داعش تعزز وجودها

باتريك كوكبورن،  ترجمة لينا عجيلات

(نشر هذا المقال بالانجليزية في مجلة The London Review of Books في ١ أغسطس/آب ٢٠١٤)

في الوقت الذي تركّز فيه اهتمام العالم على أوكرانيا وغزة، استولت الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على ثلث سوريا لتضيفه إلى ربع العراق الذي كانت قد استولت عليه في حزيران. حدود الخلافة الجديدة التي أعلنت عنها داعش في ٢٩ حزيران تتوسع يومياً وتغطي الآن مساحة أكبر من بريطانيا العظمى، ويسكنها أكثر من ستة ملايين شخص – أكثر من تعداد سكان الدنمارك أو فنلندا أو إيرلندا. في غضون أسابيع قليلة من القتال في سوريا، نجحت داعش في فرض نفسها كقوة مسيطرة في المعارضة السورية، وأزاحت التنظيم التابع رسمياً للقاعدة، جبهة النصرة، من محافظة دير الزور الغنية بالنفط وأعدمت قائدها المحلي أثناء محاولته الهرب.

في شمال سوريا، يستخدم قرابة خمسة آلاف من مقاتلي داعش دبابات ومدفعية تم الاستيلاء عليها من الجيش العراقي في الموصل لمحاصرة نصف مليون كردي في معقلهم في كوباني على الحدود التركية. في وسط سوريا قرب تدمر، قاتلت داعش الجيش السوري في اجتياحها لحقل غاز الشاعر، أحد أكبر حقول الغاز في البلاد، في هجوم مباغت خلّف ما يقدّر بثلاثمئة قتيل من الجنود والمدنيين. نجحت الهجمات المضادة المتكررة من قبل الحكومة أخيراً في استعادة حقل الغاز لكن داعش ما زالت تسيطر على غالبية إنتاج سوريا من النفط والغاز. قد تكون دولة الخلافة فقيرة ومعزولة لكن آبار النفط التي تملكها والطرق الحيوية التي تسيطر عليها تؤمّن لها مصدر دخل ثابت، إضافة إلى ما تنهبه من الحرب.

الدبلوماسيون والسياسيون يميلون إلى التعامل مع داعش كما لو كانت جماعة من البدو الغزاة التي تظهر بشكل درامي من الصحراء وتحقق انتصارات باهرة ومن ثم تتراجع إلى معاقلها تاركة الوضع الراهن دون تغيير يذكر.

ولادة هذه الدولة الجديدة هو أكبر تغيير على الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط منذ تطبيق اتفاقية سايكس-بيكو بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. لكن الغريب أن هذا التحول الهائل لم يولّد سوى القليل من الإنذار دولياً وحتى في أوساط أولئك في العراق وسوريا ممن ليسوا بعد تحت حكم داعش. الدبلوماسيون والسياسيون يميلون إلى التعامل مع داعش كما لو كانت جماعة من البدو الغزاة التي تظهر بشكل درامي من الصحراء وتحقق انتصارات باهرة ومن ثم تتراجع إلى معاقلها تاركة الوضع الراهن دون تغيير يذكر. يمكن تصوّر هذا السيناريو، لكن احتماليته في تضاؤل مستمر مع إحكام داعش لقبضتها على فتوحاتها الجديدة في منطقة يمكن أن تمتد قريباً من إيران إلى البحر المتوسط.

السرعة والفجائية التي صعدت بها داعش تجعل من السهل على قادة الغرب والمنطقة أن يأملوا بأن يكون سقوطها وانهيار الخلافة بنفس السرعة والفجائية. لكن جميع الأدلة تشير إلى أن هذا تفكير حالم وأن التطورات تسير في الاتجاه المعاكس، حيث يزداد ضعف أعداء داعش ويصبحون أقل قدرة على المقاومة: في العراق، لا يبدي الجيش أي ظواهر للتعافي من هزائمه السابقة، وقد فشل في إطلاق أي هجوم مضاد ناجح. في سوريا، تعاني جماعات المعارضة الأخرى، بما في ذلك المقاتلين المتمرسين من جبهة النصرة وأحرار الشام، من التفكك وتدني الروح المعنوية وهم محشورون بين داعش ونظام الأسد.

كارين كوننغ أبوزيد، عضو لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا، تقول أن انشقاق الثوار السوريين وانضمامهم لداعش في ازدياد: “يرون أنها أفضل، إنهم [داعش] أكثر قوة ويكسبون المعارك ويستولون على المناطق ويملكون المال ويمكن أن يدربونا.” هذه أنباء سيئة للنظام السوري الذي بالكاد نجح في صد عدوان في ٢٠١٢ و٢٠١٣ من ثوار أقل تدريباً وتنظيماً وتسليحاً من داعش. سيواجه النظام صعوبات حقيقية في إيقاف قوات دولة الخلافة من التقدّم غرباً.

في بغداد كان هنالك صدمة ورعب في العاشر من حزيران عندما سقطت الموصل وأدرك الناس أن الشاحنات التي تحمل مقاتلي داعش كانت فقط على بعد ساعة منهم. لكن بدلاً من مهاجمة بغداد، استحوذت داعش على معظم محافظة الأنبار السنية الممتدة عبر جانبي الفرات في غرب العراق. في بغداد، التي يشكل الشيعة غالبية سكانها السبعة ملايين، يعلم الناس ما يمكن أن يتوقعوه لو سقطت المدينة بيد قوّات داعش المعادية للشيعة حد القتل، لكنهم يستمدون الأمل من أن تلك الكارثة لم تحصل بعد. “لقد خفنا من المصيبة العسكرية في البداية لكننا نحن البغداديون معتادون على الأزمات طيلة السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة،” تقول امرأة من بغداد. حتى مع داعش على أبواب المدينة، استمر السياسيون العراقيون بممارسة الألاعيب السياسية وهم يتحركون ببطء نحو استبدال رئيس الوزراء الفاقد للمصداقية، نوري المالكي.

“إنه حقاً سيريالي،” قال وزير عراقي سابق. “عندما تتحدث مع أي قائد سياسي في بغداد يتحدثون كما لو أنهم لم يخسروا للتو نصف البلاد.” انضم متطوعون إلى جبهة القتال بعد فتوى من آية الله العظمى علي السيستاني، الإمام الشيعي الأكثر نفوذاً في العراق. لكن هؤلاء المقاتلين الآن يعودون إلى بيوتهم، متذمرين من أنهم كادوا يموتون جوعاً وأجبروا على استخدام أسلحتهم وشراء ذخيرتهم الخاصة. الهجوم المضاد الوحيد واسع النطاق الذي قام به الجيش النظامي والميليشيا الشيعية حديثة التكوين كان غزوة كارثية في تكريت يوم ١٥ تموز، تعرضت لكمين وهزمت مع خسائر كبيرة. لا يوجد ما يشير أن الخلل الوظيفي الكبير في الجيش العراقي قد تغير. “كانوا يستخدمون مروحية واحدة لحماية القوّات في تكريت،” يقول وزير سابق، “أتساءل ماذا حدث للمائة وأربعين مروحية التي اشترتها الدولة العراقية في السنوات الأخيرة؟”

يقول رجل الأعمال “اشتكيت مراراً حول هذا الموضوع للحكومة في بغداد، لكنها لم تفعل أي شيء سوى القول أن بإمكاني إضافة المبلغ الذي دفعته للقاعدة إلى قيمة العقد.”

الأموال التي خصصت للمائة وتسع وثلاثين مروحية المختفية في الغالب قد سرقت. هنالك دول أخرى في العالم فاسدة تماماً لكن القليل منها لديه عوائد نفطية تبلغ مائة مليار دولار في السنة لينهبوا منها. الهدف الوحيد للكثير من المسؤولين كان الحصول على أكبر رشوة ممكنة، ولم يهتموا كثيراً إذا ما فعلت الجماعات الجهادية نفس الشيء. التقيت برجل أعمال تركي في بغداد قال بأنه كان لديه عقد مقاولات كبير في الموصل في السنوات الأخيرة. الأمير المحلّي أو قائد داعش، التي كانت تعرف في ذلك الوقت بتنظيم القاعدة في العراق، طلب نصف مليون دولار في الشهر لحماية أموال الشركة. ويقول رجل الأعمال “اشتكيت مراراً حول هذا الموضوع للحكومة في بغداد، لكنها لم تفعل أي شيء سوى القول أن بإمكاني إضافة المبلغ الذي دفعته للقاعدة إلى قيمة العقد.” قتل الأمير بعد ذلك بفترة قليلة وطلب خليفته أن يرفع مبلغ الحماية إلى مليون دولار في الشهر. رفض رجل الأعمال دفع هذا المبلغ وتعرض أحد موظفيه العراقيين للقتل، فقام بسحب موظفيه الأتراك ومعداته إلى تركيا. “بعد ذلك وصلتني رسالة من القاعدة مفادها أن السعر نزل مجدداً إلى نصف مليون دولار وأن بإمكاني العودة،” بحسب قوله. كان هذا قبل استيلاء داعش على المدينة.

