من يملك الإنترنت؟

الأحد 12 تشرين الثاني 2017

الأسبوع الماضي، وفي قاعة اجتماعات في مركز أبو ظبي للمعارض تصاعدت اتهامات ممثلي حكومات البرازيل والبيرو علي ممثلي شركة أمازون. «شركات مثلكم لا تحترم رغبة المجتمعات التي تمثّلها حكوماتنا» خاطبت الممثلة البيروفية ممثلي أمازون بانفعال. ترجع هذه الأجواء المشحونة إلى العام 2012 عندما تقدّمت أمازون بطلب امتلاك حصري لعنوان الإنترنت «Amazon.» على شاكلة «com.» و«net.» ليصبح أحد عناوينها مثلًا «www.books.amazon». اعترضت الحكومات البرازيلية والبيروفيّة لاعتبارها أن هذا الطلب تغوّل من الشركة على المصلحة العامة، لأنها بامتلاكها لهذا العنوان الحصري ستحرم البرازيليين والبيروفيّين من إنشاء مواقع توعوية وتعريفية عن غابات الأمازون.

لكن لمن قدمت شركة أمازون طلب الحصول على اسم النطاق «amazon.» ولمن اعترض ممثلو الحكومات البرازيلية والبيروفيّة؟

اللقاء الذي ذكرته جاء ضمن الاجتماع السنوي العام لـ«هيئة الإنترنت والأرقام المخصصة» أو ICANN. تأسست هذه المؤسسة غير الربحية عام 1998 وكُلّفت بإدارة وتوزيع أسماء نطاقات الشبكة العالمية وتطوير البروتوكولات التقنية التي تعتمد عليها الشبكة.

أسماء النطاقات هي العناوين النصية التي نطبعها بكل سلاسة في أعلى متصفحاتنا مثل «www.7iber.com». صراع شركة أمازون والحكومات اللاتينية على اسم «Amazon.» ما هو إلا جزء صغير من تاريخ الصراعات الدولية السياسية والاقتصادية حول تحديد أسماء نطاقات الإنترنت وبروتوكولات العنونة غير المرئيّة التي تعتمدها الشبكة. بدأ هذا النزاع منذ بداية الشبكة في 1969، عندما كانت الشبكة عبارة عن بضع كمبيوترات صغيرة في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس (UCLA) بدعم من «وكالة المشاريع الدفاعية البحثية المتقدمة» (DARPA).

تخبرنا عن تفاصيل الصراع على من يحكم الشبكة الباحثة لورا دينارديس في كتابها «سياسة البروتوكولات: عولمة حوكمة الإنترنت» الصادر عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) عام 2009. وتكشف دينارديس تاريخ الصراعات السياسية غير المرئية على بروتوكولات شبكة اتصالات لا نرى منها كمستخدمين إلا شاشة المتصفح وتطبيقات المحمول. تقارب دينارديس الصراع الدولي على تحديد البروتوكول القادم بالصراع الدولي على مخزون النفط المحدود. فكلاهما مصادر حساسة لاقتصاد الدول، ومتوفر بكثرة، ولكن معرّض للنفاد.

بروتوكول الإنترنت أو كيف تعمل الشبكة؟

فلنرجع للمسلّمات. لا أحد يملك شبكة الإنترنت، فهي ليست شبكة مركزية بل شبكة من الشبكات تتصل ببعضها البعض في جميع أنحاء العالم. لكن هناك أجزاء من بنية الشبكة التحتية أساسية لعملها تخضع لسيطرة الشبكات والحكومات، منها نظام عنونة الأجهزة التي تتصل بها أو ما يسمى «نظام أسماء النطاقات» أو «Domain Names System».

تمامًا كما تحتاج صناديق البريد إلى عناوين لتبادل الطرود، تحتاج الأجهزة على الإنترنت إلى عناوين رقمية تسمّى (IP Addresses). على كل جهاز أن يأخذ (IP Address) مميزًا عالميًا عند اتصاله بالشبكة. مع انتشار شبكة الإنترنت وتطوّر ما يسمى الويب (المواقع وخدمات المحتوى على الشبكة)، رأى مهندسو الشبكة الأوائل أن البشر لن يستطيعوا حفظ آلاف العناوين الرقمية التابعة للمواقع، فكان الحل عن طريق نظام يحوّل العناوين الرقمية إلى عناوين نصية، أو ما يطلق عليه أسماء نطاقات، وهو ما سهّل عملية طلب أي موقع على الإنترنت، فنطبع مثلًا (www.7iber.com) بدلًا من أن نطبع (104.25.137.30). 

حتى لا تتضارب الأسماء والعناوين على مستوى الشبكة تُحفظ كلّ أسماء النطاقات ومرادفاتها من (IP Addresses) في ملف واحد يسمى الـ(DNS). يشبه الـ(DNS) بعمله فهرس الهاتف الذي يربط أرقام هواتف الناس بأسماء أصحابها، لكنه فهرس عالمي متاح لكل أجهزة الإنترنت.

حسنًا، أين المشكلة؟

توضح لنا دينارديس أن هذه العناوين الرقمية المميزة ما هي إلّا اختصار للإصدار الرابع من بروتوكول الإنترنت، يشار إليه بـ(IPv4). تخيل/ي أنّ صناديق البريد في العالم تعتمد على نظام ترقيم موحد، لنقُل أنه مكوّن من تسع خانات. سيكون هذا الرقم المميّز كافيًا لتوصل شركات النقل البريدي الصناديق المرسلة والمستقبلة دون جلبة إدراج عناوين تحتوي على بيانات الأسماء والدول والمدن. نظام عنونة ذو تسع خانات رقمية يعني أن عدد الصناديق التي يمكن أن يخصص لها عنوان مميز ستكون مهولة. يعني ذلك أيضًا، أنها ستنفد يومًا ما، وأن على من لم يحالفه الحظ في تسجيل صندوق بعنوان مميز الانتظار حتى يتخلّى أحدهم عن صندوقه أو تتفق شركات البريد على نظام ترقيم آخر.

إذا رجعنا لشبكة الإنترنت، ستكون الأجهزة على شبكة الإنترنت (كمبيوترك الشخصي، والراوتر، والخوادم) بمثابة صناديق البريد، وعلى كلٍ منها أن يحصل على عنوان مميز من (IPv4) حتى يستطيع الدخول إلى الشبكة. عندما اعتمد مهندسو الشبكة نظام (IPv4) كبروتوكول للاتصال توقعوا أن الحد الأقصى للعناوين المميزة التي سينتجها هي 4.3 مليار، وأنها ستنضب في 1994. هذا التوقع بانتهاء عناوين الإنترنت ولّد هوسًا عالميًا بالحاجة إلى تطوير وتبني بروتوكول اتصال جديد له القدرة على استيعاب أضعاف مضاعفة من الأجهزة والتطبيقات المستقبلية.

أزمة عناوين الـ(IPv4) والنقاش حول تبني بروتوكول الجيل الجديد كان بداية التنبّه الدولي لأسئلة وجودية تتعلق بمن له قرار تصميم هذه البروتوكولات أو توزيع العناوين على الأجهزة العالمية خارج نطاق الولايات المتحدة. أيُّ بروتوكول جديد لعنونة الإنترنت يعني تحديث واستبدال أجهزة الشبكة العالمية بأجهزة جديدة تدعم هذا البروتوكول. والبروتوكول الجديد المقترح كان (IPv6).

قرار اختيار النسخة السادسة من بروتوكول الإنترنت (IPv6) لم يكن قرارًا تقنيًا فقط، بل كانت نتيجة صراع مؤسساتي حول من سيدير توزيع هذه العناوين وملف (DNS) العالمي المرافق لها. بدأ هذا الصراع في أوائل التسعينات بين هيئة «نشاطات الإنترنت الأمريكية» التي تقدمت ببروتوكول IPv6 ومؤسسة المعايير العالمية التي تقدمت ببروتوكول (ISO) كاقتراحات لبروتوكولات جديدة لعنونة الأجهزة. بالنهاية اختارت اللجنة التي تشكّلت في 1996 (IPv6) وحُدّد عام 2006 لانتقال الشبكة للعمل به. رغم مرور أكثر من عشر سنوات على ذلك الموعد المحدّد إلّا أن الشبكة لا زالت في مراحل بدائية من التحوّل. وراء هذا التأخر أسباب عديدة، أهمها عدم قدرة نظام IPv6 و IPv4 على محاكاة بعضهما البعض، أي أن أجهزتنا التي لا تدعم الـIPv6 لن تستطيع الدخول إلى المواقع والخدمات الجديدة التي تتبنى هذا البروتوكول.

الآيكان (ICANN) اليوم هي الهيئة المسؤولة عن توزيع عناوين IPv4 بالإضافة إلى IPv6 وإدارة فهارسهما العالمية. لكن دينارديس تشير إلى أن تاريخ توزيع العناوين عالميًا منذ بداية الشبكة طرح «تساؤلات بشأن السيطرة والتوزيع والحيازة المنصفة للموارد التكنولوجية في بيئة رقمية تقفز على الحدود الدولية».

كيف احجز عنوانًا على الإنترنت؟

في عام 1990 حجزت جامعة ستانفورد الأمريكية لوحدها عناوين إنترنت تفوق ما حجزته جمهورية الصين.

لعقد من الزمن، اعتمدت آلية توزيع عناوين الإنترنت في العالم على شخص واحد هو جون باستول، طالب الدراسات العليا في جامعة جنوب كاليفورنيا وأحد مهندسي شبكة (Arpanet) الأوائل. كان «نجم الإنترنت الشمالي» حسب وصف فينس سيرف، يجلس في مكتبه في «معهد علوم المعلومات» لتلقي طلبات بحجز عناوين الإصدار الرابع من بروتوكول الإنترنت لأي جهة ترغب بالدخول إلى الشبكة. تقول دينارديس أن هذا المنصب في البداية لم يكن جدليًا، فـ«نشاطات باستول كانت مقرّة من قبل «وكالة المشاريع الدفاعية البحثية المتقدمة»، وخبرته التقنية أعطت شرعية لمنصبه بتوزيع عناوين الإنترنت لمؤسسات كانت معظمها أمريكية». سمّيت وظيفة باستول بالثمانينات بوظيفة «هيئة الأرقام المتخصصة بالانترنت» أو( Internet Address Number Assignment) أو بوظيفة الأيانا. في 1983 انضم جي رينولدز إلى جون باستول لمساعدته بوظيفة الأيانا.

اعتمدت آلية حجز العناوين على «الخدمة بأسبقية الوصول». في ظاهر الأمر تبدو هذه الآلية منصفة، فأي مؤسسة تستطيع أن تطلب حجز عناوين الإنترنت بغض النظر عن موقعها الجغرافي أو عرقها أو جنسيتها. لكن في الواقع تذكر دينارديس أن هذه الآلية أعطت «أفضلية للمؤسسات التي كانت لديها أصلًا أفضلية إما بالتكنولوجيا أو رأس المال أو حتى المعرفة بضرورة حجز موارد الشبكة». بنهاية الثمانينات كانت الحصة الأكبر من عناوين الإنترنت محجوزة لجهات أمريكية.

قَسّمت الأيانا العناوين إلى حزم، تحجزها الجهات المستضيفة للشبكة وتقوم بتوزيعها على أجهزتها كما تراه مناسبًا. حزمة A تشمل 16 مليون عنوان، وحزمة B تشمل 65 ألف عنوان، وحزمة C تشمل 265 عنوان. بطبيعة الحال، كانت معظم المؤسسات الأمريكية تطلب حزمة A بغض النظر عن حاجتها الأولية، لتضمن حاجاتها المستقبلية. لكن بعد أن اجتمع مهندسو الإنترنت، ومنهم فينس سيرف وجون باستول، في خلوة تهدف لتعريف «روح الشبكة»، توصلوا إلى أن عالمية الإنترنت الحالية تتطلّب نظامًا أكثر لامركزية وفاعلية في توزيع العناوين. وبالتالي توقف حجز العناوين على أساس الحزم، وطُلِب من الجهات الأمريكية التي لم تستخدم معظم عناوينها المحجوزة أن تسرّحها للفضاء العام، فأعادت، مثلًا، جامعة ستانفورد، 16 مليون عنوان إلى أيانا بحلول عام 2000.

أصبحت وظيفة الأيانا بتوزيع العناوين أكثر لامركزية بظهور هيئات ممثلة على مستوى القارات تسمى «سجلات الإنترنت الرقمية». تحدّد الأيانا مجموعة عناوين لكل هيئة وتقوم هذه الهيئات بتوزيعها على الهيئات الوطنية المسؤولة عن توزيع العناوين في كل دولة، ومنها إلى مزوّدي الإنترنت، ومنها إلى المستخدم. انتقل مكتب جون باستول ومعه وظيفة الأيانا من جامعة جنوب كاليفورنيا إلى منظمة غير ربحية أُسّست عام 1998 سميت (ICANN) التي تولّت إدارة توزيع عناوين الإنترنت وتعاقدت معها وزارة التجارة الأمريكية لتبنّي وظيفة الآيانا وهكذا انتقلت أيضًا وظيفة الأيانا من مظلة وزارة الدفاع الأمريكية إلى منظمة غير ربحية.

الإصلاحات السابقة لم تكن خطوة كافية لإسكات المجتمع الدولي المعارض، لأن وظيفة الأيانا بقيت تحت وصاية وزارة التجارة الأمريكية. وفي العام 2005 أعلن كوفي عنان، الأمين العام للأمم المتحدة، عن نتائج دراسة لمجموعة سمّيت «فريق عمل حوكمة الإنترنت» تكوّنت من ممثلي أربعين حكومة، والتي كان من بينها توصية بانتقال (ICANN) لتصبح تحت مظلة الأمم المتحدة من خلال الاتحاد الدولي للاتصالات، الذي تمثّله الحكومات فقط. اعترض على هذه التوصية عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي، الذين رأوا فيها تسليمًا للإنترنت لمؤسّسة “بيروقراطية متهالكة” يرغب أعضائها من الدول القمعية بالسيطرة على الإنترنت.

وفي العام 2014، أي بعد صدور الكتاب بخمس سنوات، أعلنت وزارة التجارة الأمريكية تنازلها عن عشرين عامًا من الوصاية على إدارة عناوين الإنترنت وتسليم الملف بالكامل إلى ICANN.

ترافق مع خطة التسليم الآيكان خطة لإعادة هيكلتها حتى تصبح مكانًا جامعًا لكل أصحاب المصلحة في حوكمة الإنترنت من أكاديميين، وقطاع خاص وتقنيين ومستخدمين وحكومات. وكما قاوم أعضاء الكونغرس الأمريكي مقترح كوفي عنان، تمّت مقاومة تسريح الآيكان، لأن بعض أعضاء الكونغرس وجدوا في هذا التسريح تخليًا عن سلطة الولايات المتحدة المكتسبة على الإنترنت.

ختامًا

«سياسة توزيع العناوين» ليس إلا فصلًا واحدًا من فصول الكتاب. تشير دينارديس في فصول أخرى إلى نقاط مهمة جدًا في هذا الصراع، ومنها أخلاقيات آلية تطوير البروتوكولات التي تحكم الشبكة بأجمعها. وفي فصول أخرى تعرض أسباب تأخر الشبكة في تبني (IPv6) رغم استماتة حكومات اليابان والصين وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي عام 2000 من أجل هذا التبني لوجود فرصة اقتصادية لتفكيك هيمنة الولايات المتحدة على سوق الإنترنت.

ربما يكون من المآخذ على الكتاب هو أن سردية تاريخ شبكة الإنترنت فيه مقتصرة على الولايات المتحدة، واعتبار نواتها مشروع وزارة الدفاع الأمريكية، وهي السردية السائدة التي لا تتبّع تطور شبكات الاتصالات الداخلية المتفرقة التي تواجدت في بلدان أخرى. هذه السردية تقرن عولمة الشبكة وانتقالها إلى أجزاء أخرى من العالم فقط عبر تطوير وتبني مؤسسات أمريكية لبروتوكولات أساسية لنقل البيانات دون أن تفسّر شرعية أن تكون هذه المؤسسات المصمّمة لتقنيات الشبكة أمريكية منذ البداية، وكأن علينا أن نسلّم بأنه لم تكن هناك شبكات عالمية صغيرة غير متصلة إلّا في الولايات المتحدة.

«سياسة البروتوكولات» يشكل مرجعًا تاريخيًا مهمًّا لكل من يريد أن يفهم الاعتبارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تطور بروتوكولات الإنترنت ونمو اقتصاد الدول. الجميل أيضًا بأن الكتاب قد يكون مدخلك لفهم كيفية عمل الشبكة، إذ لا تحتاج لأن تكون تقنيًا حتى تفهم المصطلحات التي تستخدمها الكاتبة لأنها تبسّط المفاهيم التقنية باستخدام لغة سلسة وواضحة وتشبيهات مساعدة. قد يكون العائق الوحيد في النفاذ إلى الكتاب أنه متوفر باللغة الإنجليزية فقط، وهو عائق ينطبق على كثير من الكتب التي تتناول سياسات الشبكة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية