؤقت ومتعاقد حر، مقابل 100 ألف موظف دائم، وفقًا لصحيفة نيويورك تايمز. نجد الأمر ذاته لدى شركات أخرى، مثل فيسبوك التي تعتمد على عددٍ هائل من المتعاقدين والعاملين لدى «أطراف ثالثة» لتأدية مهامٍ منهكة ومعقدة، كإدارة المحتوى لديها وتدريب الذكاء الاصطناعي. 

يبدو هذا الشكل ثنائي الطبقات، حيث يحصل الموظفون الدائمون على امتيازاتٍ تعمل هذه الشركات على عرضها وتضخيمها، باعتبارها شركات مختلفة، مؤسسة من قبل رياديين برّاقين ويختلفون عن سابقيهم من رجال الأعمال، بينما يُترَك الباقين لمستقبلٍ مجهول، مع غياب كل أشكال الضمان والتعويضات التي يحصل عليها الموظف الدائم. وضمن صراعهم مع «طغيان السلطة»، يحارب هؤلاء كل أشكال الضوابط التي تأسست سابقًا لحماية العمال، فرغم إظهارهم ميولًا ليبرالية ودعمهم لقضايا هنا وهناك، يقول 82% من أفراد النخبة هذه إن فصل الموظفين لا يزال صعبًا حتى اليوم، بينما يتخوف 74% منهم من قوة نقابات العمال. 

لا وجود للمصادفة إذن حين نسمع مرارًا أننا نعيش في زمن اقتصاد الأعمال المؤقتة (Gig Economy)، حيث تُعمَم أساليب الإنتاج هذه على بقية القطاعات، وتصبح السمة العامة للعمل، بكل ما فيها من انعدام الاستقرار الوظيفي -والمسميات الوظيفية أحيانًا- والعيش «تحت ضغطٍ يدفعنا لقبول حياةٍ من عدم الاستقرار وغياب الأمان الوظيفي وتأدية العديد من المهام غير المأجورة»، بكلمات بروفيسور الاقتصاد البريطاني غاي ستاندينغ في تعريفه لطبقة «البريكاريا» الناشئة عن هذا الشكل الجديد، والتي تختلف عن عمال المصانع، على سبيل المثال، بتشتتها، لأسبابٍ عدة، ابتداءً من غياب الأشكال التقليدية للتجمع والتي كانت سائدة في مكان العمل التقليدي، وانتهاءً بمعدل تغير الأعمال السريع وتبدله المستمر، وصعوبة صياغتها لوعيٍ طبقي أو مصالح مشتركة ومقارعة أرباب العمل، الذين -كما ذكرت سابقًا- لا يرتبطون أحيانًا بالعمال بشكل مباشر بسبب عقود «الأطراف الثالثة». 

إن آثار هذه الظاهرة لم يعد بالإمكان حصرها ضمن بلدٍ أو منطقة بعينها، فاليوم يمكن لأيّ كان أن يدخل إلى منصة «التركي الميكانيكي» (Mechanical Turk) التي تديرها أمازون، حيث يرتاح المشغلون من كل ضغوطات التفاوض على الأجور ويعرضون مهماتٍ شديدة الصغر لمن يشاء، مقابل سنتات أحيانًا، مجزئين العمل والمهام إلى عدد هائل من الأفراد يصعب معها الحديث عن تخصص أو مهنة حتى. إن ذلك، بالتوازي مع الفروقات الاقتصادية الهائلة بين دول العالم، يعيد إنتاج مكان العمل الاستغلالي (Sweatshop) بشكلٍ رقمي، وعوضًا عن صناعة حذاء نايكي أو منتج لأديداس في دولة نامية بتكاليف منخفضة بقصد بيعه في مكان آخر، يمكن اليوم لعملٍ في دولة متقدمة أن يعتمد على أخصائي سوشال ميديا في دولة نامية، ليدير له ظهوره ويتفاعل مع جمهوره، أو يمكن لشركة خاصة أن تجرّب تقنية جديدة في بلدٍ مهدد بالنزاعات بالتعاون مع منظمة إنسانية ما. 

ومع غياب إمكانيات المقاومة، يصبح الخلاص بشكلٍ طبيعي فرديًا، إذ يذكر جيمي وودكووك في كتابه «ماركس في الأركيد» قصص مجرّبي ألعاب الفيديو، وهي واحدة من وظائف «الدرجة الثانية» والتي لا تشبه بتاتًا ما يتصوره الإنسان عنها كوظيفة ممتعة، ويذكر أن السبب الوحيد لتحمل أعمالٍ شاقة كهذه يتعلق بأمل من يقومون بها بالانضمام لـ«نادي النخبة» يومًا ما، حيث تصبح الوظائف أكثر ديمومة واستقرارًا. وبشكلٍ أو بآخر، تصبح الترقية، أو الحلم بها، بديلًا للعدالة، إلى الحد الذي يدفع ووترز للاعتقاد أن ظهور نخب التكنولوجيا عامل مهم في فشل كثير من حركات الاحتجاج الشعبية اليوم، ويقتبس أحد مؤسسي حركة «احتلوا وول ستريت» الذي قال: «الاحتجاجات لم تعد تجدي نفعًا اليوم». فعلى عكس ما كان يجري في القرنين التاسع عشر والعشرين مع حركات العمال أو الحركات المناهضة للعنصرية أو التمييز الجنسي وغيرها، لا تجد هذه الحركات اليوم سبيلًا لربط الغضب والاستياء بفعلٍ يمارس الضغط على النخب لانتزاع الحقوق منها. وهنا يمكن أن نلحظ أثر التشتت، ووسائل التحكم الأخرى، كالخوف من الفصل أو الاستبدال أو الأتمتة ضمن عالمٍ مثقل بالديون، على تثبيط الأفراد. 

ماذا يعني ذلك بالنسبة للدولة؟

رأينا سابقًا أوجه تشابه بين نظام «الإيجار» الذي تتبعه المنصات اليوم، وذاك الذي كان سائدًا في النظام الإقطاعي، كما مررنا على شكل العلاقات الطبقية التي تتشكل اليوم مع شرط العمل شديد التغير. تحمل هذه النقلات في بعض تفاصيلها عكسًا لمكتسبات تبلورت بعد عقودٍ من المواجهة، خصيصًا فيما يتعلق بحقوق العمال، إلا أنها لا تقف عند هذا الحدّ بأي حال.

تصف مقالة في الواشنطن بوست المعركة الدائرة بين الحكومة الأمريكية وشركات التقانة الكبرى، وتعزو فشلها سابقًا إلى عاملٍ رئيسي هو نموذج عمل هذه الشركات التوسعي الذي يقيها من الضبط. وتذكر المقالة أن شركة مثل غوغل لم تعد مجرد محرك بحث، بل خدمة خرائط ومحتكر لأنظمة تشغيل الهواتف مع آبل، والمالكة لـ8.5% من كابلات الإنترنت التي تغذي العالم، وبدأت الاستثمار في العالم الحقيقي عبر شركةٍ تهتم بالمواصلات وأخرى بالبنى التحتية، إضافة لامتداداتها في الدول النامية ومحاولة احتكار البنى التحتية الرقمية فيها، وهي خطوات شبيهة لما تقوم به فيسبوك -التي أصدرت عملةً خاصة بها-، ومايكروسوفت أيضًا. وقد صعّدت هذه الشركات من حدة نشاطها هذا في العام الأول من الجائحة، بينما كان العالم يعاني اقتصاديًا. تبدو هذه الاستثمارات، بسبب طبيعتها الواسعة وخروجها عن مدى الخدمات الرئيسية التي تقدمها هذه الشركات والمبالغ التي تُنفَق عليها، أقرب لأن تكون شبيهة بتلك التي تقوم بها الحكومات أكثر من كونها مجرد استثمارات لشركات ضمن قطاعٍ معين، كما تقول الصحيفة، الأمر الذي يتطلب تصعيدًا في طرق مواجهتها وخططًا تشبه اليوم وتتعدى الضوابط شديدة التحديد، التي قد تتعلق بجزئية مفصلة، كشريط البحث مثلًا، وتعترف بالطموحات المختلفة والتوسعية لهذه الشركات لتستطيع مقارعتها اليوم.

إن أي رؤية راديكالية تطمح ببناء عالمٍ أفضل لا بدّ أن تعتمد على الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا، وقد يكون البحث عن هذه الرؤى الجديدة التي تلائم اليوم بكل ما تغيّر فيه نقطة انطلاقٍ جيدة.

لا يشارك الجميع بهذا الرأي، إذ يرى البعض، كستيفن والت في مجلة الفورين بوليسي، أن الغلبة ستظل من نصيب الحكومات والدول القومية في هذا الصراع الذي بدأ مؤخرًا. ويستند ذلك إلى نقطتين رئيسيتين؛ أولهما غلبة «المادي» على الرقمي، حيث يبقي الأول الحياة الممكنة ولا يمكن تخيلها دونه، بينما يساهم الثاني في «تحسينها» ولا يستطيع الاستمرار دون الحيز المادي. ثاني هذه النقاط يتعلق بمفهوم الحكومة، إذ إن تحذيراتٍ شبيهة صدرت من عدة مفكرين مع ظهور الشركات متعددة الجنسيات، التي كان بعضها شديد الاحتكارية، لتخضع نهاية الأمر إلى نوعٍ من الضوابط الحكومية التي لن تتمكن الشركات من العمل خارج أطرها، لكون القوانين والمؤسسات تتطور هي الأخرى. ورغم أن معركة ضبط هذه الشركات ستختلف عن تلك التي كانت تجري سابقًا، إلا أنها ليست مستحيلة وفقًا للكاتب، الذي يقدم خطوات الصين في هذا المجال مثالًا، وينطلق من إجماعٍ داخل الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة على ضبط هذه الشركات، ليؤكد إمكانية ذلك.

ورغم أن التشنج بدأ يشوب العلاقة بين الحكومات وشركات التقانة، إلا أن هذه العلاقة مرّت بمراحل مختلفة، وبعضها كان أكثر ودًا. إذ تعاون الطرفان سابقًا في «الحروب ضد الإرهاب» وعقود الدفاع، التي أكسبت شركات التقانة الكبرى مًا تفوق قيمته 43 مليار دولار، بينما قدمت دول أخرى تسهيلات ضريبية وغيرها لجذب استثمارات هذه الشركات، ولمّا حاول جيف بيزوس الصيف الماضي الظهور بمظهر بطل «تقدمي» عبر رفضه التعامل مع الزبائن العنصريين على خلفية تأييده لحركة «حيوات السود مهمة»، كانت أمازون تتعاون تقنيًا مع الشرطة الأمريكية ووكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك ذائعة الصيت خلال فترة رئاسة ترامب، والتي وصِفت أمازون بعمودها الفقري، ولا شك أن المشاركة ضمن قطاع كالدفاع سينعكس على الثقل السياسي لهذه الشركات ومكانتها.

لا ينحصر هذا الأثر إذن بالدول المتقدمة، بل يمتد إلى كل أجزاء العالم، وإن كان ذلك -مثل مراحل «التطور» السابقة- محكومًا بتفاوتات معينة، وأدوارٍ مختلفة تلعبها أجزاء العالم ضمن المنظومة. فاليوم، يتوقع لمشروع  2africa الذي تموله فيسبوك وشركات اتصال أخرى أن يكون واحدًا من أكبر مشاريع الوصل بالإنترنت في العالم. في نفس الوقت، لا يمكن إغفال حضور شركات كبرى مثل «علي بابا» و«تينسنت» الصينيتين في مشروع طريق الحرير الرقمي الذي تعمل عليه الصين، ويشكل جزءًا من مشروع الحزام والطريق الخاص بها.

يدفع هذا بالبعض للاعتقاد بدورٍ أقل أهمية للحدود القومية للدول في المستقبل، فمع تركز القوى والاستقلالية لدى لاعبين محدودين، ينتج تداخل السلطات بين اللاعبين الدوليين والقوى المحلية أو القومية، ويضعف معه الاستقلال ودور الحكومات والحدود. وإن كان هذا التنبؤ بالمستقبل يشبه الماضي في شيءٍ، فهو الأهمية المنخفضة للحدود ضمن النظام الإقطاعي، الذي لم تقم الدول القومية إلا على أنقاضه.

يمكننا بعد هذا التقديم أن نعود إلى «الميتافيرس». يجسد هذا التصور للمستقبل، والمشحون بكثير من الكلام عن التغيير والعالم الأفضل، أسبابًا تدعو للقلق، ربما لأن ما تقوله في النهاية هو أن عملك ولهوك واستراحتك وغيرها لن تكون خارج أسوار «مزرعة» المالك، إن استعرنا شيئًا من التاريخ. ولكيلا يبدو الموضوع متعلقًا بالشركة بحد ذاتها، ما علينا سوى النظر إلى أن مايكروسوفت بدأت هي الأخرى التفكير بـ«الميتافيرس» الخاص بها، وإن صدقت التوقعات السابقة فإن العلامة التجارية للمسيطر ستكون واحدة من مشاكلنا الثانوية.

تقول البروفيسورة الأمريكية جودي دين في مقالٍ لها إن الحديث عن إقطاعية جديدة اليوم يخدم غايات عدة، وليس محصورًا حقيقةً بأولئك الذين على اليسار، إذ إن الهجوم على الإقطاعية الجديدة يرتبط لدى الكثيرين على اليمين بعودة وتشجيع «القطاعات الموظفة»، كشركات الوقود الأحفوري والتطوير العقاري وشركات الزراعة الكبرى، وترى أن هذه النخب الجديدة تهدد الطبقة الوسطى، وجلّ ما تسعى إليه هو إعادة الأمور إلى الوراء بضع خطوات، وهو أمر لا يمكن تحمّله اليوم مع كل التحذيرات عن الكارثة البيئية التي تحدق بنا، وضرورة التحرك لتداركها. أما على اليسار، فإن ذلك سيعني مراجعة الحلول المقترحة اليوم، والتي يعيب عليها شدة محليتها وتواضع حجمها، وتركيزها على المشكلة الرئيسية المتمثلة بالاقتصاد، التي استفاد منها اليمين المتطرف مع ضعف اليسار، أو تغييبه، وأنتجت سياساتٍ وبرامج رجعية تثبت علاقة التحول نحو هذا الشكل الاقتصادي بالمؤسسات والمناخ السياسيين اليوم، وهو ما يشبه المقولة التي ينطلق منها ووترز في بحثه، بأن التاريخ اليوم يتحرك في الآن ذاته نحو مزيد من التقدم التكنولوجي والتراجع السياسي.

وإذا كانت طبقة المدراء التنفيذيين التي نعرفها اليوم قد قامت على رؤى طوباوية ليبرتارية تبشر بأن الإنترنت سيجلب معه حريةً أكبر وحلًا سحريًا، كما يقول ريتشارد باربروك في مقالته الشهيرة «الأيديولوجية الكاليفورنية»، فإن هذه الرؤى تبدو بعيدة جدًا اليوم.

قد لا تنقذنا التكنولوجيا بحد ذاتها وقد لا تودي بنا، لأن الرهان الكامل عليها، والإفراط بالتفاؤل بها أو الرهاب منها يغفلان في الوقت ذاته البعد السياسي لهذا الحقل، الذي صار البعض يتعامل معه على أنه يتطور خارج حدود الزمن والسياسة، وكأنه قد انفصل عنهما حقًا. على العكس، يمكن القول إن أي رؤية راديكالية تطمح ببناء عالمٍ أفضل لا بدّ أن تعتمد على الإمكانات التي توفرها التكنولوجيا، وقد يكون البحث عن هذه الرؤى الجديدة التي تلائم اليوم، بكل ما تغيّر فيه، وببعض معطياته الحساسة كالأزمة البيئية، نقطة انطلاقٍ جيدة، لأن الحاجة إليها من الآن فصاعدًا ستصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية