السيطرة على الإعلام الإلكتروني في الأردن: رقابة أم سيادة القانون؟

الإثنين 20 نيسان 2015

عام 2012، عندما نُشرت على الإنترنت لوحة فنية تصوّر رئيس جمهورية جنوب أفريقيا، جاكوب زوما، مرتديًا زيًا سوفيتيًا يُظهر أعضاءه التناسلية، لم يضع مؤيدوه وقتًا للمطالبة بمسحها من الفضاء الإلكتروني. حينها، قال الرئيس إن اللوحة «تسعى للتشكيك بشخصيتي في عيون رفاقي المواطنين وعائلتي وأولادي.. وللتعبير عن رسالة مفادها إنني أسيء استخدام السلطة وفاسد وفاقد للكفاءة سياسيًا» وأضاف أنه مصدوم و«شعر بالإساءة والانتهاك الشخصي».

وبعد إصدار قرار رسمي أوّلي بأن اللوحة ليست ملائمة للمشاهدة من قبل الأطفال ويجب إزالتها من الإنترنت، قررت السلطات أخيرًا أن نشر الصورة في الإنترنت هو عمل قانوني بالفعل. وفي السنة ذاتها، أقرت المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا بأن الرقابة الإلكترونية على مواد كهذه هي قيد غير دستوري على حرية التعبير.

هذه قصة تأتي من دولة نامية ذات تاريخ حديث على درجة شديدة من العنف المؤسسي، وليس من يوتوبيا إسكندنافية تَعتبر أن التمتع بخط إنترنت عريض النطاق هو أحد حقوق الإنسان، ما يجعل مقارنتها مع حرية الإعلام الإلكتروني في الأردن أمرًا محبطًا للغاية.

عام 2012 – وبعد جهد إعلامي متضافر لتصوير الإنترنت على أنه منطقة سائبة تُرتكب فيها الجرائم دون محاسبة ودون أن تكون الدولة قادرة على حماية الضحايا – قررت الحكومة الأردنية أن تطبق قانون المطبوعات والنشر على فضاء الإنترنت، فأقدمت على حجب مئات المواقع التي لم تلتزم بالمتطلبات المرهقة لهذا القانون.

جميعنا يعلم أن المساحات التي تنعدم فيها سيادة القانون في الأردن ليست بالقليلة. من منطقة «اللبّن» التي لا وجود فيها للأجهزة الأمنية ويديرها تجار المخدرات وعصابات سرقة السيارات، إلى مدينة معان التي امتنعت الدولة عن تزويدها بشرطة مرور بعد سلسلة من الاشتباكات المسلحة بينها وبين المواطنين، إلى البرلمان الأردني الذي يشهد جدالًا بين مشرّعين يلفهم ضباب مسرطن من دخان السجائر، مخالفين بذلك قانون الصحة العامة دون محاسبة. لذا، فمِن اللافت أن يكون هناك فضاء واحد بالذات تُصر الحكومة على إبقائه تحت سيطرة تشريعات صارمة: الإنترنت.

الشرط الأشهر في قانون المطبوعات والنشر هو إرغام المواقع الإخبارية على الترخيص، وإلّا تعرّضت للحجب من قبل مقدمي خدمات الإنترنت كخطوة أولى قبل أن يتمَّ اتخاذ إجراءات قانونية لإغلاق الموقع نهائيًا. لكن هذا ليس سوى جزء من صورة أكبر وأكثر تعقيدًا، فوفقًا لقانون المطبوعات والنشر، يتمتع مدير هيئة الإعلام بصلاحية تحديد المواقع الإلكترونية التي تُعتبر «مواقع إخبارية». ولا يقيّده في تحديده هذا سوى فهمه للقانون المبهم الذي ينص على أن المواقع الإخبارية هي تلك التي «تنشر الأخبار والتحقيقات والمقالات والتعليقات ذات العلاقة بالشؤون الداخلية أو الخارجية للمملكة».

ولا تقف المتطلبات عند إرغام المواقع الإخبارية على تعيين رئيس تحرير متفرغ ومنتسب لنقابة الصحفيين منذ أربع سنوات على الأقل، بل إن العضوية في النقابة ليست مضمونة، فهناك عدد كبير من الصحفيين العاملين في الأردن لا تنطبق عليهم متطلبات العضوية.

الترخيص أو الفوضى: الخيار الوحيد؟

تريد الحكومة إقناعنا بأن ترخيص المواقع الإخبارية من خلال قانون المطبوعات والنشر أمر ضروري لتطبيق القوانين الأردنية على الإعلام الإلكتروني. ومن الجدير ذكره أن مواقع الإعلام الاجتماعي –مثل فيسبوك وتويتر– لا تزال مستثناة من هذا القانون، لكن الدولة حكمت رغم ذلك على أمين عام جبهة العمل الإسلامي، زكي بني ارشيد، بالحبس لمدة ثلاث سنوات لأنه نشر تعليقًا على فيسبوك انتقد فيه الإمارات العربية المتحدة، قبل أن يُخفّض الحكم إلى 18 شهرًا. وقد تمت محاكمة بني ارشيد وفقًا لأحكام قانون العقوبات وليس قانون المطبوعات والنشر.

بوجود الترخيص أو عدمه، من الواضح أن القيود العديدة على حرية التعبير في الأردن تنطبق على فضاء الإنترنت، بما فيها مجموعة ما يسمى بـ«جرائم الرأي» التي ينص عليها قانون العقوبات والتي تضم العبارات التي تهين «الشعور الديني» أو المخلة «للآداب العامة» وحتى التي تهين «دولة أجنبية أو جيشها، أو علمها أو شعارها الوطني».

إذًا، ما هو الدافع الحقيقي لفرض الترخيص على المواقع الإخبارية؟ صحيح أن الأردن ليست الدولة الوحيدة التي تُرغم الإعلام الإلكتروني على الترخيص، وأن عددًا من الأنظمة السلطوية – كالصين مثلًا – تفعل ذلك أيضًا، لكن الكثير من الدول تعتبر أن ترخيص الإعلام هو نوع من الرقابة، ولهذا لا تشترط على المنظمات الإعلامية سوى التسجيل فقط عند السلطات المعنية، وهذه عملية لا علاقة لها بمنح الموافقة أو رفضها.

وفقًا للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فإن ممارسة حجب شامل على مواقع إلكترونية معيّنة (كالمعمول به وفق نظام الترخيص في الأردن) هو انتهاك لمبادئ حرية التعبير الدولية. فإذا نظرنا لقضية «وكالة سرايا الإخبارية» الأخيرة، نجد أن نشر بضع مقالات (اعتُبرت غير قانونية) أدى إلى حجب الموقع بأكمله، بما فيه مئات من المقالات القانونية تمامًا في أرشيف الموقع. لم يلعب قانون المطبوعات والنشر أي دور في محاكمة ناشر «وكالة سرايا الإخبارية» وحَجب موقعه، إذ تمت محاكمته وفقًا لإحكام قانون مكافحة الإرهاب.

أمثلة زكي بني ارشيد و«وكالة سرايا الإخبارية» توضح أن قانون المطبوعات والنشر ليس ضروريًا لضبط المحتوى غير القانوني في الإنترنت. لكن هذا القانون يضع عوائق أمام تأسيس المواقع الإخبارية من خلال رفع كلفة تأسيسها وعملها، ومن خلال «فلترة» الأشخاص المسموح لهم بالعمل في هذا المجال ربطًا بشروط عضوية نقابة الصحفيين. إذًا، فإن عملية الترخيص عبارة عن آلية للرقابة المسبقة على المواد الإعلامية قبل أن ترى النور أساسًا.

من الأرجنتين إلى جنوب أفريقيا: عالم من الاحتمالات

في دراسة أجرتها «حبر» مؤخرًا حول الإعلام وقوانين الإنترنت في الأرجنتين والبرازيل وفنلندا وجنوب أفريقيا، تم عرض أمثلة لأنظمة قانونية تحمي ضد الأخطار التي قد يشكلها المحتوى غير القانوني على الإنترنت (مثل التشهير والتحريض على العنف وانتهاكات الخصوصية الشخصية) دون فرض قيود غير ضرورية تخنق وسائل الإعلام الإلكتروني. ولا تفرض أي من هذه الدول الأربعة الترخيص على المواقع الإلكترونية.

