نوَّرت القاهرة

الأحد 08 تشرين الثاني 2009

Cairo at Night


بقلم يارا شعبان

“تفضَّلي من هِنا يا ست الستات”، “نعم يا افندم؟”، “ما تنسيش حاجتك في العربية”، “استني هِنا يا أستاذة”. يتسلل شعور غامض بالألفة، وأقول في مخِّي: زي الأفلام بالزبط!

أحاول أن ألصق وجهي على نافذة الأُتوبيس، وأستنشق ملامح الصور المنعكسة على النيل. مفهوم ال(couples) المصري يختلف عن مفهومنا المطبوع على جبهات “حرّاس” المولات والأماكن “الترفيهية” الأخرى في بعض أيام الأسبوع.

دعوني أوضح لكم:

ست وراجل ماسكين بِئْدين بعض وفي بعض الأحيان كَمَّن عيّل يركضوا هنا وهناك. وأيضاً فتاة و شب برضو ماسكين بِئْدين بعض. وقد يُزيّن حبهم العلني حاجة سأعة و كرسيين من البلاستيك. وهكذا، بدون تصنع وبدون خوف وبكثير من العفوية يتكلل المشهد، ويتكرر على طول “السكة”.

أحاول أن تلتقي نظراتنا، يبتسم الراجل دائماً ومرات تبتسم الست (الحق علي طبعاً، كنت ببص ع الرجالة أكتر) وفي الإبتسامة محبة وبراءة وكرم تلدغ فضولي الجاد، لأبتسم من “الدان للدان” وأشعر أني نوَّرت القاهرة حقاً بابتسامتي.

من الماريوت لخان الخليلي ومن خان الخليلي للماريوت

فقر موجع ووقح يتدلّى من الشرفات ويجتاح عينيك بالرغم عنك وبالرغم عن أنف الجميع، وإن كان البعض يحاول إخفاءه بين القبور وبتكديس الناس في عمارات من الطوب لها شبه أساسات وتعطيك شبه الإحساس بالأمان.

تجتازنا سيارة Hummer)) ويسألني السائق إذا كان يتراءى لنا في عمان مثل هذه السيارة. أقول له: “دالهمر سيارة الشعب الأردني. إحنا صرنا نلاقي Bentley)). عندنا خير كتير بس ما حدا عارف من وين!”.

إن لم يصدق أو لم يفهم ما قلت، فهذا ما لست أعلمه، لكني شبه متأكدة أنه كان يراجع تفاصيل مخفية وهو يقول لي ولنفسه: “اللي عنده همر يدوس ع الشعب كله”.

وصلنا الخان. عالم خارج عن إرادة هذا العالم. لو دانتي كان مصري (مع مراجعة تفاصيل الخلفيات الدينية والزمنية والعقائدية! ) لاستوحى كوميديته الإلهية من هذا الشارع أو ذاك، من ساحة المسجد الحسيني أو قرب قهوة الفيشاوي، أو حتى من نظرات البائعين التي تستبيح كونك سائحاً لتغرقك بوابل من الأسباب لشرائك أوالإحتجاجات لعدم شرائك أي شيء.

جلست في القهوة وطلبت “قنينة مي”، وتحسباً لجميع عمليات التسمم غير المقصودة أسأل إذا كانت “القنينة مسكرة” بلهجتي العامية وتدفقت لحظة استغراب على وجه مضيفي : “يافندم دي المية عادية، مينيرال واتر مو مسكرة” وأتدارك الموقف عقلياً وأقول “قصدي مقفولة” وكما اتضح لي فمسكرة معناها عليها سكر.

الحج السياحي للمتحف والأهرامات

تعانق أوراق البردى وزهر اللوتس كاميرات تصوير السائحين عند مدخل المتحف، وفي الداخل تجتمع جميع اللألسنة والوجوه واللهجات في لحظة اندهاش واحدة، أو للدقة لحظات اندهاش متتالية، بحيث لو سمعت ما يقال بصمت لعلمت أنك سقطت سهواً في لحظة من التاريخ تنتظم فيها انفعالات الشهيق والزفير. موجات من الحضارة تصتدم بدون استئذان بجميع الحواس التي وصلت حد الإشباع. مهارة وحرفية وجمال وعبقرية أخجل من تقصيري في وصفها.

وفي خضم معركة شخصية بحتة، فأنت في بعض الأحيان لا تستطيع إلا أن تقاتل – ولو معنوياً- من أجل حقك في مشاهدة رفاهية توت عنخ آمون، وتكرار اصتداماتي الجسدية بدليلتي السياحية، أحاول الإعتذار منها بتنبيهها بأني “رح أضربها كتير” ضحكت من كل قلبها وقالت: “قصدك تقولي أخبط، لأنه أضرب معناها رح أنزل فيكي ضرب”. بيني وبين حالي أقول: “كله عندنا واحد”.

لن أصف الأهرامات (الله يخليلنا google) ولن أشارككم بوصف جميع اللقطات المحرجة التي احتفظت بها الكاميرا بخبث وأنا “بمسك الهرم من ايدي أو من بقي أو وأنا مركّية عليه” بالرغم من اعتراضي الصريح على مثل هذه السخافات السواحية. لكن لا أستطيع منعزلة أن أقاوم أوامر الدليل الذي أوكل نفسه دليلا وشاركني بخبرة خمسة وعشرين سنة في التقاط مثل هذه الصور. مغامرتي التصويرية هذه كلفتني خمسة جنيهات غير محسوبة لكن الصور ستكلفني على الأقل ابتسامة وضحكة كل مرة أُحرج بالنظر إليهم.

الخاتمة!

“لا تنسانا بكرمك يا باشا”، “ضلك تذكر حبايبك”، “عاوز خدمة يا بيه؟”

لم تتملكني الجرأة من رفض ايحاءات “البخششة” وإن كانت تشتد أو تخفت حسب موقعك الجغرافي وشهامتك “الأدبية”. لكن الحق يقال أنك لن تستطيع إلا أن تحاسب نفسك سواء رضيت أم لم ترضى؛ فأنت تعلم –ولوكان متأخراً- أن الإعتماد على “المُرتب” لن يكفي لإشباع رغبة فطرية في العيش. وأنت تعلم –بل وأصبحت تعلم-أن الفجوات التي تتدفق أو تنحسر منها الدنانير –حسب وجهة نظرك الشخصية- كثيرة. وحيث أني قررت أن أتمادى فكرياً، وأحسب مقدار ما يذهب قرباناً لخدمة انترنت غير كاملة، أو ثمن فناجين القهوة التي أحب احتساءها مضافاً إليه أجرة عداد التاكسي ذهاباً وإياباً، فأنا وضعت نفسي في موضع مسؤولية، لا عن قراراتي المادية فحسب، بل عن إطلاق حكمي في قبول أو رفض أو استباحة أو تحريم هذه الظاهرة.

مصر يا أم الدنيا! بالرغم من جميع الصفات العربية المتخلفة المتوارثة جراء تلاحق خيبات الأمل. وبالرغم من عدم الدقة في المواعيد ربما من خشيتنا من الإلتزام بها، وبالرغم من إجهار فهمنا في كل شيء ربما من خوفنا من جملة لا أعلم. وبالرغم من الجوع والفقر والملوخية بالأرانب ومن النيل والتاريخ و٦ اكتوبر ودار الأحمدي ومكتبة مدبولي وفيفي عبده وعمر دياب وانعدام الأمل وولادة الأمل في البقعة ذاتها. أنا “برضك” أتكلم عربي، وبفهم وبسمع وبرقص وبقرأ وبحلم و بحب السيما وأريد حلاً و نوّرتوا كلكم مصر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية