جرح لبنان المفتوح: المفقودون بعد 40 عامًا على الحرب الأهلية

داليا خميسي

يقال أن المفقودين ليسوا أحياءً ولا أموات. لا بد أنهم يطفون في عالم أوسط، منتظرين أن يُكشف عن مصيرهم.

كان عمري سبع سنوات عام 1981 حين خرج والدي من البيت ذات صباح ولم يعد في المساء. كانت إحدى المليشيات قد احتجزته في بيروت، لتفرج عنده بعد ثلاثة أيام.

بعد عدة سنوات، أدركت أنه كان أكثر حظًا من غيره. في لبنان ما يقدّر بـ17,000 مفقود ما تزال عائلاتهم تنتظر عودتهم. اختفوا جميعًا خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975 و1990، وما يزال مصيرهم مجهولًا. لهؤلاء خلفيات مختلفة من حيث الدين/الطائفة والجنس والعمر والاصطفاف السياسي، وقد اختطفوا أو قُتلوا على يد مليشيات لبنانية مختلفة، أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو سوريا، أو إسرائيل، أو حلفائهم.

بعد 15 عامًا من الحرب الأهلية التي انتهت بحصيلة تقدر بـ144,000 قتيلًا و184,000 جريحًا، صدر عام 1991 عفو عام لم يغفر لكل من شارك في الحرب فحسب، بل أعفاهم كذلك من واجب تقديم شهاداتهم ونشر المعلومات التي يحوزونها، والتي قد تحوي تفاصيل عن مصير المفقودين.

لجنة التحقيق التي شكلتها الحكومة اللبنانية عام 2000 تحت ضغط أهالي المفقودين حاولت بالفعل فحص عدد من المقابر الجماعية، لكنها خلُصت إلى أنها لا تستطيع التأكد من هويات المدفونين فيها. تقرير اللجنة نص كذلك على أنه ليس بين المفقودين من هو على قيد الحياة في لبنان. أحد الاستنتاجات القاتمة للتقرير نصح كذلك باعتبار كل من كان مفقودًا لأكثر من أربع سنوات ميتًا.

منذ عام 2009، بدأت العمل على سرد قصص عائلات المفقودين والمخطوفين في لبنان، كإحدى أفظع الجرائم في القانون الدولي وإحدى أكثر القضايا غير المحلولة إلحاحًا في لبنان. ففيما كان المجتمع بأسره يحاول إكمال حياته، ما يزال آلاف الناس يعانون لمعرفة مصير أحبائهم ويرفضون أن يضعوا الحرب وراء ظهورهم.

 

حذاء في مبنى مهجور استخدم كمركز اعتقال خلال الحرب في بحمدون، شرق بيروت. في هذا المبنى، بعد شهرين على اختطاف وجيه زحلان عام 1982، عُثر على كومة من جوازات السفر لأشخاص اختطفتهم إحدى المليشيات اللبنانية، وكان من بينهم جواز وجيه. أيمن زحلان، ابنه الذي كان عمره 8 سنوات عندما اختطف والده، دخل المبنى في كانون الثاني عام 2014 لأول مرة منذ الاختطاف. كان يبحث عن كتابة على أحد الجدران، على أمل أن يجد رسالة من والده، لكنه لم يجد شيئًا.

حليمة اللداوي (أم رشيد) تشاهد التلفاز في بيتها في طرابلس، شمال لبنان. فوق رأسها تتدلى صورة رشيد الذي خرج في 10 نيسان 1976 لشراء السجائر ولم يعد قط. كان عمره 15 سنة. بحثت أمه عنه في لبنان كله، دون أن تسمع عنه شيئًا. تقول إن قلبها يقول لها أنه ما زال حيًا.

أم أحمد تحمل صورة ابنها أحمد وهي جالسة على أحد الأسرة في خيمة اعتصام أهالي المفقودين وضحايا الاختفاء القسري وسط بيروت. أحمد اختطف بالقوة عام 1986 من منزله حيث كان يسكن مع زوجته وابنه الصغير. بحثت عنه أمه في لبنان وسوريا ولم تجد شيئًا. كان عمره 21 عامًا، ولم يعرف أن زوجته كانت حاملًا بطفله الثاني عند اختطافه.

ماري منصوراتي تحمل صورة ابنها دانيال  وهي جالسة على أحد الأسرة في خيمة اعتصام أهالي المفقودين وضحايا الاختفاء القسري وسط بيروت. دانيال اختطف بالقوة عام 1983 فيما كان يقود سيارته في أحد شوارع دمشق مع أخيه خلال زيارة لأحد أقاربه هناك، ولم يُرى منذ ذلك اليوم.

ماري غاوي تنظر إلى صورة ابنها جورج الذي كان عمره 22 عامًا حين اختُطف في 30 كانون الأول 1983، وهو في طريقه إلى اجتماع عمل في بيروت الغربية. كان ابنها الوحيد، والأخ لابنتيها. بحثت عنه في كل مكان لكنها لم تجده، ليظل مصيره مجهولًا حتى الآن. يوم التقاط الصورة، وضعت ماري صورته إلى جانب أزهارها المفضلة التي أهداها إياها حفيدها في عيد الأم. قبل بضعة سنوات، فيما كانت ماري تستمع إلى أحد المعتقلين المفرج عنهم من سجن سوري وهو يسرد أساليب تعذيب المعتقلين، أصيبت بجلطة تركتها تعاني من صعوبة في النطق. تقول إنها تخيلت ابنها يُعذّب بتلك الطريقة.

صورة جورج غاوي على سرير في غرفة نوم بسريرين في الشقة التي تسكنها أمه ماري في شمال بيروت. حين دخلتُ غرفتها، كانت الصورة على السرير. تقول ماري إنها تنام على السرير الآخر وتظل تنادي على ابنها، متسائلة إذا ما كان حيًا وسالمًا.

عايدة تجلس في غرفة معيشتها إلى جانب صورة لزوجها كمال جدع الذي أوقِف على حاجز في 19 آب 1985 وهو يقود سيارته عائدًا إلى بيته ومعه ابن أخيه سمعان. اختطف كلاهما ولم يريا مجددًا وما زال مصيرهما مجهولًا. سمعان، المتطوع في الصليب الأحمر اللبناني، كان قد انتهى لتوه من نقل ضحايا تفجير في بيروت.

أم عزيز الديراوي تجلس في غرفة معيشتها تحت صور أبنائها الأربعة في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في أحد ضواحي بيروت. في أيلول عام 1982، طرق مسلحون باب عائلة الديراوي بينما كانوا يتناولون فطورهم معًا، واختطفوا بالقوة أبناء أم عزيز الأربعة: عزيز وإبراهيم ومنصور وأحمد. ليس بعيدًا من بيتهم، كانت مجزرة صبرا وشاتيلا ترتكب. لم تر أم عزيز أيًا منهم ثانية وما زال مصيرهم غير معروف.

قميص عزيز الوردي، الذي كان كان عمره 31 سنة حين اختطف من منزله مع إخوته الثلاثة. تستذكر أم عزيز أنها حاولت إعطاءه قميصه وهو في شاحنة خاطفيه، لكن المسلحين صعدوا إلى الحافلة وركلوه أمام أمه.

حقيبة أحمد المدرسية، أصغر أبناء أم عزيز، الذي كان عمره 13 سنة حين اختطف من منزله مع إخوته الثلاثة.

علبة السجائر الخاصة بعزيز. كالعديد من عائلات المفقودين، احتفظت أم عزيز ببعض ممتلكات أبنائها كتذكارات، على أمل أن يعودوا يومًا ويجدوها محفوظة. أشياء كعلبة سجائر ومعجون أسنان أصبحت أغلى ممتلكاتها.

صورة لأبناء أم عزيز الأربعة على طاولة في بيتها في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في أحد ضواحي بيروت.

ماغي أندريوتي تجلس في غرفة معيشتها تحت صورة لابنها سترافو. في أحد أيام تموز عام 1978، خرج سترافو الذي كان عمره 17 عامًا مع بعض أصدقائه من الحي في جولة بالسيارة. لم يعد المراهقون إلى منازلهم تلك الليلة. ماغي فقدت ثلاثة أولاد في الحرب الأهلية بين عامي 1975 و1990: سترافو الذي اختطف ولم يعرف مصيره حتى اليوم، وابنها الأوسط، 9 سنوات، الذي قتل بقصف منزلهم في السبعينات، وابنها الأصغر الذي كان عمره سنة حين اختنق من دخان الملجأ الذي اختبأوا فيه من القصف. مات الرضيع بين يديها وظنّت أنه نائم فحسب. قبل بضعة سنوات، توفي زوجها أيضًا، لتعيش وحيدة مع ذكرياتها. أكثر ما تتحدث ماغي عنه الآن هو سترافو. فقد حدّت على ابنيها الآخرين وعلى زوجها، لكنها لا تزال تأمل أن يعود سترافو يومًا.

 

دعاء علي:
Related Post