في مواجهة هذه الإخفاقات، فإن الغالبية الشيعية في العراق تجد عزاءها في قناعتين يمكن، لو صدقتا، أن تعنيا أن الوضع الحالي ليس بالخطورة التي يبدو عليها. يجادلون بأن سنّة العراق قد ثاروا، وأن مقاتلي داعش ليسوا إلا القوّات الصادمة أو حماة الثورة التي قامت ضد سياسات وإجراءات المالكي الظالمة للسنّة. عندما يتم استبدال المالكي، وهو أمر متوقع، ستقدم بغداد للسنة اتفاقاً جديداً للتشارك بالسلطة مع حكم ذاتي إقليمي شبيه بالأكراد. عندها فإن القبائل السنية والضباط السابقين والبعثيين الذين سمحوا لداعش بتصدّر الثورة السنية سينقلبون على حلفائهم الشرسين. على الرغم من جميع المؤشرات عكس ذلك، فإن الشيعة على كافة المستويات مقتنعون بهذه الأسطورة، أن داعش ضعيفة ويمكن أن يستغني عنها السنة المعتدلون بعد أن يحققوا أهدافهم. أحد الشيعة قال لي: “أتساءل إن كان لداعش وجود فعلاً.”

للأسف، داعش ليست موجودة فحسب بل هي منظمة فعّالة لا تعرف الرحمة وليس لديها أي نيّة لانتظار خيانة حلفائها السنة لها. في الموصل، طالبت بأن يُقسِم جميع مقاتلي المعارضة بالولاء للخليفة أو يسلمّوا أسلحتهم. في نهاية حزيران وبداية تموز اعتقلت داعش ما بين ١٥ إلى ٢٠ ضابط سابق من حقبة صدّام حسين، من ضمنهم اثنين برتبة لواء. وأمرت الجماعات التي كانت ترفع صور صدّام بإزالتها أو مواجهة العواقب. بحسب أيمن التميمي، الخبير في الجهاديين، “من غير المحتمل أن تتمكن بقية المعارضة المسلحة السنيّة من الانقلاب على داعش بنجاح. إذا كان هذا ممكناً فينبغي أن يتحركوا بسرعة قبل أن تصبح داعش قويّة جداً.” ويشير إلى أن الجناح الذي يفترض أنه أكثر اعتدالاً في المعارضة السنية لم يفعل شيئاً لمنع خروج بقايا مسيحيي الموصل بالقوّة بعد أن أخبرتهم داعش أن عليهم اعتناق الإسلام أو دفع ضريبة خاصة أو التعرض للقتل. أفراد الطوائف الأخرى أو الجماعات الإثنية الذين يتم رفضهم لأنهم شيعة أو مشركون يتم ملاحقتهم وسجنهم أو قتلهم. إن اللحظة التي يمكن فيها للمعارضة من غير داعش أن تتحدّى هذا الوضع تفوت.

يقدم شيعة العراق تفسيراً آخر للطريقة التي تفتت بها جيشهم: أنه طعن من الخلف من قبل الأكراد. في محاولته لتحويل اللوم عن نفسه، يدّعي المالكي أن إربيل، العاصمة الكردية، “هي مركز لداعش والبعثيين والقاعدة والإرهابيين.” الكثير من الشيعة يعتقدون ذلك، وهذا يمكنهم من الإحساس أن قواتهم الأمنية (البالغ تعدادها ٣٥٠ ألف جندي و٦٥٠ ألف شرطي) فشلت لأنها تعرضت للخيانة وليس لأنها لم تحارب.

أحد العراقيين قال لي بأنه كان على مائدة إفطار خلال رمضان “مع مئة من المهنيين الشيعة، معظمهم أطباء ومهندسون، وجميعهم أخذوا نظرية الطعن من الخلف أمراً مسلمّاً به لتفسير الخلل الذي حصل.” المواجهة مع الأكراد مهمة لأنها تجعل من المستحيل خلق جبهة موحدة ضد داعش. القائد الكردي مسعود برزاني استغل هرب الجيش العراقي ليفرض سيطرته على جميع المناطق التي كان العرب والأكراد يتنازعون عليها منذ عام ٢٠٠٣، ومن ضمنها مدينة كركوك. لديه الآن حدود مشتركة مع دولة الخلافة تمتد ٦٠٠ ميلاً، وهو حليف مهم لبغداد، حيث يشكل الأكراد جزءاً من الحكومة.

بمحاولته تقديم الأكراد ككبش فداء فإن المالكي يضمن أن الشيعة لن يجدوا حلفاء في مواجهتهم مع داعش إذا واصلت الأخيرة هجومها باتجاه بغداد. تفاجأت داعش وحلفاؤها السنة بالضعف العسكري لحكومة بغداد. ومن غير الوارد أن يرضوا بمجرد الحكم الذاتي الإقليمي للمحافظات السنية مع حصة أكبر من الوظائف وعائدات النفط. انتفاضتهم قد تحولت إلى ثورة مضادة كاملة تهدف لاستعادة السيطرة على العراق بأكمله.

في الوقت الراهن يوجد في بغداد أجواء حرب مزيفة شبيهة بأجواء لندن وباريس في أواخر عام ١٩٣٩ وبدايات ١٩٤٠، لأسباب مشابهة. كان الناس خائفين من معركة وشيكة للسيطرة على العاصمة بعد سقوط الموصل، لكنها لم تحصل بعد، والمتفائلون يأملون ألا تحدث أبداً. الحياة أصبحت أكثر إزعاجاً من قبل، إذ في بعض الأيام لا تصل الكهرباء إلا أربع ساعات في اليوم، لكن على الأقل لم تصل الحرب إلى قلب المدينة بعد.

مع ذلك، فإن شكلاً من أشكال العدوان العسكري المباشر أو غير المباشر سوف يحصل على الأغلب في اللحظة التي تحكم فيها داعش سيطرتها على المناطق التي استولت عليها: داعش ترى أن انتصاراتها ملهمة إلهياً، وتؤمن بقتل أو طرد الشيعة بدلاً من التفاوض معهم، كما أظهرت في الموصل. بعض القياديين الشيعيين قد يظنون أن الولايات المتحدة أو إيران ستتدخل في أي لحظة لإنقاذ بغداد، لكن كلتا القوّتين تظهران تردداً في الدخول في المستنقع العراقي لدعم حكومة مختلّة.

قادة الشيعة في العراق لم يواجهوا حقيقة أن هيمنتهم على الدولة العراقية، والتي نتجت عن إطاحة الولايات المتحدة بصدّام حسين، قد انتهت، وأن كل ما تبقى لهم هو جزء شيعي ضئيل عديم الأهمية. انتهت سيطرتهم بسبب عدم كفاءتهم وفسادهم، ولأن الثورة السنية في سوريا عام ٢٠١١ زعزعت توازن القوى الطائفي في العراق. بعد ثلاثة سنوات، الانتصار السني الذي تقوده داعش في العراق يهدد بكسر الجمود العسكري في سوريا.

كان الأسد يهاجم ببطء ضد مقاومة ضعيفة: في دمشق وضواحيها، وفي جبال القلمون بمحاذاة الحدود اللبنانية، وفي حمص، تقدّمت قوات النظام ببطء وباتت قريبة من الإحاطة تماماً بمعقل الثوار في حلب. لكن وجود قوّات الأسد المقاتلة على الأرض ضئيل بشكل ملحوظ، وهي بحاجة لتفادي خسائر كبيرة ولا تستطيع أن تقاتل إلا على جبهة واحدة في آن. تكتيك الحكومة هو تدمير المنطقة التي يسيطر عليها المتمردون بنيران المدفعية والقنابل البرميلية التي يتم إلقاؤها من المروحيات، وإجبار معظم السكان على الفرار، ومن ثم عزل المنطقة التي تكون قد أصبحت بحراً من الأطلال، وفي نهاية المطاف إجبار المتمردين على الاستسلام. لكن وصول عدد كبير من مقاتلي داعش المسلّحين جيداً والخارجين للتو من انتصارات حديثة سيشكل تهديداً جديداً وخطيراً على الأسد، فقد اجتاحوا قوتين حاميتين مهمّتين من الجيش السوري شرق البلاد في أواخر تمّوز. وقد ظهر خطأ نظرية المؤامرة المفضّلة لدى بقية المعارضة السورية والدبلوماسيين الغربيين بأن هنالك تواطؤ بين داعش ونظام الأسد.

تتظاهر الولايات المتحدة وحلفاؤها بأنهم يعززون “قوة ثالثة” من المعارضين السوريين المعتدلين لتقاتل كلاً من داعش والأسد، لكن في السر يعترف دبلوماسيون غربيون أن هذه المجموعة لا وجود لها إلا في بضعة جيوب محاصرة.

داعش قد تفضل التقدم في حلب على بغداد: لأنها هدف أسهل وأقل احتمالاً لاستفزاز الرأي العام العالمي. هذا سيضع الغرب وحلفاءه الإقليميين – السعودية وقطر وتركيا – في مأزق: سياستهم الرسمية هي إسقاط الأسد، لكن داعش هي الآن ثاني أكبر قوة عسكرية في سوريا، وإذا سقط الأسد، ستكون داعش في موقع جيد لملء الفراغ الذي سيتركه. الولايات المتحدة وحلفاؤها، أسوة بقادة الشيعة في العراق، استجابوا لصعود داعش بالغرق في الأوهام. يتظاهرون بأنهم يعززون “قوة ثالثة” من المعارضين السوريين المعتدلين لتقاتل كلاً من داعش والأسد، لكن في السر يعترف دبلوماسيون غربيون أن هذه المجموعة لا وجود لها إلا في بضعة جيوب محاصرة. أيمن التميمي يؤكد أن هذه المعارضة المدعومة من الغرب “تزداد ضعفاً،” وهو مقتنع أن تزويدها بالمزيد من الأسلحة لن يحدث أي فرق يذكر. الأردن، وبضغط من الولايات المتحدة والسعودية من المفترض أن يكون قاعدة انطلاق لهذه المغامرة الخطرة، لكنه يصاب بالخوف من هذا الالتزام. “الأردن خائف من داعش،” بحسب مسؤول أردني في عمّان، يضيف أن “معظم الأردنيين يريدون أن يكسب الأسد المعركة.” ويقول أن وضع الأردن صعب تحت وطأة التكيف مع عدد هائل من اللاجئين السوريين، “ما يعادل انتقال جميع سكان المكسيك إلى الولايات المتحدة في سنة واحدة،” حسب قوله.

*

آباء التبني لداعش والحركات السنية الجهادية الأخرى في العراق وسوريا هم السعودية وأنظمة الخليج الملكية وتركيا. هذا لا يعني أن الجهاديين لم يكن لديهم جذور محلية قوية، لكن صعودهم كان مدعوماً بشكل مهم من قبل قوى سنية خارجية. الدعم السعودي والقطري كان بالأساس دعماً مادياً، عادة من خلال تبرعات خاصة، يقول رتشارد ديرلوف، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية البريطانية، بأنها لعبت دوراً محورياً في استيلاء داعش على المحافظات السنية في شمال العراق: “هذه الأمور لا تحدث بعفوية.” في كلمة ألقاها في لندن في شهر تموز، قال ديرلوف أن سياسة السعودية تجاه الجهاديين لديها دافعين متناقضين: الخوف من أن يعمل الجهاديون داخل السعودية، والرغبة باستخدامهم ضد القوى الشيعية في الخارج. وأضاف أن السعوديين “منجذبون بعمق تجاه أي عمل عسكري يمكن أن يتحدى الشيعية بفاعلية.” من غير المحتمل أن يكون المجتمع السني في العراق بأكمله قد اصطف وراء داعش بدون الدعم المباشر أو غير المباشر الذي أعطته السعودية للعديد من الحركات السنية. الأمر ذاته ينطبق في سوريا، حيث أن الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي السابق في واشنطن ومدير المخابرات السعودية منذ ٢٠١٢ وحتى شباط ٢٠١٤، كان يقوم بكل ما بوسعه لدعم المعارضة الجهادية، إلى أن تمت إقالته. الآن، وبعد أن بدأ السعوديون يخافون مما ساعدوا على صنعه، أصبحوا يتحركون في الاتجاه المعاكس ويعتقلون المتطوعين الجهاديين الذين يتوجهون إلى سوريا والعراق بدلاً من غض النظر عنهم. لكن ربما يكون الأوان قد فات. الجهاديون السعوديون لا يكنّون الحب لآل سعود. في ٢٣ تموز أطلقت داعش هجوماً على أحد آخر معاقل النظام السوري في محافظة الرقة الشمالية. بدأت بهجوم انتحاري بسيارة مفخخة، كان يقودها سعودي اسمه خطاب النجدي وضع على نوافذ السيارة صوراً لثلاث نساء معتقلات في السجون السعودية، إحداهن ابنة أخته، هيلة القصير.

كان دور تركيا مختلفاً لكنه لا يقل أهمية عن دور السعودية في دعم داعش والجماعات الجهادية الأخرى.

كان دور تركيا مختلفاً لكنه لا يقل أهمية عن دور السعودية في دعم داعش والجماعات الجهادية الأخرى. أهم ما فعلته تركيا كان إبقاء حدودها مع سوريا، والبالغ طولها ٥١٠ أميال، مفتوحة. أعطى هذا داعش والنصرة وجماعات المعارضة الأخرى قاعدة خلفية آمنة لتُدخِل عبرها الأسلحة والرجال. كانت المنافذ الحدودية أكثر الأماكن المتنازع عليها بين الثوار في “حربهم الأهلية داخل الحرب الأهلية.” أغلب الجهاديين الأجانب مرّوا بتركيا في طريقهم إلى سوريا والعراق. من الصعب الوصول إلى أرقام دقيقة، لكن وزارة الداخلية المغربية صرّحت مؤخراً أن ١١٢٢ جهادي مغربي دخلوا سوريا، بينهم ٩٠٠ ذهبوا عام ٢٠١٣، قتل منهم مئتان. يشتبه الأمن العراقي أن الاستخبارات العسكرية التركية ربما كانت متورطة بعمق في دعم داعش عندما كانت تعيد تشكيل نفسها في عام ٢٠١١. تشير التقارير من الحدود التركية أن داعش أصبحت غير مرحب بها، لكن مع الأسلحة التي استولت عليها من الجيش العراقي وسيطرتها على حقول النفط والغاز السورية، فهي لم تعد بحاجة للكثير من الدعم الخارجي.

بالنسبة للولايات المتحدة وبريطانيا والقوى الغربية، فإن صعود داعش ودولة الخلافة هو الكارثة الكبرى. أياً كان هدفهم من غزو العراق عام ٢٠٠٣، وجهودهم للتخلص من الأسد في سوريا منذ عام ٢٠١١، فإنه لم يكن إنشاء دولة جهادية تمتد عبر شمال العراق وسوريا، تقودها حركة أكبر بمئات المرات وأفضل تنظيماً بكثير من تنظيم القاعدة التابع لأسامة بن لادن. الحرب على الإرهاب، والتي نتج عنها قمع للحريات المدنية وإنفاق مليارات الدولارات، فشلت فشلاً ذريعاً. القناعة بأن داعش مهتمة فقط بنزاع “المسلمين ضد المسلمين” هي حالة أخرى من التفكير الحالم: لقد أظهرت داعش أنها ستقاتل أيّ شخص لا يتبع نسختهاالمتزمتة والمتعصبة والعنيفة من الإسلام. وتختلف داعش عن القاعدة بأنها مؤسسة عسكرية تعمل بشكل منظم وتختار أهدافها واللحظة المناسبة لمهاجمتهم بعناية فائقة.

يأمل الكثيرون في بغداد أن ينفر السنّة من تجاوزات داعش، كتفجير المساجد التي تعتبرها أضرحة مثل ضريح النبي يونس في الموصل. على المدى الطويل قد يحصل هذا، لكن الوقوف في وجه داعش أمر خطر جداً، وبالرغم من كل وحشيتها، فقد جلبت داعش انتصاراً للمجتمع السني العراقي الذي يعاني من الهزيمة والاضطهاد. حتى سنّة الموصل الذين لا يحبون داعش يخافون من عودة حكومة عراقية انتقامية يسيطر عليها الشيعة. حتى الآن كان رد بغداد على الهزيمة التي تعرضت لها هو قصف الموصل وتكريت بشكل عشوائي، بشكل لا يترك مجالاً للشك لدى أهالي المدينتين أن الحكومة لا تكترث لرعايتهم أو بقائهم على قيد الحياة. هذا الخوف لن يتغير حتى لو تم استبدال المالكي برئيس وزراء أكثر ميلاً للمصالحة. كتب لي أحد السنة في الموصل مباشرة بعد أن انفجر في المدينة صاروخ أطلقته قوات الحكومة، وقال: “هدمت قوات المالكي جامعة تكريت. أصبحت ركاماً وفوضى مثل بقية المدينة. إذا وصل المالكي إلينا في الموصل سوف يقتل أهلها أو يحولهم إلى لاجئين. صلِّ من أجلنا.” وجهات النظر هذه شائعة، وتقلل من احتمالية وقوف السنة في وجه داعش ودولة الخلافة التي أسستها. لقد ولدت دولة جديدة ومرعبة.

Lina:
Related Post