في عام 2014، أقرت البرازيل قانونًا مبتكرًا يحمل اسم «ماركو سيفيل دا إنترنت» (إطار الحقوق المدنية للإنترنت) ينظم استخدام الإنترنت في البلاد. ويؤكد هذا القانون على أهمية حرية التعبير والحق في ممارسة المواطنة من خلال وسائل الإعلام الرقمية، كما يصف إمكانية الوصول إلى الإنترنت بأنه «أساسي لممارسة المواطنة». إضافة إلى ذلك، فإن هذا القانون يحدد بشكل مفصّل المبادئ والضمانات والحقوق والواجبات لمستخدمي الإنترنت وكذلك المبادئ التوجيهية لدور الدولة في هذا المجال. فبموجب هذا القانون تكون المحاكم هي المسؤولة عن إصدار أوامر بإزالة المحتوى غير القانوني، ويجب على الأحكام القانونية في هذا الشأن أن تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الجماعية للمجتمع في توافر هذا المحتوى في الإنترنت. فإذا قررت المحكمة أن تأمر بإزالة مادة غير قانونية ما، يحق لناشر المادة أن ينشر مكانها نبذة تفسيرية عن إزالة المادة أو نص الأمر القضائي لإزالة المادة. الاستثناء الوحيد لهذا هو الحالات المتعلقة بالمحتوى الشخصي «الجنسي» أو الذي يحتوي على عري. في مثل هذه الحالات، يجب على المواقع و/أو مقدمي خدمة الانترنت الاستجابة فورًا لأي طلب إزالة للمحتوى من قبل صاحب العلاقة.

وكما هو الحال في العديد من البلدان، لا يحمّل القانون البرازيلي المواقع الإلكترونية مسؤولية المحتوى الذي ينشره مستخدمو الإنترنت (كالتعليقات على المقالات) إلّا إذا رفض الموقع الامتثال لأمر قضائي بإزالة التعليق من الموقع.

أما في فنلندا، فيُنظم الإعلام الإلكتروني من خلال قانون «حرية التعبير في الإعلام» والذي ينطبق على جميع وسائل الإعلام. فوفقًا لهذا القانون، يحق للمحاكم –في حال تحريك شكوى- أن تأمر المواقع أو مقدمي خدمة الإنترنت بتزويد الدولة بالمعلومات المطلوبة لتحديد هوية أي مستخدم إنترنت مجهول إن كان قد نشر ما يستدعي الاعتقاد بأنه محتوى غير قانوني، ويجب على المشتكي تقديم طلب لتحديد هوية المُستخدم المجهول في غضون ثلاثة أشهر من تاريخ نشر المحتوى. في فنلندا، يجوز للمحكمة أيضًا أن تأمر مَنْ نَشَرَ أو بَثَّ محتوى وُجد أنه غير قانوني بإزالته أو تأمر مقدمي خدمة الإنترنت بحجبه.

في عام 2008، تم استخدام هذا القانون لتحديد هوية ومحاكمة المُدوّن الفنلندي اليميني المتطرف «سيبو ليتو» والذي نشر عددًا من المدوّنات المجهولة التي ادعت أن عددًا من الشخصيات الفنلندية العامة مذنبة بارتكاب جرائم ملفقة وحرضت على العنف ضدهم، ونُشرت فيها صور إباحية تم التلاعب بها من خلال وضع وجوه هذه الشخصيات عليها. أدى قرار المحكمة في هذه القضية إلى حجب أكثر من أربعين صفحة إلكترونية. ولكون «ليتو» مجرمًا ذو أسبقيات مشابهة، حكم عليه بالسجن عن هذه الجرائم بينما حكم على شريكه (المدان لأول مرة) بالسجن مع وقف التنفيذ.

يتطلب القانون الفنلندي أيضًا أن يكون للمنشورات الصحفية (سواء أكانت منشورة في الإنترنت أم لا) محرر مسؤول أمام القانون عن محتواها. ولكن، وبعكس المتطلبات الأردنية المرهقة، لا يطلب القانون الفنلندي إلّا أن يكون سن المحرر 15 سنة على الأقل، ويتمتع بالأهلية العقلية القانونية، وغير محكوم بالإفلاس.

الأيديولوجيا والسيطرة على الإنترنت

تنظيم الإعلام الإلكتروني ليست قضية تكنوقراطية في المقام الأول، بل هو قضية أيديولوجية. ليست مصادفة أن الدساتير في كل من الدول الأربعة التي شملتها دراسة حبر تحتوي على ضمانات قانونية قوية لحرية التعبير، فيي حين يورد الدستور الأردني ما ينص على حرية التعبير في الوقت الذي يسمح نفس الدستور لقوانين الدولة أن تقيّد هذه الحرية بأية طريقة تراها مناسبة.

الحماية الدستورية لحرية التعبير ضرورية للصحفيين، والمدوّنين، وحتى لمستخدمي وسائل الإعلام الاجتماعية إن كانوا يريدون حماية أنفسهم من المشرّعين المتحمسين كثيرًا. ففي جنوب أفريقيا، على سبيل المثال، صدر قانون في عام 2009 يسمح لهيئة الأفلام والمطبوعات تصنيف المواد الإباحية وتلك التي تحرض على العنف. وفقًا لهذا القانون، كان يتم إزالة أي محتوى جنسي أو عنيف صنف على أنه غير مناسب للأطفال من الإنترنت حيث يمكنهم الوصول إليه بسهولة. تلك هي الهيئة نفسها التي صنفت لوحة رئيس جنوب افريقيا جاكوب زوما المذكورة سابقًا، على أنها إباحية. وبعد أن تم إصدار قرار أوّلي بأن اللوحة ليست مناسبة للأطفال ويجب إزالتها من الإنترنت، أبطلت الهيئة هذا القرار لاحقًا. والأهم من ذلك صدور قرار من المحكمة الدستورية في جنوب أفريقيا في ذات العام يفيد بأن السلطة المنوطة بالهيئة لفرض الرقابة بهذه الطريقة هي قيد غير دستوري على حرية التعبير، فتم تغيير القانون.

نحو إنترنت أكثر حرية في الأردن؟

ليس هناك شك أن القوانين الأردنية التي تنظم الإعلام في الإنترنت تتجاوز ما هو ضروري للسيطرة على المحتوى غير القانوني. نماذج مختلفة من التنظيم القانوني من جميع أنحاء العالم ترينا أن السيطرة على المحتوى الإلكتروني غير القانوني ممكن دون خنق الإعلام. ولكن إلى أن تتوفر إرادة سياسية حقيقية تبغي حماية حريات الإعلام والتعبير في الإنترنت، لن نتخلص من هذه القوانين الإعلامية القمعية.

* يستند هذا المقال إلى دراسة بعنوان «تعزيز حرية الإعلام الإلكتروني في الأردن: دروس دولية نحو تنظيم تقدمي للإنترنت»، شملت إلى جانب البحث المنهاج التدريبي الموجود أدناه. جميع هذه المواد هي مشاع عام ومتاحة للاستخدام والتطوير.

تعتمد هذه المادة التدريبية على دور المتدرب، وتحفّز المتدربين على التفاعل مع المحتوى والمدرب ومع بعضهم البعض من خلال التمارين والمناقشات الجماعية. المخرجات التعليمية للمادة هي: توعية المتدربين حول الجدال الدولي الدائر حول حرية التعبير، وخصوصاً كما يتعلق في الإنترنت، توضيح كيفية إضعاف الإعلام الإلكتروني في الأردن من خلال آلية ترخيص المواقع الإلكترونية، توعية المتدربين حول منظومات تقدمية مختلفة في تنظيم الإعلام الإلكتروني، وتوضيح الآليات التي تمكّن هذه المنظومات من الحفاظ على حرية التعبير بنفس الوقت التي توفر فية الحماية من التجاوزات التي قد تنتج عن انفتاح الإنترنت.

  1. تعزيز حرية الإعلام الالكتروني في الأردن

    هذه الورقة البحثية تقدم نظرة عامة لتوّجه الأردن السلطوي بما يتعلق في تنظيم الإعلام الإلكتروني، وتقارنه مع أمثلة أكثر تقدميةRead More

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية